مقص الرقابة بالتلفزيون دفعني للهجرة أعرب المخرج عبد الغني مهداوي ، الحائز على العديد من الجوائز المهمة في المهرجانات السينمائية للنصر عن أسفه الشديد لضياع أول أعماله التلفزيونية بسبب حقد بعض العاملين فيه ، حيث لم يتمكن من الحصول على النسخة الأصلية لأول فيلم طويل أنجز بعد الإستقلال ،وغيرها من الممارسات التي قال أنها دفعته إلى الهجرة بعيدا عن وطن يعشقه ويسكن قلبه. حاورته:أمينة جنان حدثنا عن بداياتك في مجال الإخراج ؟ - بداياتي في عالم الإخراج كانت من خلال الإذاعة ، التي كانت لي فيها أول تجربة إخراجية على الإطلاق حيث بدأت في 12 فيفري 1955 بإخراج حصة للأطفال كان يقدمها الأستاذ الأخضر السائحي رحمه الله، و بعدها التحقت بمعهد «الكونسارفاتوار» من سنة 1956 و إلى غاية 1959 لدراسة الفنون الدرامية، أين تخصصت في الإخراج الذي كنت مولعا به منذ صغري أكثر من التمثيل، و هذا بسبب طبعي الخجول بعض الشيء الذي جعلني أفضل الوقوف وراء الكاميرا بدل الوقوف أمامها. ثم التحقت سنة 1959 بالتلفزيون « آر تي أف» ، للعمل في البداية كسكريبت و مساعد مخرج رفقة المرحوم مصطفى غريبي ، ثم اقتحمت عالم الإخراج التلفزيوني مباشرة بعد الاستقلال لأنني كنت في تلك الفترة شديد الانبهار بالتلفزيون و عالمه السحري من كاميرات واستوديوهات و أضواء و غير ذلك. و بعد أن قمت بإخراج حصة منوعات مع المغنية القبائلية « الجيدة «، تمكنت سنة 1963 من تحقيق حلم إخراج أول فيلم جزائري طويل من تأليفي و إخراجي بحجم (m 16)، و لكن فرحة هذا الإنجاز الأول من نوعه في الوطن لم تدم طويلا، لأنه للأسف بث مرة واحدة ثم اختفى نهائيا و للأبد! كيف اختفى ؟ - ربما بدافع الغيرة، فاحد العاملين بإدارة التلفزيون في ذلك الوقت أراد أن يحبطني، بإخفاء الفيلم بنسخته الأصلية لكي لا يبقى له أي اثر. و إلى غاية اليوم أنا في غاية الأسف من هذا المصير الذي آل إليه أول عمل لي، فاختفاؤه بهذه الطريقة أمر في غاية الخطورة. و قد كان لي صديق مسؤول في أرشيف التلفزيون، ساعدني في عملية البحث عنه لأيام طويلة إلا أننا لم نجد أي شيء يدلنا عليه و كأنه تعرض للحرق. قمت أيضا بإخراج العديد من الأفلام و المسرحيات للتلفزيون . - نعم و لكن مقص الرقابة كان مسلطا على جميع الأعمال المقدمة للتلفزيون، و هذا ما يضع الفنان في وضعيات لا تفسير لها . ففي سنة 1986 أخرجت للتلفزيون مسرحية بعنوان «الناس اللي معانا»، و لكنها بثت 22 سنة من تاريخ الإنتاج. ما سبب هذا التأخير ؟ - في الأول كان بسبب مقص الرقابة الحاد، ثم طالها النسيان و بعد مرور 22 سنة يبدو أن عمال التلفزيون وجدوها ضمن الأرشيف و قرروا أخيرا بثها. *هل كانت هجرتك إلى فرنسا سنة 1976 بسبب خيبة أملك ؟ - نعم فالخيبة التي أصابتني عندما أدركت أنني لن استطيع بعد الان ممارسة المهنة التي أحبها في بلدي دفعتني إلى الهجرة. هل تشعر بالغربة بعيدا عن البلد؟ و ما تقييمك لوضعية التلفزيون الجزائري الحالية؟ - لا، أنا لا أشعر بالغربة لأنني أعيش في فرنسا مع زوجتي و أولادي، كما أنني أتابع عن كثب كل أخبار الوطن، و باهتمام بالغ خاصة فيما يتعلق بالحياة الفنية و الثقافية. أما فيما يتعلق بوضعية تلفزيون بلادي فانا أشعر بالكثير من الأسى، لأنه عندما لا تعكس التلفزة الوطنية واقع المجتمع فذلك أمر محزن جدا خاصة بالنسبة للشباب، و أعتقد أن السبب يرجع لانعدام سياسة ثقافية في الوطن رغم وجود إمكانيات مادية كبيرة و مواهب مميزة. و أيضا للتمزق الذي حصل داخل التلفزيون سنة 1987 بعد التقسيم الذي حدث ، و ظهور المؤسسة الوطنية للإنتاج السمعي البصري التي لم تعد موجودة الآن لأنهم فككوها فيما بعد و أجبروا المخرجين على التوجه للإنتاج على حسابهم الخاص في شكل مؤسسات صغيرة، تجد صعوبة كبيرة في بيع أعمالها للتلفزيون . وهل واصلت العمل في ميدان الإخراج في فرنسا؟ - لا، لأنني فيما بعد عانيت من العديد من التعقيدات الصحية كما أنني توجهت للبحث الادبي في مجال الشعر الملحون. حول ماذا ترتكز بحوثك الأدبية؟ - في مجال الشعر الملحون المغاربي، و قد درست تقريبا كل شعراء الملحون في المغرب و الجزائر كالشاعر المغناوي و قدور العلمي و جيلالي مترد وغيرهم ب ما يعادل تقريبا 1000 قصيدة من الشعر ملحون. لماذا اخترت بالتحديد الشعر الملحون ؟ لأن الشعر الملحون غير معروف في بلادنا لدى أشباه المثقفين، و من النادر أن نجد مهرجانات خاصة به في الوطن، فماعدا بعض القصائد المعروفة لدى العامة المغناة في الشعبي و المالوف، فباقي القصائد لا يعرفها إلا القلة القليلة جدا.وهذا النوع من الشعر ينطق بلغة الشعب البسيطة و يعبر مباشرة عنه و «الذي يخرج من القلب يصل للقلب مباشرة.» ماذا تقول لجمهورك الذي يتساءل عن سر غيابك الطويل؟ - أنا جد حزين بسبب بعدي عن بلدي،أقول لهم أنني أحب كثيرا جمهور وطني الذي عرفته مثقفا و متعطشا للفن الراقي كما انه جمهور صعب و ذواق و لديه نظرة تقيمية ثاقبة للأعمال التي تقدم له، و لذلك فهو لا يقبل الرداءة التي تقدم له الآن في التلفزيون الوطني . ما هي أجمل ذكرياتك في الجزائر؟ - لدي الكثير من الذكريات الرائعة ، من بينها تاريخان لا أنساهما أبدا و هما : 5 جويلية 1962 و28 أكتوبر 1962 تاريخ استرجاع السيادة الوطنية على الراديو و التلفزيون الجزائري، ولا أنسى أبدا مشهد ارتفاع الراية الوطنية فوق بناية التلفزيون من طرف عبد الحكيم شكيري ، أحد جنود جبهة التحرير الوطني، فلم أتمالك نفسي والدموع تغطي وجهي ابتهاجا بهذه اللحظة التاريخية التي لا يمكن أن تنسى.