لا بأس أن أجدد التأكيد على ما كنت أشرت إليه في أكثر من مناسبة، وأنا افتتح هذه الإضاءة، وهو أنه لكي نتحدث عن تمظهرات المدينة بوصفها "المكان الروائي" في الرواية الجزائرية، علينا أولا أن نتساءل هل أسفرت فعلا الرواية الجزائرية عن وعي إبداعي شديد الخصوصية بالمكان عموما، والمدينة بصفة خاصة، أي هل تحولت فعلا المدينة كما صورتها الرواية الجزائرية إلى جزء أساسي من البنية الفنية للرواية؟ أو بعبارة أصح هل تجاوزت فعلا الرواية الجزائرية في علاقتها بالمدينة كمعطى إبداعي وضعها المكرر والنمطي كديكور أو إطار للوصف الخارجي فقط، كما يصف عادة طالب بالثانوية حيه ومدينته والشوارع والفضاءات المكانية التي يعرفها أو "التقاطبات المكانية" بتعبير لوري لوتمان، طالما أن القراء يعرفون تلك التفاصيل المكانية في بعدها الواقعي ولا حاجة لهم بمن يوجههم إليها داخل كتابة روائية من المفترض أن تستقرئ الأرض والذاكرة والوجود والمخيال في تفاعلها مع سؤال المكان أو بتعبير غاستون باشلار "جماليات المكان" في دائرة البحث عن إرتباط وعي الكتابة الروائية بالتحولات البنيوية العميقة المبكرة أو الراهنة للمجتمع والمدينة التي يود الروائي تفكيك أبنيتها الزمانية المكانية، بل وحتى الرمزية والتاريخية واستقراء آثار الإنسان فيها. بعد ذلك يمكن تمثل صور وتمظهرات المدينة في الرواية الجزائرية كمعطى إبداعي أو "كمكان روائي" طبعا بعيدا عن التوظيفات المباشرة للمكان والمحاكاة الساذجة للمدينة لمقاربة التخوم النائية لها بأدوات وأساليب تصنع قطيعتها مع الوصف الخارجي والتردد الحاد بين القرية والمدينة نظرا لنشأة بعض الروائيين الريفية، صحيح أن هناك نصوص روائية تمثلت المدينة بوعي إبداعي شديد الخصوصية ودون أن تذهب في ذلك بعيدا على غرار ما تحضر مدينة تلمسان في ثلاثية محمد ديب وقسنطينة في روايتي "الزلزال" للطاهر وطار و«ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي.. وبعض الأعمال الروائية لمالك حداد وفضيلة الفاروق أو وهران في "الرعشة" لأمين الزاوي و«قضاة الشرف" لعبد الوهاب بن منصور والجزائر العاصمة في "طيور الظهيرة" لمرزاق بقطاش و«سيدة المقام" لواسيني الأعرج و«توابل المدينة" لحميد عبد القادر وأدرار وسعيدة في "تلك المحبة" و«زمن النمرود" للحبيب السايح، و«مملكة الزيوان" لأحمد الصديق الزيواني... وغيرها، وهذا طبعا غير كاف بمعنى أن المدينة في الرواية الجزائرية لم تأخذ بعد تماسكها وحضورها الإبداعي المتعدد الوجوه والأقنعة النابع من العمق التاريخي والمفهومي لمدننا بكل إرثها الحضاري ومكوناتها التاريخية والأنتروبولوجية والثقافية ومن شتى الوقائع الحضارية التي عرفتها عبر الأزمنة، حتى ولو ألتفت ببعض الوثوق الإبداعي داخل نصوص روائية معينة في حوارها الإبداعي مع حساسية جديدة في التعامل مع معطيات المدينة كمتخيل إبداعي مختلف تمام الاختلاف عن الأسئلة القديمة التي تعامل فيها الروائي مع المدينة التي جسدها إرث نوسطالجي أو مفتعل سكن الكتابة الروائية وأعاق تحول مغامرتها الإبداعية في الإرتفاع بالمدينة إلى مراتب القيمة الجمالية ربما بسبب ضغوط اللحظة، لحظة الكتابة وهيمنة الأنساق اللغوية.. أنساق ما قبل النص، وهنا أتصور أن هذه الصورة الغائمة لتشكل المدينة في الرواية الجزائرية ربما تعود إلى أن أغلب الروائيين الجزائريين هم من أصول ريفية وأن علاقتهم بالمدينة طارئة لدرجة وقوع بعضهم تحت آثار "صدمة المدينة" والرواية كما نعرف جميعا هي إبنة المدينة لارتباطها بالأنتلجانسيا التي ظهرت في العواصم والمدن الكبرى وتجاوزت حدود اللحظة الطارئة إلى التركيب المجتمعي في مراحل تاريخية لها دلالتها الخاصة، وبالتالي فإن هذه الصورة الغائمة للمدينة في المتن الروائي الجزائري هي الوجه الآخر لسؤال النشأة، نشأة الروائي والرواية معا إذ أن نشأة الرواية العربية كما يعلم الجميع حديثة جدا ولذلك عوامل سوسيو ثقافية وتاريخية ليس هنا مجال الحديث عنها والبحث في أسبابها وملابساتها ولهذا يرى أحد الباحثين أن الطريقة المثلى لمقاربة إشكالية حضور المدينة المثمر في الرواية الجزائرية ينبغي أن يتصل بمحاولة عقد "منظور تأسيسي مرجعي يربط فيه الباحث الظاهرة بجذورها التاريخية والواقع الذي أنتجها لأن في هذا فقط تتأكد أصالتها وتنتفي تبعيتها ولا ينساق وراء تلك الطروحات العجلى التي لا ترى في بروز هذه الظاهرة سوى تأثرا محضا بالغرب وعلى الأخص بالمدينة الأليوتية"، إن المدينة ليست في مخيال المبدع والروائي على وجه الخصوص مجرد تجمعات سكانية أو فضاء جغرافي أو اجتماعي بل هي في تمثله المثمر كمعطى إبداعي "وجملة من العلائق الديناميكية والأعراف والمواضعات المتطورة"، ولهذا تحضر صورة المدينة "كمكان روائي" مادته الأساسية مخيال الكاتب مبدع النص ونعني بها الجلفة تحديدا في رواية "وصية المعتوه... كتاب الموتى ضد الأحياء" للروائي والشاعر "يبرير إسماعيل"، حضورا لافتا نسبيا سنحاول في هذا الورقة إضاءة بعض جوانب هذا الحضور وأبعاده من حيث أن الروائي استطاع عبر مئة وتسعة وثلاثون صفحة وهو عدد صفحات هذه الرواية أن يرسم بعين المبدع صورة دقيقة نسبيا لتحولات هذه المدينة، على الصعيد البنيوي تجمع بين المتخيل وشبه الواقعي من زاوية معرفة السارد "بالمكان الأليف" بتعبير باشلار الذي شكل ذاكرته ووعيه بالأشياء ومنظورات الرؤية التي طبعت وجدانه النفسي، وهنا لا بد من محاولة الحد وعدم الخلط بين السارد الذي يختبئ وراءه الروائي لقول ما لم يقل في نصه الروائي وبين الروائي نفسه، لكون المجتمع التخييلي للرواية الذي يحاول تأثيثه كاتب النص يبرير إسماعيل بشخوصه لا علاقة له بما أعرفه أنا القارئ بأي مجتمع واقعي مفترض في محاولة مني لتجاوز حضور الصورة النمطية للمدينة في النص الروائي والبحث عن وجهها الآخر الذي يتأسس على كثافة التخييل و«الإحلال" بما يمنح لهذا النص الروائي شروط شعريته أي أدبيته بلغة تودوروف كرافد مهم يحقق أدبية فعل التخييل، وعليه فحين نقرأ في مطلع الرواية الكلمات التالية "عدت إلى الحي بعد أن جاءني مبعوث أبي يلهث"، فالأمر يتعلق هنا بأب الراوي وليس بأب السارد الخارج نصي الذي هو الروائي كاتب هذا النص، على الرغم من وجود بعض عناصر التطابق والتماثل النصوصي بين الراوي والروائي كسندات سيرذاتية أو "خطابات منقولة" بتعبير جيرار جينيت أملتها ضرورات انغراس المبدع في تربته الثقافية ومهد تكوينه ووعيه الشديد الخصوصية بأن يكون لنصه الهوية التي يريدها بأبعادها الثقافية والرمزية التي تسكن لاوعي المبدع ولا يمكن لأي مبدع مهما كان التنصل منها للخروج مما يسميه الناقد المغربي عثمان الميلود "التنافر بين الروائي والأتوبيوغرافي" مما يجعل هذا اللون من الكتابة الروائية الشديد الارتباط بالمكان أقرب على ما يرى عبد الله إبراهيم "بأدب الإعتراف بالهوية" "فلا يمكن انتزاع الكاتب من الحاضنة الاجتماعية والثقافية التي يشتبك بها لأن أدبه يقوم بمهمة تمثيلها وبيان موقعه فيها فلا يطرح موضوع الهوية في السرد والاعتراف بها إلا على خلفية مركبة من الأسئلة الشخصية والجماعية وتبادل المواقع فيما بينهما، فالكاتب منبثق من سياق ثقافي وتجد الإشكالات المثارة كافة في مجتمعه درجة من الحضور في مدونته السردية". بروتوكول القراءة.. "الوظيفة المرجعية" للعنوان سنحاول الاستعانة في البدء بما يسميه جيرا جينيت "النصوص المصاحبة أو الموازية" على الرغم من أن العنوان يعتبر "عتبة نصية"، وعلى الرغم أيضا أن الغاية التي نتوخاها من هذه الورقة هي الولوج إلى دلالة المكان ومنه حضور المدينة واستخلاص المعنى من "المكان الروائي" الذي شيده الناص من خلال هذه الرواية إلا أننا وجدنا أنفسنا نصطنع هذا الإجراء في حدود ضيقة وبحذر شديد لمعرفة دلالة عنوان الرواية "وصية المعتوه.. كتاب الموتى ضد الأحياء" والمرجع الذي يحيل إليه داخل النص وعليه نسجل غياب "الوظيفة المرجعية للعنوان في بعض النماذج من "النقد العربي العتباتي" الذي يستقي أهميته المنهجية والإجرائية من إرث جيرار جينيت في هذا الحقل، فالدكتور عبد الحق بلعابد مثلا رغم سعة اطلاعه وعمق مصاحبته للمسالك العتباتية النقدية وهو الذي يعد في نظرنا من أبرز النقاد الجزائريين المتخصصين في "فقه العتبات النقدية" في كتابه "عنفوان الكتابة.. ترجمان القراءة.. العتبات في المنجز الروائي العربي"، يقدم عددا من الوظائف للعنوان التي يحاول حصرها في: - الوظيفة التعينية - الوظيفة الإيديولوجية - الوظيفة الإغرائية - الوظيفة الوصفية - الوظيفة الإيحائية أو الدلالية ولكنه يتجاهل وظيفة أخرى وأكثر أهمية، وهي الوظيفة المرجعية كما لو أنه لا معنى لها وتحديدا صلة العنوان بنص مرجعي آخر من "النصوص المصاحبة أو الموازية" بتعبير جيرار جينيت، ونعني بذلك القسم الذي يعطيه الروائي العنوان التالي "لا تسخر أبدا من وصية معتوه" دون أن ننزلق بعيدا في التعرض لباقي الوظائف العتباتية مما قد يبعدنا عن الغاية المرجوة من هذه الورقة، الذي يحدد فيه مكانا غرفة شقيقه إدريس صاحب الوصية بوصفها واحدة من "التقاطبات المكانية"، بتعبير لوري لوتمان، التي ننوي الولوج إليها وقراءة دلالة حضورها في النص الروائي، ليس فقط من حيث أن هذا "النص المحيط أو الموازي" هو المعنى الدال على تجلي "النصية المتعالية التي تتضمن جامع النص"، ولكن وهذا الذي يعنينا لكونه "فاتحة نصية أو استهلال روائي" على ما يرى عبد الحق بلعابد لأنه "يحيل إلى خلية إبداعية أولى تحتضن كنه التصور الإبداعي كله المؤسس لأدبية النص"، وليس مجرد عتبة فارغة يتم تكييفها مع كافة النصوص وبالمستوى والطريقة نفسهما، ولذلك أطلق جيرار جينيت صيحته الشهيرة، قائلا "أحذروا العتبات"، سنتمكن عبره إلى الولوج إلى غرفة إدريس شقيق الراوي لمعرفة ما يجري فيها وعليه فالرواي لا يحدد لنا ما بداخل هذه الغرفة باستثناء المرآة الوحيدة التي غاب فيها وجهه وما يميزها عن غرف بيت والده لخضر سوى ما يذكره عن بعض الحركة التي لا تزال تتواتر خارج الغرفة بسبب توافد المعزين إثر وفاة جده، وهذه الوفاة هي الحدث المركزي الذي يفتتح به الناص نصه الروائي معربا في الوقت ذاته عن النتانة والقذارة التي تميز الغرفة وأصبحت تلازم شقيقه إدريس، مما جعلهم يقررون نقله إلى مستشفى الأمراض العقلية وهو في حل من أمره يحاول إخفاء الوصية التي عثر عليها ومع ذلك لا يخلو هذا القسم من الرواية من رسم بعض دهاليز أمكنة أخرى من المحيط البيوغرافي الذي يشكل قطب الرحى في فضاءات هذا النص، ومنها تحديدا حي ديار الشمس مشوبا بتهكمه من الوضع الذي عليه سكان هذا الحي "هنا يلتقي الموتى والأموات فنحن سكان هذا الحي أقرب إلى الموتى منا إلى الأحياء". «التقاطبات المكانية" في وصية المعتوه كتاب الموتى ضد الأحياء" لأسباب منهجية واصطلاحية نوظف هذا المفهوم "التقاطبات المكانية" كأداة إجرائية لإضاءة بعض الجوانب الداجية التي تكتنف الأمكنة الجزئية أو الصغرى والتي تمثل في نظرنا لوحدها وحدات نصية على النقد أن يكشف عنها لمعرفة موقعها الأساسي من "المكان الروائي" عموما وصلتها بخصائص التشكيل الروائي مجتمعة، وهو مفهوم كان أول من وضعه الناقد والمفكر الروسي، لوري لوتمان، في كتابه "مشكلة المكان الفني"، وقد بحث فيه مثلما يرى الدكتور شريبط أحمد شريبط عن "لغة العلاقات المكانية واعتبرها وسيلة رئيسية لوصف الواقع وينطبق هذا أيضا على مستوى ما بعد النص، أي على مستوى النمذجة الإيديولوجية الصرفة"، دون أن نزعم امتلاكنا للكفاءة التحليلية أو امتلاك "إنتاجيته النصية"، بتعبير كرستيفا، ونحن نرى بكل وضوح أنه البديل الممكن عن مفهوم الفضاء لاستعمالاته المتعددة في النقد الروائي والسردي الشديد الشيوع والتداول في تحليل الخطاب الروائي فيما تسميه كريستيفا وميشال بوتور بالفضاء النصي للرواية في كثيرمن أعمالهما رغم اختلاف زوايا الرؤية بينهما، لاسيما وأن مفهوم الفضاء النصي للرواية عند جوليا كريستيفا في كتابها "الفضاء النصي للرواية" لا يؤدي الوظيفة نفسها التي يؤديها هذا المفهوم "الفضاء النصي" عند ميشال بوتور في كتابه "بحوث في الرواية الجديدة"، وليس الغرض منهما واحدا و«الفضاء بوصفه منظورا" بتعبير حميد الحميداني في ظل تواتر التباس كبير كثيرا ما يحدث في أذهان القراء بين الفضاء النصي والفضاء المكاني، وطبعا ليس من طموح هذه الورقة تحليل أشكال هذه الفضاءات والفروقات الناشئة عنها ولا المجال يسمح بذلك، رغم أن الدكتور عبد المالك مرتاض يفضل استخدام مفهوما آخر هو مفهوم الحيز "في انتظار الإتفاق على مصطلح عربي دال" كما يرى، وهو الذي يؤكد "أن عبقرية الأدب حقا هي حيزه"، لقد ورد إسم الجلفةالمدينة أكثر من مرة في المحمول السردي لهذا النص الروائي، مرة في استغراب الراوي من بقاء عمته كلتوم في ذلك الحي المسمى حي القرابة الذي يعج بالتعاسة والفقر المدقع فكان أن ردت عليه قائلة إن "كل جلفاوي أصيل ولد هنا وأن كل أهل الجلفة تربوا وعاشوا هنا"، ومرة ثانية في محاولة الراوي جلاء بعض خصوصيات مدينته السوسيو ريفية باعتبارها مدينة سهبية شبه صحراوية تحتفي بالكبش وقد وضعت له تمثالا في صدرها لدرجة أن أستاذ التاريخ قال له "إن الجلفاوي الذي سبق التاريخ كان يربي الكباش وأن حقبة مرت على الجلفة لم يكن بوسع الرجل فيها الخروج دون كبش"، لكن لا ينبغي التوقف فقط عند بعض المتتاليات السردية التي يحضر فيها إسم المدينة بشكله الملفوظ، لأن الدرس النقدي يفترض فيه أن يتجاوز ذلك لإضاءة بعض الجوانب الداجية من حضور المدينة بوصفها "المكان الروائي" كفضاء اجتماعي وجغرافي في أبعاده الاثنية والرمزية والسياقية، لكون "المكان الروائي" مختلف تماما عن المكان الذي نعرفه فهو "مكان يخلقه المؤلف في النص عن طريق الكلمات ويجعل منه شيئا خياليا"، اعتبارا من أن ناقدا وسيموطيقيا بحجم رولان بارت كان يشترط على من "أراد أن يدرس المدينة سيميولوجيا فعليه أن يكون مختصا بعلم العلامات ومؤرخا وجغرافيا ومهندسا معماريا وربما ملما ببعض حقول التحليل النفسي"، ورغم أنني لست بهذا المستوى ومن الجنون أن أتوهم ذلك وعليه لا بد من ممارسة نوع من الخرق والتجاوز لقراءة الدلالات الهوياتية والرمزية لبعض الفضاءات المكانية التي تشكل قطب الرحى في الفضاء النصي الروائي في ارتباطه بالبعد المكاني كجزء من صورة المدينة في الرواية بوصفها "هوية نصية" أو هي الوجه الآخر "للوعي الأصيل" بتعبير جورج لوكاتش كمعطى إبداعي يستعيد بعضه الراوي من خلال وعيه الطفولي بالكون والأشياء في محاولة لملمة أشياء ذاته الموزعة بين الماضي والحاضر بين ما كان وما لم يكن. البيت ونعني بذلك بيت الجد المتوفى، وقد قدر الراوي أنه لا يبتعد كثيرا عن بيت والده ولا يفصل بينهما سوى جدار ومما زاد من عنائه في الوصول إلى البيت بالسهولة الممكنة هو عمليات التزفيت الأخيرة مما جعل كل بيوت حي ديار الشمس تبدوا مرتفعة، خاصة وأنه لم يزر بيت جده منذ وقت طويل مستسلما لذاكرته التي أسعفته في تمثل بعض غرف البيت التي لم يطرأ عليها أي تغيير ربما كان مرده لالتزام الجد المتوفى بواجبه في حراسة مقبرة النصارى والاعتناء بها وبدل أن ينشغل الرواي في استعادة بعض أركان بيت جدها كما يفعل كتاب السير المكانية المولعين بالفعل النوسطالجي لأسباب وسياقات "طللية" تتعلق بالمنفى أو الهجرة أو الاغتراب مثلما هو حال رواية المكان الفلسطينية مثلا فقد وجد نفسه يغوص عميقا في أسئلة المعزين المتوافدين على بيت جده ولغة التعاطف والمواساة التي قابلوه بها "عاش ما كسب مات ما خلا... الله يرحمو .. خلاكم رجالا"، في انتظار أداء صلاة الجنازة ودفن جده واستقبال لفيف آخر من المعزين. مقبرة المسلمين أو "الجبانة الخضراء" تشكل مقبرة المسلمين أو الجبانة الخضراء، كما جاء في الرواية، المكان الأكثر حضورا في هذا النص الروائي، وهي المقبرة التي لا تبتعد عن مقبرتي اليهود والنصارى إلا بأمتار قليلة، مما يوحي بحوار شبه حضاري مفترض بين الأموات رغم اختلاف عقائدهم و«مللهم ونحلهم" بعد ما كان ولا يزال مفقودا لدى الأحياء الأموات، هذا ما يستخلصه القارئ من دلالة رمزية إيحائية ليس بوسعه تجاهل تجلياتها وكثافة حضورها وانفجار صورها الدلالية التي يحاول الناص التشديد عليها، ففي هذه المقبرة ضيع الوالد لخضر وصية والده المتمثلة في القبر الذي قام الجد المتوفى بحفره ليدفن فيه وقد جر معه المعزين إلى جدال عقيم لم ينته إلا بعد أن عزم لخضر على حفر قبر جديد لوالده بنفسه، وهو الذي ضيع وصية والده بعدما تدخل حفار القبور لمساعدته. مقبرة النصارى لم يحدد الناص قسما خاصا بهذه المقبرة، ولكنه أيضا لم يتجاهل وجودها ولم يفضل عليها مقبرة المسلمين، لقد كانت المقابر الثلاث بما في ذلك مقبرة اليهود تشكل المكان الثلاثي الأبعاد في البعد المكاني الذاكراتي للراوي كموضوع للسرد والكتابة ينصهر فيه الحاضر بالماضي من أجل تقديم وظيفة سردية، هي ما يسميه أمبيرتو إيكو "التسارد"، تخلص الراوي من سلطة "الذاكرة الموشومة"، بتعبير عبد الكبير الخطيبي، طالما أن وجود هذه المقابر في المجتمع الخارج نصي لا غبار عليها وأن استدعاءها كمعطى إبداعي لتحويلها كعنصر أساسي إلى داخل المجتمع التخييلي للرواية أملته ضرورة ارتباط هذه المقبرة بوظيفة جد الراوي الذي كان حارسا لها يعتني بها وبالأزهار والنباتات التي حولها ويطرد عنها المولعين بصيد العصافير الذين يجيئونها من الأحياء المجاورة، وهي كلها حسب الرواية انتصارات تحسب لهذا الجد الذي كان حريصا على أداء مهمته بمهنية لا تضاهى "وكانت سترته الزرقاء هي سلاحه الوحيد وجيشه المجيش ورقيبه وعيونه على القبور والأشجار". «جبانة اليهود" لقد خص الرواي جبانة اليهود بقسم من الرواية بأكمله، وفي أفيائها كان يتأمل المكان ويحاول قراءة بعض الأسماء العبرية الحاملة لهوية الموتى اليهود، خاصة وأن موقعها المحاذي لوادي ملاح كان أبرز الأمكنة الشاهدة على طفولته مستعيدا بعض ما كان يقال عنهم من طرف الآباء الذين عرفوا بعضهم أثناء تواجدهم ببلادنا ردحا من الزمن، وتعايشوا معهم بشكل لا يصدق وهنا يعود الراوي إلى تأكيد ذلك التعايش السلمي الحضاري الذي نشأ بينهم وبين الجزائريين، الذي يستقي بعض مظاهره من أقوال جده الذي كان يقول "بني عمك اليهود والله ما يخلوك تنوض". غرفة المالك الحزين من خلال هذه الغرفة يرسم لنا الراوي بعين المبدع في تصوير بديع هو أقرب إلى مشهد سينمائي، الوضع الاجتماعي للغرف العربية في مدينة داخلية في ذلك الزمن عبر حي ديار الشمس، فيسهب في وصف كل محتويات هذا المكان الجزئي الذي تكاد تتطابق كل محتوياته لدى غرف بقية بيوت سكان الحي، فيركز على وجود ذلك الصور القصبي الذي أقامه مالك الحزين على نافذة بيته كي لا يتطلع أحد على زوجته التاقية رغم أن هذا القصب قد زال الآن ولم يعد موجودا مستعيدا بعض الأجواء والأقاويل التي كانت تحيط بالرجل وبغرفته ومنها استحضاره للجن وميله إلى الشعوذة، وهي العوامل التي أغرت الراوي باكتشافها ومحاولة التقرب من مناخاتها رغم تحذيرات والدته من هذا التصرف "لقد كان الاقتراب من كتب وأدوات الملك ممنوعا عن الجميع بمن فيهم خالتي التاقية، لهذا فإنها كثيرا ما اشتكت من رائحة الغبار التي تطلع من ركنه الأصفر بينما ينهرها هو عن ذلك.. كانت متأكدة أن كل ما يقوله زوجها حقيقي وأنه عبقري وأن لديه السلطة على الجن والقدرة على إيذاء البشرية بأكملها إلا أنه لا يريد ذلك". غرفة إدريس لاشك أن في غرفة شقيق الراوي إدريس بالذات، يكمن السر الذي تتأسس عليه قصة قبر الجد الذي ضيعه لخضر والد الرواي، فبعدما تمكن من قراءة رسومات شقيقه التي لم يفهم منها شيئا وهو المولع بالسرية والتكتم، لقد كان اعتقاد الراوي أن شقيقه كان رساما لكنه عثر في النهاية وبمحض الصدفة على كومة كبيرة من الأوراق تحت سرير شقيقه أصابه الخرس والصدمة منها، أوراق تتضمن وصية هذا نصها "هذا كتابي وقد ضمنته ما رأيتم وما سترون، أنا رجل من حي ديار الشمس أملك قبرا في الجبانة الخضراء يفترض فيه أن يكون لجدي، لكنه عصي على الموت لهذا سيكون لي". حي ديار الشمس في الرواية لا نعثر أبدا على أية دلالة اجتماعية تحدد لنا أصل تسمية هذا الحي بإسم ديار الشمس، ولو بصورة تقريبية، ولكننا نفترض استنادا إلى ما هو متداول في المخيال الشعبي المحلي والذي مفاده أن الأجيال القديمة من الآباء كانت تعمد إلى تشييد البيوت في الفضاءات التي ترسل إليها الشمس أشعتها، بالنظر إلى برودة الجو القاسية التي تميز المناطق السهبية في غياب وسائل التدفئة العصرية، ولذلك يقال إن تسمية هذا الحي بإسم ديار الشمس جاءت من هذا الاعتبار، وهو الحي الذي يعد من أبرز "التقاطبات المكانية" التي تشكل ذاكرة الراوي ويستقي منها كل عناصر وجوده، وتشكل المتتاليات السردية والوحدات النصية دالا مهما على ارتباطه بالمكان ورسوخه فيه رسوخا لا مجال معه للانفصال أو التحرر من هيمنته على لا وعيه النفسي، لدرجة أنه كان يجهل وجود أحياء أخرى غيره، إنه الارتباط الذي تؤكده هيمنة بعض الأنساق اللغوية المرتبطة بمدلول اجتماعي وبفضاء سهبي شبه صحراوي وانغراس الراوي في تربة لا يطالها الشك أو الزيف، ولهذا تبدوا له رائحة الماشية أمرا عاديا ومألوفا لديه، فهي "تعبق الصباحات والمساءات معا تلك الرائحة التي تعيد الروح وتسكن في ملابس الكادحين من أهل الحي"، فالوحدات النصية الحاملة لبعض الصور المجازية التي تختزن أمداء الطفولة والأرض المكان والعشيرة، تأكيد آخر على أنه "المكان المرتبط بالتداعي النفسي وهو المكان الذي يقبع في الذاكرة ذلك أن المكان الأليف الذي عشنا فيه بيت الطفولة، نبقى دائما نستعيد ذكراه حتى ولو إبتعدنا عنه"، فعلى رأي الدكتور فريد الزاهي النص الابداعي كما يتصوره التحليل النفسي "هو نص يتجذر في انفعالات وعواطف الطفولة وينفصل عنها كي يحولها إلى موضوع جمالي فالطفولة هي نفسها نص مفقود تكتبه الذاكرة عبر تحويله إلى نسخة منها". حاشية على أصداء " المكان الروائي" لا يمكن الاكتفاء بما ورد من سجلات لغوية تحيل إلى خصوصية المكان وقيمه الرمزية السوسيوثقافية من خلال بعض "التقاطبات المكانية"، التي توقفنا عندها لأنه في هذا النص الروائي مواد سردية كثيرة حافلة بهذا النوع من "البرامج السردية" بالمعنى السيميائي الدقيق تحمل في أحشائها اللغوية وإحالاته السياقية وبنياتها الدلالية أنماط من الرموز والصور التي تحيل إلى مخيال شعبي ذاكراتي تتخلل بعض أوجه التناص مع اللهجة الشعبية وبنيتها الأسلوبية في جانبها المعجمي، كقول الراوي "أدخل راه بيك يحوس عليك"، "مات ما كسب عاش ما خلى" أو قوله أيضا "حليلو جدو الدايم ربي... عاونوه ينوض"... وغيرها، حيث يتكرر هذا النوع من التناص مع اللهجة الشعبية في أكثر من قسم من الوحدات النصية للرواية ليفتح السرد على لغة الحكي الشعبية وانفجارها الدلالي تتجاوز معطيات التضمين التقليدية التي دأبت بعض السرود القصصية والروائية على الامتلاء بها امتلاء عائما، لتؤلف بذلك "كتابة حوارية" بالمعنى الذي يشير إليه ميخائيل باختين ويوفر مناخا من التطعيم الأجناسي المثمر دون خرق أو اعتداء على خصوصية النوع الأدبي، وهو هنا الرواية كجنس أدبي له قوانينه الخاصة وأعرافه ومع ذلك كله لا نشعر أننا استنفدنا إضاءة بعض جوانب "المكان الروائي" بكل أبعاده وتخومه النائية، وهو الأمر الذي لا ندعيه، لقد أردنا فقط استدعاء بعض عناصر "المكان الروائي"، وأسئلته وعلاماته الدالة على "هوية النص"، بما أمكننا من جهد محدود رغبة منا في استكمال ملف الكتابة الإبداعية لنص روائي جدير بالقراءة و«المتعة النصوصية"، بالمعنى البارتي، نعتقد أنه ككل النصوص التي تحمل في تخومها عوامل بقائها، ومازال في حاجة إلى إضاءات أخرى من جوانب وزوايا أخرى. * للموضوع هوامش