رجال الحقول الحمراء في مواجهة الحرارة و الجفاف في ساعة مبكرة من كل صباح، تتوجه سيارات طويوطا اليابانية، عشيقة المزارعين، إلى حقول الطماطم الصناعية بقالمة، محملة بالمئات من العمال القادمين من القرى الريفية النائية، حيث الفقر و الصراع المرير مع الزمن و الطبيعة من أجل الحياة. قبل شروق شمس الصيف الحارقة، تصل فرق العمل إلى الحقول الحمراء لخوض معركة التحدي، و بداية يوم شاق تمتزج فيه الحرارة القوية بالإرادة و الأمل، و التطلع إلى مستقبل جديد، يتبدد فيه الفقر و يتحول إلى مجرد ذكرى من الذكريات الأليمة التي تترك آثارها في حياة كل إنسان. إنه موسم الطماطم الصناعية بقالمة، موطن السهل و النهر و الجبل، موعد يتجدد كل صيف منذ بداية هذه الزراعة الإستراتيجية بقوة قبل 20 سنة تقريبا، عقب إطلاق محيط السقي الشهير قالمة بوشقوف على مساحة 10 آلاف هكتار، تعد من أجود الأراضي المسقية بحوض سيبوس الكبير و منطقة الشرق الجزائري برمتها. و مع مرور الزمن، تحولت قالمة إلى قطب وطني رائد في إنتاج الطماطم الموجهة لوحدات التحويل التي تعمل ليل نهار لتوفير المعجون الأحمر المركز للجزائريين، و توقف تدفق المنتوج الأجنبي الذي استنزف الخزينة الوطنية على مدى سنوات طويلة. النصر عاشت يوما كاملا بحقول الطماطم الصناعية بقالمة، و نقلت مشاهد حية لرجال التحدي الذين قرروا تغيير الوضع على الأرض، و الانتقال بالمنطقة إلى مصاف الأقطاب الزراعية المنتجة لأجود أنواع الخضر و الفواكه و القمح، و كانت الطماطم الصناعية في قلب معركة الاقتصاد الأخضر عندما امتزجت الإرادة بالمال و العلم، و الماء و الشمس، و السهل الخصيب. مهندسون يقودون معركة شاقة في مواجهة التغيرات المناخية قبل بداية موسم الطماطم الصناعية لموسم 2018، كانت كل التوقعات تشير إلى تراجع المحصول الأحمر، و ربما يتوقف تماما بسبب موجة الجفاف التي تجتاح المنطقة منذ 3 سنوات تقريبا، و تسببت في تراجع منسوب سد بوحمدان المغذي لمحيط السقي، و جفاف الأودية الكبرى التي تخترق سهولا واسعة، من حمام دباغ و مجاز عمار غربا، إلى جبالة، بني مزلين، بوشقوف و وادي فراغة شرقا، مرورا بسهل قالمة وسط، أين تتركز زراعة الطماطم الصناعية بشكل مكثف عبر بلديات قالمة، الفجوج، بلخير و بومهرة احمد. بالرغم من الظروف المناخية الصعبة، مازال المنتوج الأحمر محافظا على مكانته بقالمة، حقولا واسعة تغطيها الطماطم الصناعية عبر 10 بلديات تقريبا، و فرق عمل تتدفق باستمرار قادمة من الأرياف النائية و المدن و القرى، و من ولايات مجاورة لم يعد أهلها يهاجرون إلى عاصمة الحديد، و فضلوا الاندماج في مسار الاقتصاد الأخضر الذي بدأ يتوجه نحو مستقبل واعد. تراجعت مساحة الطماطم الصناعية بقالمة هذه السنة إلى أكثر من النصف، بسبب توقف نشاط محيط السقي تحت تأثير أزمة المياه، و كاد الوضع أن يبلغ مرحلة الموسم الأبيض، لكن إرادة المهندسين و كبار المزارعين، كانت كافية ليحافظ المنتوج الأحمر على تواجده ضمن المنتجات الإستراتيجية الأخرى. بداية رحلتنا إلى سهل الطماطم الصناعية بقالمة، كانت من مكتب المهندس الزراعي تامر بوجاهم، الذي يعمل منذ سنوات طويلة على تطوير أصناف الطماطم الصناعية بقالمة، و إدخال تقنيات جديدة على طرق الغرس و المعالجة و السقي، لمواجهة الظروف المناخية الصعبة التي أصبحت تعيق نشاط المزارعين بقالمة في السنوات الأخيرة. بمكتبه بمدينة بومهرة احمد، أطلعنا الرجل على آخر أنواع المبيدات و أدوية التكثيف الصديقة للبيئة، و خزانة الأرشيف الخاص بالإحصائيات و بطاقات تقنية للمزارعين، و تطورات الوضع المناخي بالمنطقة، و برامج الحاسوب التي تعد القلب النابض للعملية الزراعية برمتها. « علم الزراعة يتطور كل يوم، نحن ملزمون بمواكبة هذا التطور لمساعدة المنتجين على مواجهة المناخ الصعب و خفض التكاليف و تحقيق الأرباح التي تسمح لهم بمواصلة النشاط و توسيع المستثمرات و المساهمة الفعالة في تطوير الاقتصاد البديل، و إنشاء الثروة و مناصب العمل». كان المكتب المتواضع أشبه بمخبر تجارب مفتوح للمزارعين على مدار ساعات النهار، هنا رأينا كيف يساهم العلم في صناعة الغذاء و مواجهة التحديات المناخية، من خلال مواد جديدة صديقة للبيئة، قد تحدث انقلابا زراعيا كبيرا بالمنطقة، و تبدد مخاوف الجفاف التي تتكرر كل سنة و إلى الأبد. أصناف جديدة لاحمة وأنظمة سقي اقتصادية توجهنا رفقة تامر إلى مزرعة خاصة ببلدية بومهرة أحمد، أين توجد أصناف الطماطم الجديدة و الفلفل بنوعيه، و مساحة من القمح ذو الجودة العالية، هذه المزرعة التي تتربع على عشرات الهكتارات، أصبحت شبيهة بحقل تجارب، يشرف عليه المهندس تامر بوجاهم رفقة إطارات و عمال المزرعة، هنا تم تجريب صنف جديد تجاوز مردوده الألف قنطار في الهكتار الواحد. صنف جديد من الطماطم اللاحمة التي لا تتأثر بالحرارة، و الشحن، و مدة الانتظار في الطابور أمام وحدات التحويل، حبات حمراء ثقيلة و خالية من كل العيوب و التأثيرات على صحة المستهلكين، لأن كل المواد الكيماوية المستعملة ألمانية أصلية و صديقة للبيئة و الإنسان، و بالرغم من العروض المغرية التي تلقاها أصحاب المزرعة لبيع منتوجهم بأسعار مرتفعة في بداية الموسم، إلا أنهم رفضوا ذلك و قرروا تأجيل عملية الجني إلى ما بعد نهاية مفعول كل المبيدات و المقويات العضوية، و تصبح الطماطم جاهزة للغذاء و التحويل دون مخاطر، الأمان و الشرف و الوفاء عنوان المزرعة الصغيرة التي تقود الاقتصاد الأخضر بقالمة إلى جانب مزارع كثيرة عبر السهل الكبير. و يستعمل المهندسون نظام سقي متطور يعمل بالتقطير للمحافظة على الكميات القليلة من المياه، و مساعدة النبتة على النمو الجيد، دون أن تصاب بالأمراض الفطرية التي ظلت تفتك بالمحاصيل الزراعية بقالمة على مدى سنوات طويلة. و بلغ مردود بعض المواقع الخصبة 1200 قنطار في الهكتار، كما يقول عادل أحد المشرفين على المزرعة، و هو مردود جيد لكنه يبقى قابلا للزيادة خلال المواسم القادمة بدعم من التجارب العلمية، و المساعي الحثيثة التي تبذلها المزرعة، التي تطمح أن تكون رائدة في زراعة الخضر و الفواكه و القمح. العامل الواحد يجني مئة صندوق في الصبيحة عندما توجهنا إلى حقول الطماطم الصناعية، كانت الحرارة عند 44 درجة قبل منتصف النهار، مازال الكثير من العمال بالحقل يسابقون الزمن لجني و تعبئة أكبر كمية ممكنة من الطماطم، قبل المغادرة و الركون إلى الراحة، هروبا من حرارة لا ترحم بواحدة من أسخن المناطق بقالمة، منطقة بومهرة احمد الواقعة بمنخفض تحيط به الجبال من كل الجهات، و تمنع عنه التيارات الهوائية الباردة القادمة من شواطئ الشمال التي تبعد عن المنطقة بنحو 50 كلم فقط، لكن التضاريس الطبيعية حالت دون وصول الهواء البارد إلى حوض قالمة الذي يعرف حرارة قياسية في السنوات الأخيرة. يقول كفالي فريد الذي يقود فريق عمل من بلدية بوحشانة المجاورة، بأن العمل بحقول الطماطم الصناعية يبدأ عندما يستطيع العامل الرؤية مع ساعات الفجر الأولى، في هذه الفترة تكون الحرارة منخفضة جيدا، و يستغل العمال هذه الفترة الهامة لجني أكبر كمية ممكنة من الطماطم، و تعبئتها في صناديق بلاستيكية يتم حسابها بدقة، لأن الأجر اليومي يحسب على أساس الصناديق المعبأة. أغلب العمال تمكنوا في ذلك الصباح من تحقيق نتائج جيدة، و غادروا الحقل، لكن البعض منهم بقي يكافح للوصول إلى المعدل اليومي قبل منتصف النهار، هنا أدركنا معنى الصراع من أجل البقاء، كل عامل يطمح لكسب المزيد من المال لتلبية متطلبات عائلته أطول فترة ممكنة من العام، لأن فرص العمل خارج قطاع الزراعة بقالمة أصبحت قليلة بسبب تراجع قطاعات البناء و الصناعة. يمتاز عمال الطماطم الصناعية بمهارة عالية عند التعامل مع شجيرات الطماطم الحمراء، هم يعرفون كيف يقطعون الشجيرة، و تحريكها بقوة حتى تسقط كل الحبات وسط الصندوق البلاستيكي بأسرع وقت ممكن، و قد يصل العامل الواحد إلى تعبئة أكثر من 100 صندوق في الفترة الصباحية فقط، لأن نظام العمل مقسم على فترة صباحية تبدأ من الفجر إلى منتصف النهار، و فترة مسائية تبدأ من الثالثة مساء إلى غروب الشمس. و بين الفترتين يبقى العمال مخيرون بين البقاء تحت ظل شجرة زيتون في الحقل، أو المغادرة إلى منازلهم على متن سيارات الطويوطا اليابانية، و في الحالتين، فإن الوجبة الغذائية مضمونة للجميع، كما النقل أيضا في الصباح و المساء، كل هذه التكاليف يتحملها صاحب المزرعة، إلى جانب الأجور التي تدفع باستمرار للعمال الذين يحققون مداخيل جيدة أخرجت الكثير منهم من دائرة الفقر، و حولتهم إلى مستثمرين صغار ينتجون الطماطم الصناعية، و مختلف أنواع الخضر و الفواكه الأخرى. اختفت قرية الطماطم الحمراء و انكمشت الطوابير أزمة الجفاف التي تضرب قالمة منذ 3 سنوات تقريبا، بدت واضحة جلية بسهل سيبوس الكبير، حيث تقلصت مساحة الطماطم الصناعية بشكل كبير هذه السنة، و اختفت قرية الطماطم الحمراء التي ظلت تتشكل كل صيف قرب مدينة هليوبوليس، و انكمشت الطوابير الطويلة أمام مجمع بن عمر، عملاق الصناعات الغذائية بالجزائر، ساعات قليلة تكفي لتفريغ الحمولة و العودة إلى الحقل من جديد. يقول فايزي عادل الذي يقود حملة الجني بحقول بومهرة أحمد، « لو لا الأصناف الجديدة و نظام التقطير المقتصد للماء، لما تمكنا من إنقاذ حقول الطماطم الصناعية هذا الموسم، لقد واجهنا متاعب كبيرة بسبب الجفاف، لكننا تمكنا من تجاوز مرحلة الخطر، و وصلنا اليوم إلى مرحلة الجني و تعويض التكاليف، و دفع أجور العمال، نحن سعداء، أملنا أن تتحسن وضعية السقي في المستقبل و تمتلئ السدود و الأودية ليعود محيط السقي إلى النشاط من جديد».