للمكان أهمية كبيرة في النصوص السردية لا تقل أهمية عن الزمان * المكان لا يشكل الوعاء القصصي والروائي فحسب إنّما يؤدي دوره في بناء الخطاب القصصي في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد عبد الحميد ختالة عن المكان وأهميته في النصوص السردية، ويرى أنّه لا يقل أهمية عن الزمان، على الرغم من أنّ تحليلات السرد الأدبي قد اهتمت أكثر بمنطق الأحداث ووظائف الشخصيات وزمن الخطاب أو المنظور الروائي ولم تولِ أهمية كبيرة للمكان السردي. الدكتور ختالة، يتحدث أيضا عن النقد السردي الذي يرى أنّه لم يقدم إجراء خاصا يحدد فيه طبيعة التعامل مع هذا العنصر، وظلّ خاضعا لاجتهادات النُقاد، فمنهم من يتجاهله بحجة عدم أهميته ومنهم من أفرد له دراسات خاصة. وخَلُص ختالة إلى القول: "إنّ المكان لا يشكل الوعاء القصصي والروائي فحسب، إنّما يؤدي دوره في بناء الخطاب القصصي كأي ركن آخر من أركانه، باعتباره من العناصر المتحركة والفعّالة فيه". حاورته/ نوّارة لحرش تناولت في دراسات عديدة، تيمة المكان وتجلياته في بعض الأعمال الأدبية. ما مدى أهمية ودور المكان في بناء النصوص السردية؟ عبد الحميد ختالة: للمكان أهمية كبيرة في النصوص السردية لا تقل أهمية عن الزمان على الرغم من أن تحليلات السرد الأدبي قد اهتمت أكثر بمنطق الأحداث ووظائف الشخصيات وزمن الخطاب أو المنظور الروائي ولم تولِ أهمية كبيرة للمكان السردي، وهو ما أشار إليه حميد لحميداني في قوله "لا وجود لنظرية مُشكلة من فضائية حكائية ولكن هناك فقط مسار للبحث"، وهكذا تباينت أهمية المكان عند النُقاد، فهذا جون برين يؤكد على أهمية رسم مكان حقيقي في الرواية إذ يقول: "لا يكفي أن ننشئ في المكان ما يشبه خشبة المسرح يتحرك عليها الممثلون، فتأثير الأمكنة علينا يتباين قوة بين شخص آخر". وهو يثير قضية مهمة ترتبط بإحساس الإنسان بالمكان المتواجد فيه أمانا واطمئنانا هو الذي يحدد شعوره بالسلب والإيجاب، وكما ينبه إلى ضرورة تضامن المكان مع عناصره الأخرى ومدى أهمية ذلك في إظهار وحدة القصة، ولهذا يمنح النُقاد أهمية كبيرة للمكان، فكلّما أسهب القاص في وصف تفاصيل الأمكنة يزيد ذلك من قوة تأثيره في القارئ ويحتج رولان بورنوف بأنّ "المكان ليس عنصرا زائدا وإنّما هو هدف العمل الروائي/السردي برمته". أخذت قضية المكان حيزا كبيرا في حديث المفكرين والفلاسفة من أمثال برجسون، نيوتن، انشتاين. ويثير باختين مصطلح "الكرونوتوب" ويعني به حرفيا "الزمان والمكان" ويطلقه على "العلاقة المتبادلة الجوهرية بين الزمان والمكان المستوعبة في الأدب استيعابا فنيا"، وهو بهذا يعتبر أنّ مصطلح "الكرونوتوب" يدل على ذلك الترابط الوثيق بين المكان والزمان من خلال انصهار علاقات المكان والزمان، وفي المقابل لا تظهر للمكان أهمية في دراسات غريماس مكتفيا بالإشارة إلى مادة الفضائية في معجمه، وفي دراسته للأقصوصة عند مومباسون يتعرض للزمان والمكان مستفيدا من التعارضات القطبية: قريب/بعيد، منبسط/مرتفع، منفتح/ مغلق. أمّا بالنسبة لجيرار جنيت فرغم أهمية دراسته للزمن والمنظور السردي، إلا أنّه لا يقيم وزنا كبيرا للعنصر المكاني، بل يصرّح بإنكار أهميته قائلا: "يمكنني بشكل جيّد أن أحكي قصة بدون أن أحدد المكان والموقع الذي تقع فيه...". هذا يدل ربّما على أن النقد لم يقدم إجراء خاصا يحدد فيه طبيعة التعامل مع هذا العنصر؟ عبد الحميد ختالة: أجل، وهكذا فإنّ النقد السردي لم يقدم إجراء خاصا يحدد فيه طبيعة التعامل مع هذا العنصر، وظلّ خاضعا لاجتهادات النُقاد، فمنهم من يتجاهله بحجة عدم أهميته في التأثير على العناصر الأخرى، وهناك من أفرد له دراسة خاصة، وهو ما قام به غاستون باشلار الذي أنبأ في دراسته "جماليات المكان" عن أهميته، حيث ينطلق غاستون في كتابه من الفلسفة الظاهراتية ليربط بشكل خاص بين المكان وعلاقته بالإنسان والدلالة التي يمكن أن يؤديها تنوّع أشكال المكان، ويركز على الأماكن التي ترتبط بحياة الإنسان في مراحله الحياتية المختلفة ومستوياته الاجتماعية المتعددة، حيث لا يبقى المكان مجرّد أبعاد هندسية بل يحمل قيما حسية وجمالية ويدفع إلى التذكر والتخيل: "إن المكان الذي ينجذب نحو الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكلّ ما في الخيال من تحيز، إنّنا ننجذب نحوه لأنّه يكثف الوجود في حدود تتسم بالحماية في مجال الصور، لا تكون العلاقات المتبادلة بين الخارج والألفة متوازنة". وقد حاول النُقاد الغربيين التمييز بين المصطلحات التالية: الحيز، الموقع، الفضاء والتي تندرج جميعا في مفهوم المكان، وقد تميز المنظرون الألمان بين مكانين -حسب الناقد حسن بحراوي- الأوّل عنوانه "المكان المحدد الذي تضبطه الإشارات كالمقاسات والأعداد أما الثاني فهو الفضاء الدلالي الذي تؤسسه الأحداث ومشاعر الشخصيات في الرواية وبذلك فهو يلعب دورا في التحليل الروائي". يبدو أنّ لهذا الفضاء الدلالي بعض المفاهيم الفنية المتعددة؟ عبد الحميد ختالة: هذا الفضاء يعني في مفهومه الفني مجموع الأمكنة التي تظهر على امتداد بنية النص السردي مكونة بذلك فضاءها الواسع، الشامل، وفي هذا الفضاء تبرز جملة من الثنائيات الضدية التي يُطلق عليها الناقد البنيوي يوري لوتمان بالتقاطبات المكانية التي تسهم في تشكيلها النماذج الاجتماعية والدينية والسياسية والأخلاقية، وذلك في شكل تقابلات سماء/أرض أو تراتبية سياسية أو اجتماعية طبقات عليا/دنيا، فالناقد والكاتب الروسي لوتمان يعد من الأوائل الذين تحدثوا عن جمالية المكان بأسلوب علمي وهو يقول بهذا الشأن: "المكان مجموعة من الأشياء المتجانسة من الظواهر أو الحالات أو الوظائف أو الأشكال المتغيرة... تقوم بينها علاقات شبيهة بالعلاقات المكانية المألوفة/العادية مثل الاتصال، المسافة". والعلاقات التي يعنيها هي الطبقات المكانية أو الثنائيات الضدية، وعمل جان فيسجرير في كتابه "الفضاء الروائي" على إقامة بناء نظري تستند إليه التقاطبات المكانية في اشتغالها داخل النص عن طريقة إرجاعها إلى أصولها المفهومية، وهكذا فقد أظهرت التقاطبات المكانية التي تناولها النُقاد أهمية كبيرة في الكشف عن الدلالات في النص السردي. كثيرا ما تكون التشكيلات المكانية لها دلالاتها في المتون السردية من قصص وروايات. فهل يؤدي هذا التشكيل المكاني وظيفة في بناء الخطاب السردي؟ عبد الحميد ختالة: إنّ المكان لا يشكل الوعاء القصصي والروائي فحسب، إنّما يؤدي دوره في بناء الخطاب القصصي كأي ركن آخر من أركانه، باعتباره عنصرا متحركا وفعّالا فيه، هذا ما جعله هاجسا لدى الوعي الإنساني، فتنوعت الأنماط التي اتخذته موضوعا للدرس، محاولة إرساء أهم القواعد المتحكمة في تشكيله ودراسته. ولهذا فإنّ الأمكنة بالإضافة إلى اختلافها حيث طابعها والنوعية التي توجد فيها تخضع في تشكلاتها أيضا إلى مقياس آخر مرتبط بالاتساع والضيق أو الانفتاح والانغلاق. تتعدد أشكال الأماكن التي تشكل الفضاءات الأساسية لأحداث المتون السردية، منها الأماكن المفتوحة والمغلقة. حيث تَرِد مثلا الكثير من الأماكن المفتوحة مثل: "الطرقات، الأحياء، المدن، الحدائق وغيرها.." في الروايات والقصص، هذه الأخيرة التي تتخذها في عمومها، كما يقول الناقد الشريف حبيلة، في كتابه "بنية الخطاب الروائي": "أماكن منفتحة على الطبيعة، تؤطر بها الأحداث مكانيا، وتخضع هذه الأماكن لاختلاف يفرض الزمن المتحكم في شكلها الهندسي وفي طبيعتها وفي أنواعها، إذ لا تظهر فضاءات، وتختفي أخرى"، أي أنّ الأمكنة تختلف وتتغير بعامل الزمن من حيث شكلها وألوانها وطبيعتها الجغرافية. هذا عن الأماكن المفتوحة، وماذا عن غيرها من الأماكن المغلقة؟ عبد الحميد ختالة: إلى جانب الأماكن المفتوحة نجد نوعا آخر من الأماكن التي تُكملها وهي الأماكن المغلقة مثل: "البيت، المستشفى، السجن، المسجد وغيرها..". أي أن الأماكن المغلقة ذات صلة وثيقة بالأماكن المفتوحة في جميع حالاتها الإيجابية والسلبية، وهذه الأمكنة (المغلقة) تعمل على توليد مشاعر مختلفة من رغبة وأمان وضيق وخوف. وكما يقول الناقد يوسف لطرش في دراسته "المبنى الحكائي بين معياري الزمنية والسببية": "إنّ انغلاق المكان وثباته يتعلقان، بطبيعة الحدث أو بشكله ووظيفته، فعندما نتبع الأمكنة التي تقع فيها الأحداث في أي رواية نستطيع أن نحددها بسهولة من خلال إدراكنا لطبيعة هذه الأحداث وشكلها، التي ترتبط حتما بالشخوص". أي أنّ المكان المغلق الثابت يرتبط بأحداث القصة والتي بدورها ترتبط بالشخصيات وبالتالي فهي علاقة تكاملية بينهم. ونعلم طبعا أنّ الأمكنة التي تُصنف في إطار الأمكنة المغلقة والتي ورد ذكرها، نجدها في الكثير من الروايات والقصص العربية. فحضور البيت مثلا في السرد، وهو يعتبر من الأمكنة المغلقة التي تحمي الإنسان من أخطار العالم الخارجي، وهو كما يقول الشريف حبيلة في كتابه "الرواية والعنف": "يمثل فضاء مكانيا هاما في حياة الإنسان، ومن ثم في النص الروائي، تعيد إنتاجه الكتابة وفق رؤية فكرية وجمالية، يتبناها الكاتب ويحملها راوية، وإذا كان البيت في الواقع ملجأ للراحة والأمن والاطمئنان فإنّه كذلك، وإلى حقبة طويلة في النص الروائي، حافظ الروائيون على صورته الرومانسية الآمنة الهادئة، والبريئة كما كان يحتضن ذكريات ساكنيه ويمثل رمزا لكلّ ما هو جميل وحميمي". معنى هذا أنّ للبيت دورا إمّا في الحياة الواقعية وإمّا في النص السردي والمتمثل في أنّه مكان للراحة والآمان والاطمئنان. وماذا عن المدينة في السرد؟ عبد الحميد ختالة: تعتبر المدينة من الأماكن المفتوحة، وهي مرتبطة بعدة عوامل منها الهندسية المعمارية مثل العمارات والمصانع والمراكز، ومنها الثقافية الإبداعية مثل: الكتابة والإبداع، وهذه العوامل تعمل على تطوير المجتمع. وغالبًا ما نجد المدينة ذات علاقات وارتباطات بأماكن أخرى تنتمي إليها كالطرقات والأحياء والحدائق. فالطرقات والأحياء تعد من الأماكن المفتوحة، فهي كما يقول الناقد الشريف حبيلة: "أمكنة عامة تمنح للإنسان حرية الفعل وإمكانية التنقل وسعة الإطلاع والتبدل، لذا فهي أمكنة انفتاح، تنفتح على العالم الخارجي، تعيش دوما حركة مستمرة تؤدي وظيفة مهمة في سبيل الناس إلى قضاء حوائجهم، اتخذت مفاهيم مختلفة في النصوص الروائية جعلها البعض حالة ذهنية تعيشها الشخصية. ومن جانب آخر فإنّ الحي من أكثر أسماء الأمكنة العربية التي تشير إلى معنى الحياة وحركتها الدائمة، إلى درجة أن الحي اسم يشترك فيه المكان والإنسان والمطلق في مفرده، ويشترك الإنسان والمكان في مفرده وجمعه معا". بالمقابل هناك مثلا بعض الأمكنة المغلقة لكنّها تكاد تكون غائبة عن النصوص السردية ليس فقط الجزائرية ولكن العربية عموما، مثل "المسجد". لماذا برأيك؟ عبد الحميد ختالة: هذا صحيح. طبعا لا تكمن قيمة المسجد في شكله ولا في هندسيته وماديته، ولكن جماليته وأهميته المعنوية تكمن وتتمركز في وظيفته كمكان للعبادة ، إلا أنّه كما يقول الناقد الشريف حبيلة في كتابه "بنية الخطاب الروائي": "نادرا ما يوظفه الكُتاب العرب إطارا لأحداث رواياتهم، أو بنية تساهم في تشكيل خطاباتهم الروائية، وإذا ما عمدوا إلى ذلك فإننا نجد صورته باهتة غير حقيقية، تغلفها إيديولوجية الكاتب، والسبب غياب البطل المتدين في الرواية العربية، الذي إذا ما حضر هو الآخر، إنّما لتأكيد الصورة التي يريد الروائي ترسيخها في ذهن القارئ عن الشخصية المتمسكة بدينها، فلا نجده إلا درويشا يشوه الالتزام الحقيقي بالدين، يسخر منه المجتمع وينفر منه، ومن ثم ينفرون من التدين". ومن خلال هذ التقديم لمكان المسجد باعتباره مكانا مغلقا يتضح أن سبب غياب توظيفه في النصوص السردية العربية يعود إلى غياب البطل المتدين المتمسك بدينه وعقيدته.