هل يمكن أن ينفصل النقد عن المؤسسة النقدية (الجامعة) للبحث عن اِستقلالية الناقد أم أنّ ذلك يتطلب فضاءً آخر لم يتشكل بعد في الجزائر والعالم العربي بصفة عامة وسائر بلدان العالم الثالث..؟ ما حدود تدخل المؤسسة النقدية في ما يُسمى بالحرية الأكاديمية وهل يمكن الحديث عن مأسسة هي «المأسسة النقدية» كنوع من الاِرتهان للخطاب السياسي الإيديولوجي بوصفه مرجعًا أو عقبة..؟ أيضا هل بوسع الناقد الحر من أي اِرتباط مؤسسي إن وُجِد أن يُعالج بعض الاِختلالات القائمة في صُلب الكتابة النقدية المنفلتة من القيد والمُراقبة وأين هو هذا الناقد..؟ أم أنّ الأمر لا يتعلق سوى بوهمٍ ككلّ الأوهام التي لا وجود لها في الفضاء الثقافيّ العربيّ الّذي لا زال بعيدا عن التفكير في مثل هذه الأسئلة الصادمة للمخيال السياسي العربي المشحون بإرث متنوع من المسلمات التي درج عليها المجتمع العربي ولم يتخلص منها بعد. وكأنّ التخلص منها يتطلب اِنتظار نخبة أخرى من جيلٍ آخر لا ندري متى يأتي أو يحين أوانه. حول «النقد والحرية الأكاديمية»، يتمحور ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد. إستطلاع/ نوّارة لحرش * مخلوف عامر/ كاتب وناقد وأكاديمي اِرتهان الناقد للخطاب الإيديولوجي بوصفه مرجعًا قد يكون عقبة هل يمكن الحديث عن الجامعة بوصفها مؤسَّسة نقدية بالفعل؟ فبالنظر إلى طبيعة مناهج التدريس في الأطوار السابقة، فليس فيها ما ينمُّ عن تربية المتعلِّمين على الرّوح النقدية. ولمَّا يصل الدارسون إلى الجامعة، فإنّ التفكير الغالب، إنَّما هو السعي للحصول على شهادة، ولا يخرجون من دائرة النقل والتلقين. ولا يُسْتثنى إلاّ نخبة قليلة مِمَّن اِستفادوا من منح إلى الخارج وآخرون لم يستفيدوا منها لكنَّهم تمكَّنوا بفضل جهود اِستثنائية من اِستيعاب ما أمكن من النظريات النقدية المُعاصرة واستطاعوا أنْ يستثمروا أدوات هذه المدارس حين نقلوها إلى ممارسات نقدية جديدة تجاوزت الفترة التي هيْمن فيها الخطاب الاِشتراكي، حيث كان الأدباء -مبدعين ونقَّاداً- يتحرَّكون تحت مظلَّة هذا الخطاب، ويعدُّون الاِلتزام بالمضمون مقياساً يميِّز الكاتب المناضل من سواه، وحينئذ لم يهتمَّ أغلبهم بالجانب الفني الجمالي إلاّ ما ندر. إلاّ أنّ هذه التجربة كان لها فضلها أيْضاً، في أنّها منحت اللّغة العربيّة زخماً جديداً سواء من حيث الاِنتشار أو من حيث إثبات قدرتها على معانقة أرقى المعارف والفلسفات، ثمَّ كانت الأرضية التي منها اِنطلق الكُتَّاب لمراجعة رؤاهم وتعاملهم مع النّص الأدبيّ إبداعاً ونقداً. الثابت في المشهد الأدبي أنّ الدارسين عادة ما يعزفون عن ممارسة النقد الأدبي، وقد يعود ذلك إلى أنّهم يستصعبونه لأنّهم يدركون ما يستوجبه النقد من جهود مضاعفة إن في النظرية أو في التطبيق. وربّما اِنساق آخرون، وراء موسم الهجرة إلى الرواية. بينما يبقى كثيرون ينظرون إلى الناقد بعيْن الدونية، لأنّه تابعٌ يقتات على ما يتساقط من مائدة «المُبدع». أتصوَّر أنَّ من اِختار مُمارسة النقد قد يكون اِستفاد من دراسته الأكاديمية في اِكتساب بعض الأدوات المنهجية، لكنَّه لا يلبث أنْ يُغادر ما يبدو له قيْداً أكاديمياً فيتحرَّر في الرؤية وفي اِختيار النصوص التي يُعالجها. وما أكثر الذين لم يمرُّوا بالجامعة أصلاً، لكنَّهم كانوا من خيرة النُقاد. فأمَّا اِرتهان الناقد للخطاب السياسي/الإيديولوجي بوصفه مرجعًا فقد يكون عقبة حين يجعل من النص الأدبي مجرّد جسر لتأكيد قناعاته. لكن في الوقت نفسه لا يصحُّ إلغاء البُعْد الإيديولوجي/السياسي بدعوى أنَّ الاِلتزام قد أضرَّ بأدبية الأدب في زمنٍ سابق. فأنجح الأعمال الأدبية أقدرها على إخفاء هذا البُعْد. لكنَّنا في زمن أصبح فيه الأديب يتَّكئ على كلّ ما يُبرِر تنصَّله من قضايا أمَّته المصيرية، فلم يعد يرى إلاّ صورته في مرآته الصدئة. الناقد المُتحرِّر من أي اِرتباط مؤسسي غير اِرتباطه بالنص موضوع النقد وطبيعته الجمالية، بإمكانه أنْ يكون واسطة مضيئة بيْن الكاتب والقارئ، وأن يدلَّ على النصوص التي تصلح موضوعات للدراسات الجامعية وتلكم التي تستحق أن تُدرج ضمن روائع الأدب.ويبقى الأمل معقوداً على مَنْ يميل إلى الممارسة النقدية. بأنْ يطمئنَّ إلى أنَّها عملية شاقَّة وطويلة فيها من التعثُّر ومن المحاولة والخطأ ولكن لا بدّ أنْ تظهر ثمارها ذات يوم. فالمُمارسة النقدية، ينبغي أنْ يتزوَّد صاحبها بِمّا أمكن من المعارف الإنسانية، وفي مقدمتها ما يتعلق باللّغة العربيّة والتراث العربيّ الإسلاميّ. وإذا هو فضَّل منهجًا ما، لأنّه يستوْعبه ويُطاوعه، فلا يصح أنْ يجعل من النص مطية لتأكيد مقولات نظرية جاهزة ولا التمادي في التلاعب بمصطلحات منبتَّة من جذورها، بل من الضروري -ومهما تكن قيمة المنهج- أن ينصت القارئ/الناقد إلى ما يمليه النص، لأنّ لكلّ نص طبيعته ولكلّ لغة خصوصياتها وأسرارها. فإن وجد هذا الناقد، فإنَّ بإمكانه أنْ يسهم في معالجة بعض «الاِختلالات القائمة في صُلب الكتابة النقدية المُنفلتة من القيد والمراقبة» أو تلكم الخاضعة للقيد والمراقبة. *عبد الحميد بورايو/ كاتب وناقد وباحث أكاديمي مختص في التراث ضَمُرَ النقد بسبب تضخم نقد المؤسسة الجامعية وتضييقها على مساحات حريته يُشير تاريخ ظهور الحركات النقدية وتطوّرها إلى أنّها تمت بصفة أساسيّة خارج أسوار المؤسسة الجامعيّة، وكان يتمّ ذلك خلال القرن الماضي عبر الصُحف، وبالخصوص المجلات الأدبية والنقدية؛ لقد ظهر النقد الرومانسي العربي مثلا في أحضان الكتابة الصحفيّة (مجلة أبولو المصرية، وصحافة الرابطة القلمية في المهجر)، وكانت المجلات والصُحف اليوميّة مِضمارا لظهور النقد الواقعي ثمّ البنيويّ، وما صاحب ذلك من تيارات رمزيّة وسرياليّة الخ.. ويُبرز ذلك واضحًا في النصف الأوّل من القرن العشرين، عصر اِزدهار الصحافة الأدبيّة. وكانت مجلات مثل «مجلة شِعر» اللبنانية، ومجلة «تل كال» الفرنسية ميدانًا للتجارب النقدية الأولى في مجال تجديد اللّغة الشِّعرية والأوزان والتحليلات السيميائية والتناصّيّة والتفكيكية، في النصف الثاني من القرن العشرين الخ... أمّا في قرننا هذا فأعتقد أنّ وسائط المعرفة الرقمية ستكون أداة فعّالة في ما ينشأ من حركات نقدية، إلى جانب اِستمرار المجلة الورقية في تثبيت الحركات التجديدية في النقد.أمّا المؤسسة الجامعية فهي بطبيعتها مُحافظة، تتسلّم النظريات والممارسات النقدية وهي جاهزة وشبه مكتملة لكي تدفع طلابها إلى معرفتها وتطبيقها، ويُسيطر الهاجس التعليمي؛ فتتمّ مَنْطَقَةُ هذه النظريات والتيارات، وتحديد أصولها في النظريات اللغوية والفلسفية والاِجتماعية والأنثروبولوجية والنفسيّة، اِلخ.. طبعا هذا لا يمنع وجود معابر بين الجامعة من جهة والصُحف، من جهة خاصة، باِعتبار أنّ عددا كبيرا من النُقاد، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، والعشريتين الماضيتين من قرننا الحالي هم من أساتذة الجامعة، يُمارسون النقد عبر وسائط الإعلام، والمنشورات، والملتقيات والندوات، ويُؤرخون له ويُمَفْهِمُونَهُ، ويعلمون طلبتهم أدواته المنهجية. يكون النقد طازجًا وتجريبيًا ومحتفيًا بالتجديد في الملاحق الأدبية للصُحف والمجلات المُتخصصة، تنقصه الصرامة، والاِلتزام الحرفي بالمبادئ، ويميل أحيانًا إلى الاِنطباعية والتبسيط، لكونه يضع في حُسبانه القارئ العادي إلى جانب الدارس المُتخصص والأديب، ولأنّه يقوم بتقديم الأعمال الأدبية وعرضها ويُتابع تطورها فيظل مُنفتحًا غير مُنغلق ومُتحررا من الاِلتزامات الأكاديمية المفروضة على الطلبة والباحثين في أروقة الجامعة.. يهتمّ النقد الأكاديمي بالتحليل والتشريح وبيان الأصول والمُؤثرات، والمُوضوعيّة العلميّة، بينما يعتني النقد عبر وسائط التواصل بالتقييم والتوجيه، ويُعنى بفلسفة الموضوعات أكثر من الأدوات الشكلية، ويقلّ اِلتزامه الحرفي بحدود المنهج، وينحو نحو التوفيق بين الرُؤى النقدية والمزج بينها، وتبرز فيه ذاتيّة الناقد بوضوح كبير. بينما على العكس من ذلك، يعطي النقد الأكاديمي أهميّة للنقاء المنهجي وللحدود ولطبيعة الوسائل والمنظومات المصطلحية، وقد يسمح بالمزج بين التيارات شريطة مراعاة المنهجية في النظر إلى العمل الأدبيّ من منظورات مُتعدّدة.. هذا بالنسبة لطبيعة الاِختلاف بين النقد في الجامعة، والنقد خارج جدران الجامعة في العالم، بصفة عامة، وفي البلاد العربيّة. ما عشناه في القرن العشرين –في الجزائر-، حتّى نهاية السبعينيات تقريبًا كان يستجيب إلى حدٍّ ما لهذه الثنائية التي وُصفتُ طبيعتَها سابقًا.. حدث الاِختلال في الخمسين سنة الأخيرة (في الثلاثين سنة من القرن الماضي والعشرين سنة من القرن الحالي). لقد ضَمُرَ النقد في الوسائط، وتضخم نقد المؤسسة الجامعية، بسبب ما عرفته البلاد من اِنحسار للنشاط الثقافي غير الجامعي وللمجلات ووسائط التواصل الأخرى؛ وضُيقت هذه الوسائط من مساحات النقد وغُيِّبَتْ تقريبا (مثل المجلات والبرامج التلفزيونية والإذاعيّة). لهذا السبب قلّ النقد باِعتباره تجريبًا وتقييمًا ومُواجهة للنصوص غير محكومة بقوانين صارمة مفروضة على العمل الأدبي، ومُتابعة حقيقية لِمَا يستجدّ في ساحة الإبداع، وتفاعل بين أطراف العملية الأدبية، ولم يعد له حضورٌ فاعلٌ في الساحة الأدبيّة. بينما اِكتسح النقد الجامعي الميدان، وأصبح عبارة عن محاضرات في الملتقيات الجامعية ودروس ومذكرات وأطروحات؛ بعضها يجد طريقه إلى النشر، وبعضه الآخر يملأ أدراج المكتبات الجامعية. * لونيس بن علي/ كاتب وناقد أدبي عزل النقد عن الإيديولوجيا هو أخطر المواقف الإيديولوجية النقد المُسمّى «نقدا أكاديميًا» هو الّذي يُمكن أن نجد له مُرادفات أخرى: النقد المنهجي، النقد العلمي. يرتبط هذا النقد ب: المؤسسة الجامعية (مراكز ومخابر البحث) وبالمناهج. ما يُميّز النقد الأكاديمي أنّه نقد نُخبوي، يتحرّك داخل مجال التخصّص، ويستعين بالمناهج العلمية، ويكتب بلغة متخصصة يستدعي فيها المصطلحات والمفاهيم. وإذا كانت هناك قيمة اِعتبارية يُدافع عنها النقد الأكاديمي فلابدّ أن تكون قيمة «الموضوعية» (!) على الرغم من الغموض الّذي يحوم حول هذه الكلمة. غير أنّ ما يعتبره النقد الأكاديمي بمثابة نقطة قوّة (المنهج، التخصص، الموضوعية) قد تتحوّل إلى مصدر للاِنقطاع عن القرّاء العاديين؛ فاللّغة المتخصصة، والقضايا النظرية المجرّدة التي يُمكن أن يخوض فيها، خاصة بالنسبة للنقد الّذي يهتم بالقضايا النظرية والشكلية باِسم العلموية، من شأنها أن توسّع المسافة بين النقد والقرّاء العاديين، فيكون النقد مجرّد نص يخاطب أصحاب التخصص. أتساءل: من يقرأ المقال الأكاديمي الّذي يُنشر في مجلات جامعية مُحكّمة؟ هل يصل هذا النقد إلى القارئ العادي؟ وهل يهتم هذا القارئ العادي بما يُنشر في هذه المجلات من مقالات غارقة في موضوعات مجرّدة وبلغة تجريدية؟ في هذا الصدد كتب محمّد مشبال يقول: (والحق أنّ ما جرى من إفراط في إلصاق صفة العِلم بالمُمارسة النقدية، قد ترتب عليه حصرها داخل أسوار البحث الأكاديمي الّذي يجتهد أصحابه في جعل ميدانهم مُغلقًا عليهم لا يكادون يتحاورون مع عموم القُراء الذين يحق لهم المشاركة في بناء هذا النشاط المعرفي)./»أسرار النقد الأدبي». فهذه أشد مُعضلات النقد الأكاديمي، حيث يكون بعيدا عن تطلعات القُراء، ومُنشغلا عنها، حتى يبدو أنّه خلق أسوارا عالية تفصله عن أسئلة الواقع والحياة. يُحاول البعض تبرير هذه العزلة بأنّها تُجنّب النقد الوقوع في شِراك الإيديولوجيا، ويعفيه عن التلوّث بالسياسة، غير أنّ هذه الحجة لا تصمد أمام السؤال التالي: أليس عزوف النقد الأكاديمي عن القضايا التي تمس الرأي العام هو نفسه موقف أيديولوجي؟ فصمت النقد باِسم العلموية عن أسئلة الواقع، وعزوفه عن الخوض في النقاش العمومي بإنزال لغته وقضاياه إلى أفهام القُراء العاديين هو ذلك الصمت الّذي خدم ويخدم أي سلطة سياسيّة، لأنّها تجد فيه ما يُساعدها على الاِستمرار في الوجود.وفي هذه النقطة بالذات، فإنّ النقد الأكاديمي هو نقد مُوجّه حتّى لو اِدّعى الموضوعية والعلموية، لأنّه بصمته يخدم مشروع السلطة السياسية التي تعمل جاهدة على تحييد النقد عن المجتمع. هل الناقد الأكاديمي حر؟ يجب أن نعرف ما هو المقصود بالحرية بالنسبة للناقد الأكاديمي؟ هل نملك اليوم باحثين يتمتعون بالرّوح الإبداعية، وبجرأة طرح السؤال النقدي المُربك؟ هل يختار الطالب الباحث موضوع بحثه؟ هل بإمكانه أن يخوض في المواضيع التي تمس البعد السياسي مثلا؟ إنّ النقد، على غرار الإبداع الأدبي، لا يتحقّق دون حرية؛ وجزء من أزمة النقد عندنا مصدرها تحوّل الجامعة إلى مؤسسة مُسيجة بالمحاذير، ومقيدة بالضوابط، منها التي لها علاقة بشروط البحث العلمي نفسه، ومنها التي تمس قضايا تقع خارج البحث، ونقصد بها الأيديولوجيا. من هنا تأتي أهمية النقد الحر، الّذي يقع خارج المُمارسة النقدية الأكاديمية المُرتبطة بمؤسسة وهي الجامعة. إنّ قيمة هذا النقد أنّه يستهدف فئة أوسع من القُراء، ويعتمد على الجرائد والمجلات الثقافية العامة للنشر، ويطرح قضايا نقدية تهدف إلى تحريك الوعي النقدي والجمالي في القارئ العادي، بلغة مفهومة، وبأسلوب يحرص على إثارة مُتعة القارئ. فالنقد الحر هو أيضا نقد حيوي وإبداعي يُراهن على إبداعية لغته. هذا النقد يُساهم في رعاية القيم الجمالية والفنية وإشاعتها بين القُراء العاديين، كما يُساهم في تهذيب الذائقة العامة، والتحسيس بأهميّة الأدب في حياة الإنسان والمجتمع. * محمّد الأمين بحري/ ناقد وباحث أكاديمي النقد الأكاديمي خطوة غير ناضجة في سلم النقد بمفهومه الأوسع في الجزائر أو في العالم العربي أو في العالم أجمع، علينا التفريق بين نوعين من النقد: النقد الأكاديمي، والنقد المحترف. فالنقد الأكاديمي، ليس ذلك الّذي صدر عن شخص جامعي، أو تلقى تعليمًا مدرسياً، أو ذلك الّذي يحمل شهادة في تخصص الدراسات الأدبية والنقدية الأكاديمية، بل ببساطة، هو من كان جهده النقدي، يصب في إطار إنجاز مشروع أكاديمي، أو بحث تخرج، أو مذكرة تنتهي بتتويجه برتبة أكاديمية؛ ما يعني أنّ جهده النقدي منصب حول نيل شهادة لها ضوابط إدارية، وتواريخ أكاديمية، لإنجازها وفق معايير منهجية تخدم فلسفة المؤسسة وتوجهها المعرفي أكثر مِمّا تصب في مدار تحليل العمل. وذلك لأنّ العمل الإبداعي المدروس من طرف ناقد في إطار تكوينه الأكاديمي، ليس هو غاية الناقد، بقدر ما هو وسيلة لتحقيق غاية أخرى أهم منه (في نظر الأكاديميا) وهي نيل الشهادة والرتبة الأكاديميين. بأهداف وأُطر إدارية بحتة. لأنّ هذا الناقد الأكاديمي شريكاً في منظومة إدارية، وخاضعاً لشرطيتها وخطوطها الاِفتتاحية التي إن تعارضت مع فكر الإبداع الأدبي وأصالته، فإنّه يتم اِنتهاك العلاقة التحليلية العميقة مع العمل الإبداعي، من أجل الوفاء للتوجه الأكاديمي الّذي يُؤطر العملية النقدية هنا. وهو ما يجعلنا نعتبر بأنّ النقد الأكاديمي خطوة غير ناضجة بعد في سلم النقد بمفهومه الأوسع. أمّا النقد المُحترف هو ذاك الّذي يُمارسه شخصان. الأوّل مثقف لم يتلق تكويناً أكاديمياً في هيكلته النقدية التي اِستقاها من متابعاته الأصيلة للحركتين الإبداعية والنقدية، من حوله محلياً وقومياً وعالمياً، فتراه ينجز دراساته بشكل يستهدف تشريح النص الإبداعي وبناء دلالته التأويلية، أي إنّ العمل الإبداعي هنا هو الهدف لذاته ومن أجل ذاته، لتصبح كلّ الأدوات النقدية التي اِستقاها من متابعاته محلياً وعالمياً، وسائل من أجل هذه الغاية. والقسم الثاني من النقاد المحترفين هو ذلك الّذي نشأ في بداياته نشأة أكاديمية تلقى فيها جهاز منظومته النقدية، من المؤسسة الأكاديمية التي تخرج منها، وبعد التخرج، تجاوز كلّ تلك الأطر الإدارية والتنظيمية التي كانت تقيد قلمه بمنهجياتها المؤسساتية، والإدارية. وإذ تحرّر منها، وانفك من إسارها، فعليه في مرحلة قادمة، تجاوز هدفية تحقيق المنهج إلى هدفية محاورة المنجز. فيحوّل أهداف الناقد الأكاديمي الّذي كانه، من الشكل الإطاري إلى المضمون الإنجازي للنص. وبعبارة أخرى تتحوّل وسائل الناقد الأكاديمي؛ متمثلة في المنجز الأدبي الّذي سعى بدراسته إلى نيل شهادة إدارية، إلى أهداف يستثمر من أجل بلوغها كلّ معارف جهازه النقدي، الّذي صار متحرراُ ومتجاوزاً لقيود الأكاديميات الجامدة. وهنا نستطيع أن نقول بأنّ الناقد الأكاديمي قد صار محترفاً، حينما يقطع علاقته بالوفاء للمنهج، ويستبدلها بالوفاء للنص، وبعبارة أوجز، نقول: إذا كان المنهج عند الناقد الأكاديمي هو من يقرأ النصوص التي يتم إسقاطه عليها. فإنّ النص لدى الناقد المحترف هو من يقرأ المناهج، ثمّ يفككها، ويختار ما يصلح لهوية النص منها، فيقرأها ويُحاورها ويُعدِل فيها، ويقبل منها ما يتلاءم ودلالاته ويسقط منها ما لا يتوافق مع رؤيته، وهذا ما يُحرّر النص ورؤية الناقد من سطوة المناهج الأكاديمية التي كانت تفرض عليه قبل التخرج. ويتطور إلى ناقد محترف يقرأ النص بروح المناهج، ويقرأ المناهج بفلسفة النص، ويستخلص دلالاته من رؤيته التراكمية، وليس وفاءً لأي إجراء أو منهج خارجي. والدليل على هذا التحوّل الإيجابي؛ أنّ كثيرا من المذكرات والبحوث الأكاديمية أضحت منجزات نقدية، بعد اِنتهاء مرحلة التكوين الأكاديمي، لكن بعد تحويرها كلياً، وتجريدها من صبغتها الأكاديمية، وإعادة كتابتها بشكل يُلائم روح النقد لا روح الإدارة وشرطياتها الأكاديمية، ليصبح الناقد مستهدفاً للنص بعد أن كان مستهدفاً نيل شهادة، كلفته من قبل؛ التنازل عن جواهر الرؤية التحليلية، فأسقطها فقط بسبب تعارضها مع الرؤى الأكاديمية. أمّا الوجه المأساوي من كلّ هذا الإنجاز النقدي، أن يتم طبع الرسائل الأكاديمية، كما هي في صيغتها التي تخرّج بها الباحث، لتصبح كِتاباً نقدياً هو نسخة طبق الأصل للمذكرة، دون إعادة كتابة، وتحوير جذري، يُحرّره من الأكاديميات التي لم يعد لوجودها أي معنى خارج أسوار الجامعة. فنجد أنفسنا أمام رسائل أكاديمية، صرفة في شكل كِتاب. وما هذا بالنقد الناضج ولا ينبغي له. أمّا عمّا يملأ الساحة الآن من منجزات فهناك إنزال نقدي مُحترف غزير، يكتب فيه الكثير من النقاد المحترفين، مِمّن ولدت ذائقته دون تكوين أكاديمي، لكن صقله الميدان الّذي يهواه، فانتقل من الهواية إلى الاِحتراف، بقوة نضجه الثقافي. ومنهم من كان من الأكاديميين، فكسروا القوقعة الأكاديمية بمجرّد خروجهم من فترة التكوين، وحرروا ذوائقهم، ورؤاهم النقدية التي تجعل النصوص بين أيديهم تخترق كلّ المناهج، وتُضيف إليها من روح النص، فتقبل ما تستسيغه، وتسقط ما لا يتماشى وروح النص. كما لا يزال (بكلّ أسف) من منتسبي النقد الأكاديمي، من يطبعون المذكرات الأكاديمية. مُصمتة في منهجيتها، وأسلوب كِتابتها، وأبجديات قوالبها التي لا تمت للنص بصلة. ولا يزالون يرسلونها إلى المطابع. ليعيدوا نشرها كرسالة أكاديمية موجهة للإدارة، (رغم أنّها قد خرجت منها) أكثر من كونها منجزاً نقدياً مُوجهاً للنص وجهداً مُوجهًا للمُثقف الأشمل. كأنّهم يعتقدون بأنّ الشارع الثقافي الّذي يتوجهون إليه بتلك الرسائل الأكاديمية المنشورة، مشكلاً من طلبة في طور التكوين. وهذه الفئة من الأكاديميين، مازالوا يرزحون تحت قوقعتهم الأكاديمية، يرفضون الخروج منها، ولعلهم لا يعرفون الخروج منها، لقراءة نص معين لذاته ومن أجل ذاته.