ثانوية الحرية ..ثكنة الفتيات التي أنجبت النخبة و طوّعت البكالوريا على ربوة كدية عاتي بقسنطينة تترّبع ثانوية عرفت لعقود بأنها الأكبر في إفريقيا، و الصرح التعليمي الشامخ الذي يتبادر اسمه للذهن بمجرّد الحديث عن الانضباط في مجال التدريس أو التفوّق في شهادة البكالوريا، هي ثانوية الحرية المشيّدة سنة 1952 تحت اسم مكتشف طفيل الملاريا و الحائز على جائزة نوبل في الطب عام 1907 الدكتور لافران. روبورتاج : مريم بحشاشي ثانوية لافران التي حملت اسم الحرية عام 1963تيمنا بالاستقلال، اشتهرت بموقعها الاستراتيجي و شساعة بنايتها الفخمة التي تزيد مساحتها عن 11300متر مربع، لم تستغل منها حسب مديرة المؤسسة سوى 5000متر مربع، كانت محل إعجاب و تأمل الزوار الذين يحمل الفضول أكثرهم لاكتشاف ما تخفيه وراء أسوارها و جدرانها العالية و شكلها المعماري المستوحى من الكاتدرائيات، حيث ذكر الفنان أحمد بن يحيى بأن الثانوية تم بناؤها من قبل مؤسسة أمريكية في نهاية أربعينيات القرن الماضي، على شكل معبد تعليمي مغلق من الخارج مفتوح على الداخل الذي يميّزه تعدد أعمدته العالية و أسقفه المرتفعة جدا و نوافذه الزجاجية العملاقة التي تتسرّب من خلالها أشعة الشمس و الضوء من كل جانب. منحوتة بتوقيع والد الكوميدي العالمي جون بول بلموندو عند ولوج بهو مؤسسة الحرية من مدخلها الرئيسي ببابه الخشبي العملاق كمنفذ لحصن تاريخي يلفت انتباه الزائر تمثال في صورة امرأة تحمل توقيع النحات الفرنسي المولود بضواحي العاصمة بول بلموندو( 1898 – 1982)، والد الكوميدي الفرنسي العالمي جون بول بلموندو، إلى جانب خزائن تزينها طيور محنطة و بعض التحف التقليدية التي اشتهرت بها قسنطينة من صناعات حرفية. قبل ولوج جناح حجرات التدريس الثلاثين الموزعة على الطوابق الأربعة و التي لا زالت تحافظ على شكلها القديم رغم بعض التغييرات التي طرأت على بعضها بعد عملية الترميم التي خضعت لها المؤسسة و لا زالت مستمرة منذ حوالي خمس سنوات و إلى يومنا هذا، سيّما على مستوى مخابرها الثمانية، التي تم تحويل بعض مخابرها الخاصة بالعلوم الفيزيائية والطبيعة و الحياة إلى مخبر للإعلام الآلي و الميكانيك، فيما اختفى مخبر اللغات الذي أعربت مديرة المؤسسة عن رغبتها في استعادة هذا الفضاء التعليمي الهام، غير أن الأجهزة التعليمية الهندسية و الفيزيائية و العلمية من أجهزة قياس تقليدية و هزاز و مجهر و ميزان و غيرها من الأدوات القديمة التي تزيّن الخزانات الحائطية ببعض هذه المخابر و التي تحوّلت إلى شبه تحف تاريخية تليق بالمتاحف. معاجم يزيد عمرها عن القرن و تمساح محنط يسرق الأضواء لا يمكن ولوج ثانوية الحرية دون زيارة مكتبتها الثرية بالمعاجم و المجلدات التاريخية التي يزيد عمرها عن القرن و التي قالت عنها مسؤولة المكتبة قانا حفيزة، بأن حوالي 4000 منها تعود للحقبة الاستعمارية و أغلبها باللغة الفرنسية و اللاتينية، مضيفة بأنه تم تحويل عدد من تلك المجلدات إلى المتحف منذ أكثر من ست سنوات، و تضاعف رصيد المكتبة من المؤلفات في مختلف التخصصات إلى 13ألف مؤلف، موضوعة في متناول التلميذات و الأساتذة و الباحثين أيضا. المكتبة و إن طرأ عليها بعض التغيير من حيث الديكور و اختفاء لوحات تحمل عادة توقيع الطالبات الموهوبات في فن الرسم، كما لم تحتفظ بحيواناتها المحنطة ما عدا التمساح الذي لا زال قابعا فوق إحدى خزانات الكتب العشرين التي تزخر بها المكتبة الواسعة التي احتضنت عديد التظاهرات الفكرية في السابق، وكانت ملتقى التلميذات الطموحات و المتفوّقات، تماما كقاعة الرياضة التي اختفت منها التجهيزات الرياضية الكلاسيكية التي كانت يتوّفر عليها فضاء الجمباز و الرقص، كما تقلصت مساحة الملعب في الفناء الشاسع الذي استغل جزء منه كحظيرة لركن سيارات الأساتذة و موظفي مديرية التربية، و مع ذلك لم يفقد أهميته و مكانته كفضاء رياضي سجل عديد التظاهرات و المنافسات الرياضية المدرسية. الحديث عن الفضاء الرياضي يقودنا للفناء الذي لا زالت تزّينه أشجار النارنج و ظلها الوارف و مقاعده التي طالما خزنت من أسرار و ذكريات الفتيات الشيء الكثير، خاصة التلميذات الداخليات اللائي كن تتنافسن للفوز بمقعد خلال ساعات الفراغ، سواء للمراجعة تحت ضوء القمر أو تجاذب أطراف الحديث قبل الصعود إلى حجرات النوم، علما و أن ثانوية الحرية كانت قبلة طالبات العلم من كل أنحاء الوطن خاصة من الشرق. و قد شهدت المؤسسة في الثمانينات نسبة استقبال قياسية وصلت إلى نحو 1800تلميذة و هو ما يعكس تعطش الجزائريات للتعليم، تقول مديرة المؤسسة، موضحة بأن عدد مهم من المتمدرسات كن مقيمات أو نصف مقيمات يأتين من مختلف ولايات الشرق، أما اليوم و بعد اختفاء النظام الداخلي أصبحت المؤسسة تحصي ما بين 650و 750تلميذة، و قد تقلّص العدد هذه السنة إلى 565 بسبب ترحيل عدد كبير من الأسر نحو المدينة الجديدة علي منجلي. التجوّل بين أجنحة البنايات الأربعة لثانوية الحرية يجعلك تشعر بحميمية المكان و تدرك بأنه فضاء بني خصيصا لاستقبال طلبة مضطرين للمكوث و الإقامة به طيلة فترة الدراسة و لا يمكنهم مغادرته قبل العطل، و من المرافق التي لم تفقد خصوصيتها القديمة، المطعم المرّتب بطريقة أنيقة أناقة المدرسات المتخصصات في تعليم اللباقة و اللياقة للفتيات المقيمات، و تدريبهن على فن الإيتيكيت، حيث تذكرت بعض الطالبات السابقات، يومياتهن مع الطهاة الذين كانوا يتفنون في إعداد وجبات الغذاء و العشاء لهن و بشكل خاص الطاهي المتقاعد محمد فاطيط الذي كان يحضر وجبات لأكثر من 600شخص يوميا دون تعب أو تذمر. و اليوم أيضا لا زالت طاقة الاستيعاب مرتفعة رغم اختفاء النظام الداخلي، حيث يستقبل المطعم يوميا 540تلميذة من فئة النظام نصف الداخلي. فتيات رقصة "يا الصالح"يعدن أمجاد الثانوية إلى الواجهة كما تتوفر الحرية على قاعة مسرح من الطراز العالي، و إن تغيّر لون ستائرها الحمراء التي أصبحت زرقاء، فضلا عن نوعية مقاعدها، لكن لا زالت أرجاؤها تحتفظ بذكريات عروض و حفلات متميّزة سيّما رقصة "يا الصالح" التي أعادها الفنان الراحل نورالدين سطايفي التي اشتهرت بها فتيات الحرية في بداية الثمانينات و بقيت راسخة في الذاكرة لبراعة و مهارة الأداء التي تحلت بها المجموعة التي اشتهرت عناصرها بعد تحقيق الفيديو نسبة مشاهدة عالية، و أعدن أمجاد الثانوية إلى الواجهة، مع استمرار تداول الفيديو حتى اليوم. و ليس هذا فحسب بل شهدت قاعة المسرح تظاهرات فكرية و ثقافية مهمة منها مسابقة بين الثانويات و حفلات أحياها نجوم الطرب العربي من كل من لبنان، مصر و المغرب. مرتبة أولى في البكالوريا لتسع سنوات و تعرف الثانوية طلبا كبيرا للالتحاق بها لسمعتها الممتازة، خاصة و أنها تصدرت قائمة المؤسسات التربوية المحققة للريادة على قوائم الناجحين في شهادة البكالوريا و هذا لتاسع سنة على التوالي، حيث تفوّقت على المستوى الوطني و جاءت في المراتب الثلاثة الأولى لأربع سنوات تباعا منها المرتبة الثانية على المستوى الوطني عام 1997 بنسبة نجاح قدرت ب 97.5بالمائة ، كما كانت الأولى لخمس مرات على المستوى الولائي. و مكتب المديرة مرّصع بلوحات الشهادات التقديرية التي لا تعد و لا تحصى بفضل تفاني أستاذتها و الأسرة العاملة بها و كذا حماس التلميذات في الحفاظ على الصدارة و الاستمرار في التفوّق، سيّما في شعبة العلوم التجريبية و إن كانت تلميذات شعبة الرياضيات قد تفوّقن السنة الماضية على زميلاتهن بباقي الشعب. و يذكر أن ثانوية الحرية حاولت خوض تجربة الاختلاط و إدماج الذكور كباقي المؤسسات التربوية، غير أن التجربة باءت بالفشل و استعادت الحرية خصوصيتها كمؤسسة تربوية خاصة بالعنصر اللطيف. حرائر الجزائر مررن من هنا أسماء كثيرة لحرائر جزائريات نجحن في التفوّق و فرض أسمائهن كإطارات عالية في مختلف المجالات و القطاعات، فمنهن من تقلدن مناصب سامية و منهن من حققن الشهرة و التميّز في مجالات عديدة كالطب و المحاماة و الإعلام و الفن و من بين الأسماء البارزة نذكر على سبيل المثال لا الحصر الفنانة و أستاذة علم الاجتماع "حورية عيشي" و محافظة المتحف الوطني للفنون الجميلة بالعاصمة مليكة بوعبد الله و الباحثة و المؤرخة فاطمة الزهراء قشي و غيرهن كثيرات صنعن فخر ثانوية عرفت مرور أساتذة من مختلف الجنسيات سيما المصريين و السوريين و العراقيين و الهنود و الكنديين و أيضا الفرنسيين.