ارتفاع حصيلة العدوان الصهيوني على لبنان إلى 3583 شهيدا و 15244 مصابا    هولندا ستعتقل المدعو نتنياهو تنفيذا لقرار المحكمة الجنائية الدولية    الرابطة الأولى موبيليس: شباب قسنطينة يفوز على اتحاد الجزائر (1-0) ويعتلي الصدارة    ضرورة تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في الآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء وتكثيف الدعم لها لضمان تحقيق أهدافها    ندوة علمية بالعاصمة حول أهمية الخبرة العلمية في مكافحة الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الجزائر ترحب "أيما ترحيب" بإصدار محكمة الجنايات الدولية لمذكرتي اعتقال في حق مسؤولين في الكيان الصهيوني    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    أدرار: إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    التسويق الإقليمي لفرص الاستثمار والقدرات المحلية    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    شايبي يتلقى رسالة دعم من المدير الرياضي لفرانكفورت    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    ماندي الأكثر مشاركة    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما مدى حاجة العرب إلى الفلسفة اليوم؟
نشر في النصر يوم 05 - 12 - 2016

مرّ منذ أيام اليوم العالمي للفلسفة ، و بالمناسبة طرحت النصر جملة من الأسئلة على مجموعة من الباحثين والمشتغلين في هذا الحقل أهمها: ما مدى حاجة العالم العربي اليوم إلى الفلسفة؟، ولماذا نظرة الإنسان العربي للفلسفة في أغلبها نظرة متعالية، منفّرة وغير مُرحبة؟، لماذا هو غير مقتنع بالخطاب الفلسفيّ، بل يُشكك فيه وفي فحواه ومحتواه، ولماذا هذه النظرة المريبة تجاه الفلسفة وأهل الفلسفة؟. يرى الدكتور بشير خليفي، أنّه عادة ما يكون الموقف من الفلسفة نِتاج ما يتم تداوله، وهو نتاج تراكمات تاريخية تتماهى بين الصعوبة، عدم الجدوى والاستغراق في التنظير على حساب الفعل، إضافة إلى مواقف دينية ذات خلفيات سياسية. في حين يرى الدكتور محمد شوقي الزين، أنّ هناك أسباب تاريخية كثيرة جعلت العربيّ ينظر للفلسفة بنظرة كلها احتقار واحتراس. وفي ذات الوقت يؤكد على أنّ الحاجة إلى الفلسفة، تمليها الرغبة في التفكير في المعيش، فهي بمنزلة الغذاء الرمزيّ والروحيّ لإنسان لم ينفك عن طرح الأسئلة الكبرى. أما الدكتور فارح مسرحي، فيؤكد من جهته أيضا على أنّ هناك عوامل عديدة مرتبطة بما يسمى بالأطر الاجتماعية للمعرفة أسهمت كلها في المنزلة الدونية التي تتموقع فيها الفلسفة نصًا وخطابا في السياق العربيّ.
استطلاع/ نوّارة لحرش
من جهته، يرى الكاتب والباحث سمير بلكفيف، أنّ الفلسفة على مستوى الثقافة العامة لا تحظى بالمكانة اللائقة، إذ يُنظر إليها على أنّها فعل مستهجن ومادة صعبة، ومُزاحِمة للدين في مسائل الألوهية والعقيدة والحقيقة، وهذا خطأ فادح، تغلغل في تاريخية الثقافة العربيّة الإسلاميّة منذ القديم. وكل هذا -حسب رأيه- يعود إلى تلك الصيرورة المفاهيمية المغلوطة عن دور وأهميّة الفلسفة في البناء الحضاريّ والإنسانيّ. مؤكدا في ذات السياق على أنّه من الواجب أن تقوم المدارس والهيئات الجامعية بعملية إعادة تهيئة الأرضية المناسبة على مستوى عقول النشء، لأنهم يأتون مزودين بأفكار خاطئة ومُضللة.
محمد شوقي الزين/ باحث و أستاذ الفلسفة بجامعة تلمسان
الفلسفة مترسّخة في شيء جوهري في الإنسان و هو التفكير
لقد راهن العديد على موت الفلسفة، وهي اليوم كما كانت بالأمس، بمعنى طريقة مُساعدة في ربط علاقة بالوجود تفكيراً وفعلاً وتأويلاً. لماذا لم تمت الفلسفة إذاً، رغم الضربات العنيفة من طرف منافسين: الدين من جهة، العِلم من جهة أخرى؟ لسبب بسيط وهو أن الفلسفة مترسّخة في شيء جوهري في الإنسان وهو التفكير. نفكر مثلما نحلم ومثلما نتنفَّس، ومعنى التفكير هو العيش وُفق الطبيعة، هو النظر في الآن، وانتظار الآتي، بما يحمله من نفحات في المعنى، وأشكال في الكينونة.
صحيح أنَّ الفلسفة خضعت مثلها مثل المعارف البشرية الأخرى إلى نظام في تقسيم العمل، فأصبحت فلسفة مدرسية أو سكولائية، تنتج مذاهب وفلاسفة، وتُدرَّس في مراكز التعليم وفي الجامعات. غير أنَّ الجوهري (l'essentiel) الذي تقوم عليه وهو التفكير، هوية الإنسان وأرضه العقلية، يجعلها في تواشُج مع المعارف الأخرى، وفي متناول كل شخص من خاصيته التفكير.
أما الحاجة إلى الفلسفة، فهي الحاجة التي تمليها الرغبة في التفكير في المعيش، في التأمُّل في القضايا الكبرى التي تمسُّ الإنسان في جوهره: السعادة، الإيمان، الحياة، العمل، العنف، الموت. يمكن أن نستعمل استعارة ساذجة، لكنها بيداغوجية في تبيان هذه الحاجة إلى الفلسفة: الفلسفة بالمقارنة مع الإنسان، كالغذاء بالمقارنة مع الجسم العضوي. فهي بمنزلة الغذاء الرمزي والروحي لإنسان لم ينفك عن طرح الأسئلة الكبرى والاستفهام حول الوقائع المدهشة. تمدُّه الفلسفة ببعض الأدوات في طرح الأسئلة الهادفة والبحث عن الأجوبة السديدة، بما يروي غليله. عندما أدركنا قيمة الفلسفة بالنسبة لما هو جوهري وأساسي في الإنسان، ألا وهو التفكير، أدركنا وقتها الحاجة للفلسفة، لأن الفلسفة إنسانية تكون أو لا تكون، من صُنع الإنسان لأجل الإنسان. ويتمُّ اليوم التفكير بجدّية لإدراجها في المدارس الابتدائية في الغرب. لقد كان هنالك العصر الذهبي لما سُمي «الأنثروبولوجيا الفلسفية» وحان الوقت لإعادة إحياء هذه الفلسفة الإنسانية أو هذه الإناسة الفلسفية التي تطرح على ذاتها قضايا ومشكلات من صُلب معيشها في أشكاله السعيدة أو الشقية. لماذا نظرة العربي للفلسفة هي نظرة احتقار واحتراس؟ لذلك أسباب تاريخية بانتصار النزوع الدغمائي الرافض لكل أشكال النظر في الدين، وكأن الفلسفة والدين عدوان لا يلتقيان، وكان ابن رشد قد أظهر بالأحرى تآزرهما المشترك من وراء الأمر «الجوهري» الذي يقوم عليه الإنسان وهو التفكير والتأمُّل. ثمة أيضاً أسباب وقائعية (سياسية واجتماعية) ذات خلفيات في السلطة والهيمنة. كلّ من يسحب البساط من تحت أمير أو سلطان، فهو في عداد «المغضوب عليه»، وحالة الفلاسفة المطرودين والمغضوب عليهم عبر التاريخ مثيرة، لأن الفلسفة، بما هي تفكير حرّ، نابع من «الجوهري» في الإنسان، فهي مضادَّة لمن يسعى للتجهيل وتطويق التفكير الحر. قد نتساءل: ما الجدوى من الفلسفة في أقاليم عربية تبحث عن ملأ البطون وإعمار الحياة بالزينة والرفاهية؟ الحديث عن الفلسفة بمنطق الذرائعية هو إهدار للأمر الجوهري والفذّ الذي تقوم عليه، ألا وهو التفكير. لا نتجادل حول دور الفلسفة في بلد فقير مثلاً حيث لا تجد البطون ما تسدُّ به جوعها. لأن هذا سؤال مزيَّف. ثمة أمَمٌ فقيرة أصبحت غنية بجعل التفكير الهادف في مصاف المنهج والرؤية الحصيفة للحياة. السؤال بالأحرى: كيف توفّر الفلسفة أدوات التفكير القادر على مغادرة الوضعية السافلة من الوجود؟ كيف تصاحب الإنسان العربي في الاشتغال على ذاته والتفكير جوهرياً في تراثه وفي سلوكه السياسي والاجتماعي؟ أي: كيف تساعده على الارتقاء إلى مصاف الرؤية الحصيفة والهادفة؟
بشير خليفي/ أستاذ محاضر و باحث أكاديمي – جامعة معسكر
الوضع العربي المزري هو نتاج غياب الفلسفة
يُتَحَدَّثُ في بعض الفضاءات عن يقظة فلسفية أو استئنافا للقول والكتابة الفلسفية، ويَتَحدَّثُ البعض الآخر عن ربيع فلسفي عربي معاصر حينما يتعلق الأمر بالتفكير والكتابة والنشاطات المعرفية. لكن هل يمكن الحديث في المجتمعات العربية عن فلسفة قائمة بذاتها بمعناها الينبغياتي الصحيح؟
لابد من الاعتراف في مقام أول بأن الوضع المزري الذي يرزح تحته العالم العربي هو نتاج غياب فلسفة رصينة تأخذ على عاتقها إحداث الوعي المفضي للتطور، لا نقصد بالفلسفة ما يتم تدريسه في الثانوية أو الجامعة فحسب، بل الأمر يتعلق بمنظومة فكرية متكاملة تستدعي شروطا ذاتية وموضوعية تستند في معظمها على أهمية العلم والمعرفة وحرية البحث، التساؤل والتفكير واتخاذ المواقف في إطار نقدي قائم على الحجة والاختلاف والاحترام المتبادل.
لا يمكن للفلسفة أو بالأحرى التفكير النقدي القائم على الحرية، الشك، الاستقلالية، المرونة، الاستدلال أن ينشأ ويترعرع في مناخات التخلف والاستبداد، يتبدّى التخلف في وضعية العلم في حين يبرز الاستبداد في صعوبة أو استحالة إبراز الرأي حينما يتعلق الأمر بمخالفة السائد. ولأن العقلانية والموضوعية ليستا نتاج الفطرة بل محصلة مسيرة لا تتخللها إلا الصعاب، فكيف يمكن للواحد أن يتمثل العقلانية أو الموضوعية بدون تدريب تتكفل به في مقام أول مؤسسات التفكير الأولى ممثلة في الأسرة والمدرسة؟ مع الإقرار بصعوبة ذلك سواء بالنسبة للأسرة في زمن سلعنة القيم وسيطرة الثقافة الاستهلاكية، وبالنسبة للمدرسة حيث يُسيطر الحفظ على التفكير والتلقين على روح المبادرة.
عادة ما يكون الموقف من الفلسفة نتاج ما يتم تداوله دون أن يعبر عن خصوصية وفرادة لتفكير شخصي، هو نتاج تراكمات تاريخية تتماهى بين الصعوبة، عدم الجدوى والاستغراق في التنظير على حساب الفعل إضافة إلى مواقف دينية ذات خلفيات سياسية على غرار القياس الشهير لابن صلاح الشهرزوري الموصلي في قوله: «الفَلسَفَةُ أُسُّ السَّفَهِ والانحِلَالِ ومَادَةُ الحِيرَةِ والضَلاَلِ ومَثَارُ الزَّيغِ وَالزَّندَقَةِ (...) وَأَمَّا المَنطِقُ فَهُوَ مَدخَلُ الفَلسَفَةِ ومَدخَلُ الشَّرِ شَرٌّ». ثم إنّ وضعية الفلسفة في العالم العربي لا تتعلق فحسب بوضعية تدريسها أو بما ينجزه المؤلفون. إنّ الأمر أعمق إذ يتعلق بوضعيتها ضمن الفضاء العام داخل الأسرة وفي الشارع حين التبضع وأثناء مشاهدة مباريات كرة القدم وحين لقاء الأصدقاء وأثناء التعارف، ومن ثمة فإن التفكير الفلسفي في نسخته النقدية هو مشروع مجتمعي بالأساس يُجسَّد من خلال أقنية التنشئة الاجتماعية ممثلة في الأسرة، المدرسة والمجتمع، وليس تنظيرا نخبويا يتم تداوله في صالونات الثقافة ثم سرعان ما يتبدد حين اليأس.
لقد أُقرِنت الفلسفة في كثير من الفضاءات العربية بالمروق والجنون وبالثرثرة، وحشر الأنف في خصوصيات الغير، كما أقرنت في الأيام الأخيرة بإضاعة الفرص حيث لا يتوانى بعض المعلقين الرياضيين بنعت اللاعب المحتفظ بالكرة والذي يؤثر المراوغة عوض التسديد ومن ثمة تسجيل الهدف بأنه يتفلسف. ولكم أن تتصوروا كيف سيكون موقف شاب أو مراهق تحديدا تعلق قلبه بكرة القدم من الفلسفة حينما يسمع بأن التفلسف سبب ضياع الأهداف...
فارح مسرحي/أستاذ و باحث أكاديمي -جامعة باتنة 1
عوامل اجتمعت لتقزيم منزلة الفلسفة في المجتمعات العربية
أعتقد أنَّ هناك العديد من العوامل التي اجتمعت لتقزيم منزلة الفلسفة في المجتمعات العربية الإسلامية، فقد اعتبرت عبر التاريخ الإسلامي لدى الدوائر النافذة في توجيه البلاد والعباد رأس العلوم الدخيلة وأس السفه وموطن الزندقة والهرطقة، وانتهى أمرها بلعنة الحرمان التي أطلقها الغزالي ضد المشائين المسلمين والتي لا تزال تطال الكثير من المشتغلين بالفلسفة إلى يوم الناس هذا، ولم تجد الفلسفة في العالم العربي الإسلامي الحظوة إلا في فترات زمنية متقطعة وغير طويلة.
وإذا تركنا الماضي جانبا وأمعنا النظر في الحاضر نجد أنّ عوامل الازدراء للخطاب الفلسفي ما فتئت تزداد وتتراكم وبقصد من قِبل المتنفذين من مختلف السلط، يكفي أن نذكر بأنّ هناك بعض الدول العربية لا تضم جامعاتها أي قسم للفلسفة!! وهذا أمر غير معقول تماما، كما أنّ الفلسفة دون غيرها من المواد الدراسية هي الوحيدة التي يتعرف عليها التلميذ في آخر المرحلة التعليمية، ويتعرف عليها بصورة مشوهة –حتى لا نقول مبتذلة- حتى أصبحت هاجس التلاميذ وأوليائهم في البكالوريا، وهذا الهاجس تحول بمرور الوقت إلى مقت وكره لكل ما هو فلسفي، من جهة أخرى فالفلسفة تعاني من المشاكل العديدة التي تتعلق بعالم الكتب من نشر وتوزيع وارتفاع أسعار الكتب مما يضعف نسبة المقروئية وبالتالي الحضور والاستثمار والاستفادة من النص الفلسفيّ.طبعا هناك عوامل عديدة مرتبطة بما يسمى بالأطر الاجتماعية للمعرفة أسهمت كلها في المنزلة الدونية التي تتموقع فيها الفلسفة نصا وخطابا في السياق العربي الإسلامي، غير أن هذا لا يعني أنّ المشتغلين بالفلسفة لا يتحملون قسطا من المسؤولية تجاه هذا الوضع، ومسؤوليتهم تكمن في عدم قدرتهم على إقناع القارئ العادي بمدى فعالية الخطاب الفلسفي، وهذا قد يكون مرده توظيف أجهزة مفاهيمية مستعصية على غير المتخصص وموغلة في التجريد، وبعيدة عن الانشغالات اليومية والمشكلات التي يرغب الإنسان العادي في إيجاد حلول فعالة وسريعة لها، كما أنّ الفلسفة هي ممارسة في العالم العربي الإسلامي لم تستطع كسب أصدقاء ومساهمين من فضاءات معرفية أخرى خاصة فضاء العلوم الدقيقة والبيولوجيا، فإذا استقرأنا التجربة الفلسفية الغربية نجد أنه في كل اللحظات الحاسمة من تاريخها كانت تطعم بمفاهيم ومناهج وتصورات علمية عبر مساهمات العلماء الفلسفية، من ديكارت إلى نيوتن إلى باشلار وتوماس كوهن إلى كانغليهم والقائمة تطول، في المقابل نعاني في الساحة العربية الإسلامية من غياب علماء بالمعنى الدقيق للكلمة وإن وجدوا فيندر أن ينفتحوا على الفضاء الفلسفي ويسهموا في تطعيمه بأفكارهم وتصوراتهم التي تشكلت ضمن فضاءاتهم البحثية الأصلية، ففي غياب الإضافات العلمية للخطاب الفلسفي العربي لن ننتظر زحزحة الفلسفة من منزلتها التي رسمها لها المستفيدون من ازدرائها وتغييبها.
سمير بلكفيف/ كاتب و باحث في الفلسفة - جامعة خنشلة
الفلسفة معركة ضدّ الخرافة وتحرّر من الوعي الشقيّ فكيف نرفضها
علينا أن نتساءل منذ البدء: كيف يمكن للفلسفة التي وُلدت إغريقيا أن تكون كونية بما فيه الكفاية؟ كيف يمكن لأسبابها السوسيو-إغريقية والمحلية أن تنتج من النتائج ومن المفاهيم ومن الآليات ما هو عالمي وكوني؟ كيف تراهن الثقافة اليوم كل الثقافة على إعادة قراءة الفلاسفة اليونان الأوائل؟، وكيف تكون الفلسفة في ذاتها مشروعا غير مكتمل لا تزال تستلهم الإغريق؟
لقد وُلِدت الفلسفة إغريقية الدلالة والمصطلح، ذلك أن الفضل يعود في معرفتنا بتاريخ ميلادها إلى كسوف حدث ذات يوم من أيام سنة 585 (ق.م)، فبينما كان الفرس والميديون يتقاتلون في ساحة المعركة في آسيا الصغرى، فجأة حلّ الظلام ونزل الليل، وإذ رفع المتحاربون أنظارهم إلى السماء، فاكتشفوا منظرا مدهشا، لقد غابت الشمس! فهل هي إشارة من الآلهة لوقف القتال؟. أوقف الجيشان الحرب وتفرقوا، والحال أن هناك شخصا قد توقّع هذا الكسوف: إنه «طاليس»، وهو عالم ومهندس ورياضي يعرف كل تلاميذ المدارس اسمه، يُروى أنه نجح في حساب ارتفاع الهرم الكبير في مصر في بضع دقائق بطريقة عبقرية، حيث قام برشق عصا في الرمل ثم قام بحساب ظلّها، فكان طول الظّل نصف طول العصا، وفي الوقت نفسه توصل إلى حساب ظلّ الهرم، ولم يكن أمامه حينئذ سوى مضاعفة طول الظلّ ليجد طول ارتفاع الهرم (جان فرانسوا دورتيي، فلسفات عصرنا، ترجمة، إبراهيم صحراوي)، وإذا كنا نفهم من هذا أن الفلسفة صناعة إغريقية بالدرجة الأولى أو هي على الأقل يونانية التنظير والتجريد، فإن نتائجها قد خدمت الإنسانية والثقافة العالمية ككل، ولا أدلّ على ذلك من المصطلحات والمفاهيم التي تحضرُ بقوة في عالم اليوم، وهي تحمل في تضاعيفها روحا يونانية خالصة وأصيلة، شأنها في ذلك شأن مصطلح «الديمقراطية» الذي يعني فيم يعنيه «حكم الشعب»، لذلك ينبغي لنا أن نتساءل في لغة استنكارية: كيف لنا أن نرفض الفلسفة وهي تمدّنا بأجهزة التقنيات والآليات لتدبير علاقة الذات بالذات، وعلاقة الذات بالآخر؟ ثم ماذا حدث في العقل العربي الإسلامي منذ زمن ليس بقصير حتى صار مخياله الاجتماعي حريصا كل الحرص على درء التفلسف؟ بل ذهب تاريخيا إلى إلصاق كل التهم (الزندقة، الكفر، الإلحاد...) بالمشتغلين عليها؟ يبدو أن المسألة أعقد بكثير مما يظن المرء، إنها اشتباك تاريخي بشخصيات الماضي، وبمواقف حدثت ولازالت تنتج الحدث، إن رهان الواقع هو تاريخي بالأساس، وهو ما يدفع الباحثين إلى ضرورة الاشتغال على الماضي، والتصالح معه، وإنصاف ضحاياه المتفلسفة، لم تنفك بعد محنة «ابن رشد» و«التوحيدي» و«الحلاج» تتكرر في كل مثقف عربيّ، ولازلت آلام الخلاص تتكرر في كل شخصية جريئة (ناصر حامد أبو زيد، محمد أركون، أدونيس، ...إلخ)، إنَّ التصالح مع التاريخ وإنصاف ما يجب إنصافه، هو شرط مهم لإنتاج عصر تنويري جديد.
يمكن أن نحصر معيقات التفلسف في الثقافة العربية الإسلامية من عدة أوجه ومستويات، تعمل إجمالا على تعطيل وتأخير فعل التفلسف، وهذه المستويات تتفاعل فيما بينها باعتبار أن الثقافة عملية تفاعلية أو هي الكل المركب، لذلك فإن تفاعلها يقود إلى ظهور مستوى آخر يتشكل هو الآخر كبنية لا شعورية تاريخية تستهجن التفلسف، فيغدو التفكير الفلسفي أمرا مرفوضا ومستهجنا بطريقة قبلية أولية، قبل حتى التقاء التمليذ بالدرس الفلسفي، وتلك المستويات يمكن أن نتطرق إليها فيما يلي:
1 -المستوى السوسيوثقافي:
إن الفلسفة على مستوى الثقافة العامة لا تحظى بالمكانة اللائقة، إذ يُنظر إليها على أنها فعل مستهجن ومادة صعبة، ناهيك على اعتبارها تزاحم الدين في مسائل الألوهية والعقيدة والحقيقة، وهذا خطأ فادح، تغلغل في تاريخية الثقافة العربيّة الإسلاميّة منذ القديم، إذ هي في حقيقة أمرها تقدم رؤى حول الوجود والإنسان، وتقترح الحقيقة ليس إلا، لذلك فإن المهمة تكون مضاعفة على مستوى المدارس والهيئات الجامعية التي يجب أن تقوم بعملية إعادة تهيئة الأرضية المناسبة على مستوى عقول النشء، لأنهم يأتون مزودين بأفكار خاطئة ومضللة.
2 -المستوى الابستمولوجي والبيداغوجي:
هو الجانب المرتبط بتعليم مادة الفلسفة، بمناهجها ودروسها، خاصة في مرحلة التعليم الثانوي، ذلك أنها أول مرحلة يباشر فيها التلميذ علاقته بمادة الفلسفة، وهنا تقع المسؤولية الكبيرة والخطرة على عاتق أستاذ مادة الفلسفة، للأسف، إننا نجد الكثير منهم لا يعطي المادة حقها الأنطولوجي، والحق الأنطولوجي هاهنا لا نقصد به الحجم الساعي أو الشرح المعرفي والمنهجي الذي غالبا ما يكون حشوا وتكرارا، وإنّما نقصد به الحق النفسيّ «الحبّ»، إنَّ كينونة الفلسفة وشرط إنوجادها هو الحبّ، أليست الفلسفة هي المادة الوحيدة التي تحمل في تضاعيف دلالتها اللغويّة والاصطلاحية كلمة «الحب» «فيلو-صوفيا» «محبة الحكمة»، لذلك ينبغي أن نتساءل على ضوء معطيات الواقع من كره واستهجان: هل قدر الحبّ هو اللاحبّ؟ يبدو أن المسألة نفسيّة أكثر منها تعليميّة، إنَّ سقراط جمع قلوب تلاميذه بعيدا عن أيّ مدرسة وجامعة، وخارج أسوار أيّ مُدرّج، ومع ذلك فإنّ العلاقة العِشقيّة بالفلسفة لها من الطقوس والشعائر ما يؤدي لا محالة إلى تحوّل الحبّ إلى احترام لقوانين الفكر والمنطق، ومن تلك الشروط النفسيّة والفكريّة ينبجس ضرب من التفكير الذاتي، إن الفلسفة -فيما يقول لوك فيري- تقوم على مبادئ ثلاثة: التفكير، البرهنة، النقد. والفكرة المركزيّة التي يدور حولها تعليم هذه المادة هي عرض الفلسفة على أنّها ضرب من التفكير أو طريقة في التفكير موجهة لمساعدة الشباب على الوصول إلى نوع من الاستقلاليّة الفكرية، وتمكينهم من الوصول إلى التفكير بأنفسهم، وهنا نتقاطع فكريا مع أهم فيلسوفين في تاريخ الفلسفة، الأول يوناني، وهو «سقراط» الذي حرصت فلسفته على إصلاح عقول الشباب وتحريرها، لذلك كانت تهمته السوسيوثقافية هي النقيض «إفساد عقول الشباب»، وأما الثاني، هو الفيلسوف الألماني «كانط»، حينما أكد أن مهمته ليست تقديم دروس في الفلسفة، ولكن مساعدة الشباب على التفلسف الذاتي، لذلك أجدني وفق هذا المنظور الكانطي التنويريّ أتساءل في ثقافتنا التعليمية السؤال التالي: هل تقديم دروس في الفلسفة يعدّ فلسفة؟ ماذا لو أضفنا وصفة «الخصوصية» لتلك الدروس، وتساءلنا: هل تقديم «دروس خصوصية» في الفلسفة يعدّ فلسفة؟ لا أبدا، بل بالعكس هو تعميق للرؤيّة الشعبوية المغلوطة (ضد التفلسف)، إن ذلك يجعل من الفلسفة وسيلة أو أداة للنجاح ليس إلا، وهو الأمر الذي يدمّر فعل التفلسف في حدّ ذاته، مثلما يدمّر التديّن الدين، ويُدمّر شَرَهُ السعادة الفضيلة والأخلاقية.
3 - المستوى اللاشعوري التاريخي:
هي تلك الصيرورة المفاهيمية المغلوطة عن دور وأهمية الفلسفة في البناء الحضاريّ والإنسانيّ، كيف لنا أن نتميّز عن الأقوام المتوحشين مثلما يتساءل ديكارت؟ هل بالعلم والتكنولوجيا أم بالفلسفة والتفلسف؟ فإذا كان بإمكان معظم المجتمعات اليوم أن تمتلك التكنولوجيا، وأن تشتري أسلحة الدمار الشامل، وأن تبني ناطحات السحاب بنماذج وهندسات مطابقة، وأن تشتري الكتب والمكتبات الجاهزة، فإنه ليس بمقدورها جميعا أن تُنتج فلسفة، وإذا كان العالم كما جرت العادة يعتبر قرية كونيّة، فذلك لأنه قرية ضوئية صغيرة بفعل أضواء «توماس ألفا إديسون»، وبواسطة ألياف كهرو-بصرية، ولكنه عوالم مجهولة إذا ما طبّقنا معيار التفلسف، إنه عوالم لم تتحاور بعد، وعصور لم تتلق بعد، وأماكن قصية لم تُكتشف بعد، وإذا كنا نلتقي بالعالم الغربيّ على مستوى تكنولوجي وتقني، إلا أن المسافة الفلسفية والثقافية لازالت متباعدة بقرون فلسفية، وكأنما الحضارة والثقافة -وفق تلك الرؤية المغلوطة- يتم بناؤها بالعلم فقط، غير أن «العلم لا يفكر» وفق ما يؤكد الفيلسوف الألماني «مارتن هيدغر»، إن تلك الصيرورة التاريخيّة واللاشعوريّة التي تزدري فعل التفلسف لها من التاريخانيّة ما يسمح باستمرارها وإطّراداها، وأن تلوح في الأفق، لأنّها ببساطة لم تتعرض لقطيعة سوسيوثقافية مضادة، ولم تهتدِ بعدُ لتأسيس فلسفي أصيل من شأنه أن يجتثها من جذورها، إذ بقيت محاولات التفلسف مجرد بنيات فوقية، تصنعها الأحداث والظروف، وليس العكس، فإذا كان أهم حدث تاريخي وفكري وسياسي وحقوقي عرفته أوروبا قد تمثل في الثورة الفرنسية (1789)، فإن الكثير من الدارسين قد أكدوا أنه «لو تأخر ميلاد روسو لتأخرت الثورة الفرنسية»، بتعبير آخر إن حالة العطالة الحضارية التي نعيشها من بين أسبابها الرئيسية تأخر ميلاد الفلسفة والفلاسفة.
لا يمكن للفلسفة أن تعيش في بيئات دوغمائية (وثوقيّة، يقينيّة) تُنتج الحقائق والبديهات دونّما أن تُكلّف نفسها عناء البحث والتفكير والقراءة، ألم نلاحظ أنّ العالم من حولنا يتقدم عمليا وتكنولوجيا وفكريا وأدبيا وحتى أخلاقيا (إنسانيا)، لكنه لم يتجرأ بعدُ على امتلاك الحقيقة، ولا نتكلم هاهنا على المشاريع ما بعد الكولونيالية الجديدة، ومختلف السياسات الحكومية الغربية التي أدخلت العالم في حرب الكل ضد الكل، وإنّما نتكلم عن المجتمعات الغربية في حياتها العادية ومعاشها اليوميّ، هذا في مقابل المجتعمات العربية الإسلامية التي تعمل يوميا على إنتاج الحقيقة التاريخية والدينية بصفة قطعية دوغمائية، إنّ الفلسفة أيضا لها عواملها وشروطها البيئية التي تدفع بها دفعا، ومن ثمة فإنه يبدو أن المطالبة بإنوجاد فيلسوف عربي يعدّ أمرا مستحيلا اليوم في ظل هذه الظروف أو هو «مستحيل الوجود» وفق عبارة المفكر الراحل «جورج طرابيشي».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.