علاقة المبدع بالناقد، كثيرا ما كانت تصادمية، عدائية، مبنية على توجس متبادل ومتواصل، وهذا ما ساهم ويساهم بوجود قطيعة مستفحلة بينهما، وإن حدث وكانت هناك علاقة، فهي غالبا ما تكون متوترة ومربكة وباستعلاء ملحوظ من الطرفين معا، وهذا ما يفتح أبواب الخصومات والصراعات. فيصبح المبدع خصما للناقد، لا يعيره ادنى اهتمام، ويصبح الناقد خصما للمبدع وجلادا يقوم بجلد أدبه ونصوصه (بسوط النقد) حسب تعبير بعض الأدباء. هذه حالة تسود الوسط الثقافي الجزائري والعربي عموما، وهي في حقيقة الأمر تشكل أزمة في علاقة المبدع والناقد، وهي أيضا حالة شائكة متأزمة ومأزمة تشهدها الساحة الثقافية على الدوام. كراس الثقافة في عدد اليوم، ومع مجموعة من الكُتاب والأدباء، يطرح سؤالا مفاده: "كيف هي علاقة المبدع بالناقد"؟. وفي ذات الوقت يتناول هذه المسألة الشائكة، وفي سياق هذا التناول يتم التساؤل أيضا عن ملابسات واعتلالات هذه العلاقة وعن ما إذا كانت حقا تعاني من أزمة متواصلة، ولماذا هذه الأزمة الماكرة التي هي أيضا بشكل أو بآخر وليدة نرجسية ما. إستطلاع/ نوّارة لحرش محمد مفلاح/ قاص وروائي الحياة الثقافية لم تعرف حركة نقدية تشيع جوا سليما بين المبدعين والنقاد ازداد اليوم الاهتمام بالنقد الأدبي في هذه الفترة التي تكاثر كتّاب الرواية والقصة، وقد يعود سبب ذلك إلى حاجة القُراء لرأي الناقد في النصوص الإبداعية، ولكن هذه الحياة الثقافية لم تتبعها حركة نقدية قادرة على توفير جو سليم بين المبدعين والنقاد. فالمبدع يتمنى أن تحظى نصوصه باهتمام القراء بعيدا عن عالم النقد الأدبي المثير لحساسيته، والناقد يريد من وراء كتاباته النقدية أن يقدم خدمة للأدب ويتواصل مع القراء متجاوزا نظرة المبدع لعمله، وأرى أن تشبث كل واحد منها بموقفه هو عِلة هذه العلاقة التصادمية.وهذه الوضعية المتوترة عاشها كتّاب من مجتمعات أخرى، فقد عاني منها روائيون كبار أمثال فولكنر، وشتنباك، ونجيب محفوظ، فعبروا في حواراتهم عن مشاعرهم الحادة نحو النُقاد المتحاملين على إبداعاتهم. ولاريب أن موقف هؤلاء الروائيين مرده للنقد المضاد الذي يمارسه كتّاب لا يقدرون الجهود التي يبذلها المبدعون لإنجاز أعمالهم فيحكمون عليها بالفشل وفق معايير نقدية اصطنعها النقاد لأنفسهم.وبالنسبة لي فقد عشتُ تجربة قاسية في بداية مساري الأدبي، إذ تجاهل النقد كتاباتي، وصراحة أعترف أن عدم التفات النقد الأدبي إلى أعمالي آلمني لأنه لم يسمح لي بالاطلاع على مواطن القوة والضعف في رواياتي، ولم يمدني ببطاقة إضافية كما كنت أحلم لمواصلة الكتابة الشاقة. وما اهتديتُ إليه من أسرار تقنية ونقائص فنية كان بفضل مطالعتي المستمرة للرواية، وكُتب النقد والفكر. ولما بدأ مؤخرا بعض الاهتمام برواياتي اكتشفتُ في هذا النقد موقفين: موقف يدرس رواياتي بموضوعية ويعالج فيها قضايا محددة كاللغة، والزمن، والفضاء إلخ.. وقد أفدت منه كثيرا. والموقف الثاني ينتقد أعمالي انطلاقا من رؤية إيديولوجية أو أفكار مسبقة يتقمص فيه الناقد دور الداعية المبشر بنماذج محددة من الكتابة الإبداعية.وفي هذه المرحلة الصاخبة يسهم بعض النقاد عبر وسائل الإعلام في تكريس أسماء بعينها، وقد عملت الوسائط الحديثة على خلق جو ثقافي متعدد الأصوات فظهر نقد أدبي تحكمه المجاملة، والانتفاع، والشللية. وبالرغم من هذا الجو الذي أفرزته التحولات التي تشهدها البلاد، فأنا أومن أن النصوص تظل دائما في حاجة إلى كلمة الناقد، لأن النقد وحده هو الذي يرسخ العمل الإبداعي في ثقافتنا، ويفتح له منافذ مضيئة في ذاكرتنا. وأؤمن أيضا أن الروائي والكاتب الجاد لا ينتظر من الناقد أن يمدح شخصه ويعترف بموهبته، فالمبدع المهموم بفنه فقط، يظل منشغلا طوال الوقت بالكتابة. والناقد الجاد أيضا لا يجامل الأدباء ولا تهمه الحملات التي تهدف إلى تكريس أسماء إبداعية بنية التقرب منها والاستفادة من نفوذها.وأنا الآن وبعد تجربتي الإبداعية، أنتظر من الناقد أن يفيدني بمعرفته الذكية أي أن يوجه نظري إلى أسرار حرفة الكتابة ويسهم في تعميق رؤيتي الفنية، ويقدم لي قراءة جديدة لم تخطر ببالي حين كنت منكبا على العمل الإبداعي الذي سهرت سنوات لإنجازه. وأشعر أن الوضعية الحالية ستدفع النقاد والباحثين الأكاديميين المطلعين على الانتاج الأدبي والمتسلحين بالمناهج العلمية، لقول كلمتهم والإسهام في ترشيد الحركة الأدبية، فالقارئ العادي لا يمكنه الوصول إلى الرواية الجيدة إلا عن طريق النقد النزيه، ولاريب أن جهودهم ستثمر بفضل وسائل الإعلام المتفتحة على كل المدارس الأدبية ومبدعيها. إسماعيل مهنانة/ كاتب وأستاذ محاضر للفلسفة الغربية المعاصرة في جامعة قسنطينة لا وجود لتقاليد نقدية في الجزائر والصراع تجربة ظاهرة صحية حين نتكلّم عن علاقة المبدع بالنقد في الجزائر يجب أن نضع نصب أعيننا أننا نتكلم عن تجربة جديدة مقطوعة التقاليد التاريخية، أولا: لا توجد في الجزائر أية مدرسة نقدية مكتملة الخصوصية والتقاليد سواء كانت فرنكفونية أو معرّبة. ولهذا فإن الناقد الجزائري لا يملك أية مرجعية محلية وإنما يحتكم إلى مدارس غربية ومشرقية، وفي غالب الأحيان تكون مرجعياته هجينة تحاول الاحتكام الى الكثير من النظريات المعاصرة. ولهذا فإن العمل الأدبي الواحد قد تختلف فيه التوصيفات النقدية إلى درجة التناقض.من جهة ثانية فإن المبدع المعاصر لا يعير كبير اهتمام للنظريات النقدية أو لرأي الناقد حين يكون منهمكا في دوّامة الكتابة. إن الشّاعر أو الروائي أو حتى الفنّان في العمل الفني يكون مأخوذا كلّية من طرف اللغة، كمن يكون تائها في الغابة، سيكون حينها منقادا بهاجس واحد وهو تخريج عمله داخل اللغة تخريجا جماليا فريدا، بل تخريجا مستعصٍ عن تنبؤات الناقد إن كان للناقد أي حضور لحظة إبداع عمل شعري أو روائي. الكتابة، وأتكلم هنا عن الكتابة المحترفة لا المبتدئة، عمل معقّد وبالغ الصعوبة لا يكابد أخطاره الحقيقية إلا من يكون مستغرقا كليّة في لجّته. أما الناقد فيقرأ العمل مستلقيا في أريكته، ثم يقرر ما إذا سيكتب عن العمل أم لا، ثمّة إذن قسمة غير عادلة للأدوار. هذا لا يعني البتّة أن نكتب وننشر أي شيء. في النهاية "سوق القراءة" كفيلة في اعتقادي بفرز الغثّ من السمين. ولهذا فإن ناقدا مبدعا وحده يمكنه أن يتماهى مع تجربة الكتابة الإبداعية. في الجزائر نجد الكتابة الإبداعية أكثر انتشارا من الكتابات النقدية، خاصة في مجال الرواية، في الرواية المكتوبة باللغة العربية عادة ما يكون الناقد روائيا أيضا، رغم ظهور النقد الجامعي/الأكاديمي في الآونة الأخيرة الذي يريد تأسيس تقاليد نقدية محايدة لكن النظرة لم تكتمل بعد، وهذا سبب الحساسيات والتوتر بينهما. فالمبدع يجد في توصيفات الناقد تطفلا على تجربة ذاتية معقّدة خاصة إذا كانت تخلو من المجاملة، والناقد يرى أن عمله أكاديمي محض لا يستجيب إلا لشروط النظرية النقدية الصارمة ومشرط الحكم النقدي. أعتقد أن هذا الصراع ظاهرة صحية إذا تم تكريسها خارج الحسابات الشخصية، في كل التجارب والمدارس الأدبية الكبرى كان هناك حساسيات وصراعات فكرية على صفحات الجرائد وحتى على الشاشات التلفزيونية، لكنها أثمرت في النهاية أعمالا نقدية وإبداعية ضخمة، في الجامعات الأمريكية تكاد تكون لكل جامعة مدرسة نقدية مكتملة الملامح، وكل ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى الحرية الأكاديمية التي يتمتع بها الناقد. عبد السلام فيلالي/ كاتب وأستاذ بجامعة عنابة يأتي النقد، متطفلا، متلصصا، وخائنا الكتابة أمل المجتمع، مع رواية-مثلا- تستوفي الشروط الفنية لكاتب يعرف كيف يرسم مآلات وحيوات عصرها من خلال بناء صيرورات أشخاص وأماكن.إن الأمر سيعدو بمثابة يوتوبيا تستطيع التجسد، وإصلاح ممكن لعيوب السياسة والإنسان.هكذا يأخذ الحلم، فُلك الكاتب، مكانه ضمن جغرافيا التيه والفشل والخيبة لكي يتحول إلى مجال أثير جدا لعلماء اجتماع الخيال ينفذون فيها مشاريعهم غير المعقولة.أليست الكتابة خير البشر، وأن تطويرها وتثمينها في المجتمع يعني تطويق لنزعة الشر وتوسيع لأفق الحب والإنسانية.لو أن الكتابة هي هذا، سوف يحتفي الناس بصباحاتهم ويرسلون الورد في مساء الحرب للثكنات:توقفوا!. يقول أبو حيان التوحيدي:"الكلام عن الكلام صعب"، كذلك يأتي النقد، متطفلا، متلصصا، مغامرا، خائنا، مؤولا، يحاول أن يقنع المعنى بتأجيل تعالي أنطولوجية تحاول اختراق سياج "الضمير الجمعي" كي تصير معنى كل المعاني، أين يصير الفرد هو الكل!.نعم، تستطيع أن تكتب عندنا،لكن لا، وألف لا، لن تستطيع أن تكون ناقدا. النقد يعني تلمس المعنى "المدني"، قهر النزعات الأنانية، تثوير ما قد يصير "نموذجا مثاليا"، تجاوز الظاهر إلى ما يؤسس لحقيقة اجتماعية:حرية، تعددية، كرامة، احترام...يعني ألا يكون الوقت للانتهازية وللزبونية، وما ينفر الكاتب. هل يكمن أن نسمي ناقدا بعد "محمد مصايف"؟ المشكلة أن الجامعة تدرس النقد ومدارسه، والدراسات النقدية كم كبير، لكن أين هو النقد؟لكأنه الخجل من أن نكتب عن الكتابة، لذلك ينفتح المجال أمام أي تشكيل لغوي بلا تقعيد، ويصير النص أي نص.قلبي على الرواية، وجدناها قائمة في نهاية الثمانينات (عزوز الكابران، مثلا)، كان الاحتفاء باحترام العمل الجاد المتكامل،اليوم تسمى رواية، لكني لا أستطيع (التمثيل).شيء غريب أن تصعد العناوين متكبرة على القارئ، تشق طريقها إلى المعارض في "عنجهية" غير آبهة لما يجب أن يكون.وقد سألت صديقي:أحق ما يقال، أجابني:"بروباغندا..". أي أن مخاييل نعيمة ترك "غرباله"، صار المرور بلا تذكرة، و"سفود" الرافعي انتهى.و"نصية" رولان بارت لا تستقيم مع حالة الاعتداد العامة.والقراءة ممر مفتوح بلا علامات. لا أستطيع أن أحكم على عمل الآخرين لأني أخاف ردة الفعل الناقمة، لذلك يمر النص بلا إشارات تدل عليه.كأنه فعل التحولات الاجتماعية التي عُدلت معها معاني ثنائية الذات/المجتمع.صار الهم هو الخروج سالما من مقدرات غير إبداعية كأولوية الأولويات.وحينما يخرج النص فإنه إلى خيمة كبيرة سمتها الصمت المطبق، لأن الكلام-لحظتها- يعتبر تدنيس لشرف ذهب ولن يعود. عيسى شريط/ قاص وروائي العلاقة بينهمامبنية على قاعدة "أحبك أباركك، لا أحبك ألعنك" العلاقة بين الناقد والمبدع في الجزائر على الخصوص وربما في العالم العربي أيضا، بُنيت ولازالت مبنية على قاعدة "أحبك أباركك، لا أحبك ألعنك"، هي معادلة قد تكون متداولة في المجتمع وقد تندرج ضمن المنطق السلوكي الاجتماعي العادي، لكنها معادلة تتجرد من منطقها وموضوعيتها إذا ما اعتنقها الناقد في مختلف الفنون والآداب، فتأخذ لها في هذه الحال تأويلين اثنين.. أما التأويل الأول، فأن الناقد يمارس وظيفته النقدية اعتبارا للعلاقة والمحاباة، فيسهر بأمانة عمياء على متابعة وقراءة أعمال أصدقائه ومعارفه نقدا إيجابيا يرتقي ربما بالقاص أو الروائي أو الشاعر محل نقده، الى مصاف النجوم والرواد في فضاء الحياة الأدبية مهما كان مستواه الابداعي، وإذا ما اختار مجبرا قراءة عمل أدبي لكاتب لا يعرفه ولا يحبه كإنسان، فينكب على عمله قدحا وهجاء. أما التأويل الثاني لهذه القاعدة، فهو يندرج ضمن خانة التفضيل أو النفور بمعنى أن الناقد يُقبل على ممارسة فعله النقدي بالنسبة إلى العمل الأدبي الذي ينال إعجابه وبالتالي تفضيله، غير أن فعل التفضيل أو النفور أي قبول النص أو رفضه، لا يأتي اعتباطا من قِبل الناقد، إنما يأتي مؤسسا على ما يمتلكه الناقد من تراكمات وتجارب وممارسة فكرية ومعرفية تمكنه من ذلك.هذه القدرات المكتسبة لدى الناقد إذا ما عمل على صقلها بشكل متواصل عبر الممارسة النقدية التطبيقية، توفر له إمكانية الغوص في أعماق النص الأدبي وتحويل الانطباعات السريعة المستوحاة من النص إلى قراءة نقدية ملموسة عبر كل أبعادها، وتتحقق بالتالي، عمليتا التفضيل أو النفور من خلال التمييز بين الجيد والرديء بشكل موضوعي يبتعد عن الموقف الشخصي المؤسس على العلاقة والموقف اتجاه المؤلف.هذا ما يحتاج إليه النقد الأدبي في اعتقادي، فما قد يعتبره الناقد مثلا، نصا روائيا رديئا من حيث البناء، يظل رأيا نسبيا إذا ما تأملنا طبيعة الروايات، فعلى الرغم من رداءة بنائها فهي روايات مفعمة بالحياة، قد يغيب هذا الجانب الحيوي عن الناقد، أو لعله لا يهمه، فيهمله. أما عن واقع النقد الأدبي في الجزائر، فأعتقد أنه قد تأسس على قاعدة المحاباة بشكل مغال وتبنى معادلة "أحبك، أباركك..لا أحبك، ألعنك" منذ البداية، فانكب على ممارسة وظيفته النقدية على أساسها غير مبال بجودة النص أو رداءته، ولعله أهمل بذلك أجود النصوص التي وجدها تستحق العرض والقراءة النقدية خدمة وترقية للفضاء الأدبي الجزائري. هذا الموقف يجعل من العلاقة تصادمية بكل تأكيد. ربما الناقد الجزائري عاجز عن ممارسة وظيفته النقدية نتيجة لافتقاره إلى الأدوات التي تمكنه من ذلك، أو ربما يرى نفسه أسمى من كل ما نُشر وما يُنشر من نصوص لم تتمكن من إثارة فضوله النقدي اعتبارا لضعفها ورداءتها،أو لعلها سياسة الكِتاب والنشر والتوزيع المعمول بها في الجزائر والكابتة لكل مبادرة مبدعة في شتى مجالات الفنون والآداب والنقد.وعلى الرغم من كل ذلك ولكي أخرج من خانة الإجحاف في حق النُقاد الجزائريين، لابد من التنويه بما يُنشر من حين لآخر من دراسات نقدية تنشط التفاؤل على الرغم من اعتمادها قاعدتنا المذكورة، فضلا على أن كل النُقاد الجزائريين لديهم ظاهرة الإهمال المتعمد أو غير المتعمد لما ينشر من أعمال أدبية راهنة، واستمرار صمتهم وبطالتهم يثير الريبة والاستفهام والتأويل، فإلى متى يظل هذا الواقع النقدي الساكن على هذه الحال التي لا تثير سوى الإحساس باليأس وخيبة الظن لدى المبدعين الجزائريين؟. زرياب بوكفة/ كاتب وروائي النُقاد يعتبرون أنفسهم حماة للإبداع وُصِفَ النُقاد مذ أن أصبح النقد فنا وامتهانا بأبشع النعوت، فقد وصفهم بايرون مثلا بالسمية -الفطر الذي يغزو لحاء الأشجار فيقبح جمالها ويظل يقتات منها حتى بعد موتها- ووصفهم صنع الله إبراهيم بوقابي الموانئ أولائك البطالون الذين لا حرفة لهم إلا عد المراكب وتوقيب ما اصطادت وزرع الفتنة بين الصيادين وفي الأخير تسول بعض السمك واللعنات. أما حنة مينا فعايرهم بكونهم طيور البحر التي تتكاسل عن الصيد معتمدة على ما تجود به سفن الصيد. في العموم كل ما قِيل من سوء في النُقاد نبع من غيض الكُتاب، أما النُقاد فهم يعتبرون أنفسهم حماة للإبداع وحُراسا للنوايا، فهم يقومون ويصطفون ويلوذون عن عالم لا يجب أن يكون مرتعا لكل من استسهل الإبداع. فلولاهم لما كان للأدب مدارس ومذاهب،ولما كان هنالك بريدوم ولا جويسفهم يعطون بعدا أعمق وأصدق للإبداع ولولاهم لأصبح الشعر كله نزار قباني والقص كله قي دي كار. هكذا هي علاقة النُقاد والمبدعون عنف وتشاحن، ولا يمكنها إلا أن تكون كذلك، فالإبداع متوقف على خوف المبدع من الفشل وعماد الناقد تحين فشل المبدع. والحقيقة أن أكثر المبدعين حساسية وعداوة للنُقاد هم المبدعون الأقل موهبة وأن في الأصل صراع الإبداع والنقد والمبدع والنافد صراع تكامل وتوافق وما العداوة والتنازع إلا معركة على الورق تنتهي بعمل إبداعي موفق يجد زاويته في المكتبات والجامعة، وعملا إبداعيا فاتحا شهية لإبداع أكثر وعيا ورزانة. أذكر أن الطاهر وطار رحمة الله عليه أطلعني يوما على مقالة نقدية لروايته "الشمعة والدهاليز" منشورة في أحد المجلات المشرقية لناقد جزائري كبير هو صديق مقرب جدا له وقال لي مغضبا:"كيف يمكن لهذا الأغيول أن يفهم شيئا ويكتب مثل هذا بسبب 400 دولار ثم يأتي في الغد يقاسمني غذائي". وصادفت عمي الطاهر بعدها بأيام يشرب الشاي معه وهما يتمازحان حول شنب أحد الجنرلات. في الأخير لم يقلل النقد من شأن إلا من قل شأنه أصلا، كذلك لم يقتل النقد أحدا، بالعكس، فالناقد قارئ ممتاز، لص محترم وصعلوك برجوازي ك: مفتش الضرائب. عبد الحفيظ بن جلولي/ قاص تصادم وتوجس وقطيعة أحيانا النّقد والإبداع، ذلك الجدل القائم على أساس الخصومة الفعلية أو المفترضة بينهما، تَنازُعُ الأحقية في مجال ما يدور بينهما من تفاعل، حيث تثار أهمّية النقد بالنّسبة للإبداع وأهمّية الإبداع بالنّسبة للنقد، ومن جدل الخصومة وقضية الأولوية في ما بينهما بالنّسبة لأحدهما على الآخر، ينشأ ذلك التصادم الوهمي من الناحية النّظرية، لأنّ الواقع شيء آخر، وسبب منشئه، أي التصادم، هو غياب الممارسة الفعلية لعملية النقد المتجرّد لقراءة النص الإبداعي، كما يقوم ذلك في جغرافيات أدبية عريقة، حيث تناول النص لا يخضع لا لصداقات ولا لتصفية حسابات، لأنّ الإبداع السردي أو الشعري حقيقة وواقعا هو النص الذي يقوم عليه إبداع الناقد، ولهذا كان النّقد إبداعا على إبداع، لأنّه "مجالسة ومؤانسة ومدارسة" للنص.لا يمكن أن يكون النقد ولا الإبداع كموضوعتين جماليتين مثارا لحساسيات تخرج بهما عن مسار إنتاجالرّؤيا وتفجير التأويل وتفتيح الجمال،وأينما غاب المنظور القرائي التفاعلي/النقدي وسادت ميكانيزمات دفع النص كإلزام للمدح والإطراء طمعا في تداول الإسم وانتشار النص، فإن العملية المزدوجة إبداع/نقد تخضع لأهواء الفاعلين فيها ولمنظوراتهم الصادرة عن وثوقيات مزيّفة في كمال الإنتاج المعرفي، وبالتالي وبالضرورة، تتأسّس تلك الثنائية كمراكز تفصلها العوازل والجدران السميكة. ما من شك من أن الإبداع هو مادّة النقد، ودونه لا يمكن أن تنبثق وتتطور بالتبعية العملية النقدية، لكن المبدع أحيانا يريد أن يكون الناقد ظله، يتبعه أينما حلّ وفي كل مناسبة نصية، لا يقول إلا ما يريده أن يقوله، وهنا لا يمكن أن يكون الناقد مجرّد منتج لمادة تحت الطلب، وخصوصا وأن النقد أصبح فلسفيا بامتياز، والمناهج أصبحت غاية في الإنفتاح على آفاق جمالية تختزن السؤال وتفجر بنيات النص للوقوف على الجذور العميقة لمادّة الادب في حركتها وحِراكها التاريخي واليومي، وبالتالي ليست كل النصوص قادرة على تحريك مثل هذه الإحساسات العميقة بالنص، وتنبيه القارئ إلى نبض توثبها وتوترها، وهكذا يبدو لي أن العلاقة بين المبدع والناقد يشوبها التصادم والتوجس وأحيانا القطيعة، وكل هذه السلوكات تسجل حضورها بقوة في المشهد الثقافي الوطني لأن وقد أكون مخطئا المبدع لا يريد إلا أن يسمع صوته داخل النقد، وأحيانا يكون النقد المجمالاتي وبالا على المسار النقدي الهادف إلى التأسيس المنهجي والمدرسي، ويفتح بابا لكل ما يحول بين الموضوعية النقديةوالإنطباعية الممجّدة.هذا لا يعني أن الناقد منزّهًا عن المساهمة في أزمة الثنائية نقد/إبداع، حيث نجد من يمارس النقد الجاهز والمصنّف "تحت الطلب"، وتغليب جانب الشللية على جمالية تلقي النص، وهو ما ينتج من خلال ذلك الفعل الذي يتم تبعا لتبادل إهداء الأعمال الأدبية، وأحيانا يطلب من الناقد أن يكرم النص، وطبعا لا يمكن أن نفصل الناقد عن طبيعة شخصيته الإجتماعية التي لا يريد لها أن تنفصل عن المحيط بخلق العداوات المجانية، فهو مظطر سلوك سلبي لأن يكتب مجاملة، فتلتقي انطباعاته مع بعض الأقلام الإبداعية، (وكل مبدع ليس بالضرورة ناقدا)، التي تكتب انطباعاتها حول بعض الأعمال، وهو ما يغوي الفاعلين الإبداعيين بتكريس مثل هذا التصرف، والذي طبعا ينعكس سلبا على تطوّر النقد الوطني، الهادف إلى التفرّد بمدرسة نقدية على غرار ما ينتج في العالم، ولا يتحقّق ذلك سوى باحترام الحدود بين المبدع والناقد، وتضافر الجهود لكي يروّج العمل إعلاميا ويصل إلى الناقد عن طريق العملية التداولية التي يخضع لها العمل الأدبي خلال قنوات حركته الطبيعية، أي الرمز في فعل المكتبة التي تعتمد الواجهة، أي الإغراء بالتصفح والإقتراب من العمل، حيث تتحقق إما شرارة الإنخطاف والميل للعمل أو العزوف عنه، ثم بعد ذلك تأتي عملية إبداع النص نقديا، وهي المرحلة الأشدّ جمالية والأشد التصاقا بالناقد، لأنها تذوّقية بالأساس، وهنا مفرق الطريق بين المبدع والناقذ، فالعملية النقدية ذوق قبل كل شيء، يقود إلى مدارسة النص بعد المجالسة والمؤانسة، وكل فعل دون هذه العلاقة إنمّا يريد للناقد أن يشتغل دون ذوق، وكما يقول المتصوّفة: "من ذاق عرف ومن عرف اغترف".