شجارات لا تتوقف ونقص الإمكانيات يرهق الأطباء والممرضين يشهد مستشفى علي منجلي بقسنطينة ظروفا كارثية فرضها نقص الأدوية والمعدات والمستلزمات الطبية، وافتقاره لمصالح هامة على غرار المختصة في الحروق وأمراض العيون والقلب والإنعاش وغيرها، كما لا يتوفر إلا على سيارتي إسعاف، وهو ما يجعل الخدمات المقدمة به لا تكفي لتلبية احتياجات قرابة نصف مليون نسمة، ما يضطر الطاقم الطبي إلى تحويل المرضى إلى هياكل صحية أخرى، وسط ملاسنات و شجارات لا تكاد تتوقف، وهو ما تنقله النصر في هذا الروبورتاج. روبورتاج: حاتم بن كحول اكتظاظ، شجارات، صراخ و فوضى، هذا كان أول ما سمعناه و لمحناه عند اقترابنا من باب مصلحة الاستعجالات بمستشفى علي منجلي في حدود الساعة السابعة مساء، و قد شدنا هنا العدد الهائل للمرضى ومرافقيهم و كأن المستشفى استقبل للتو ركاب حافلة تعرضت لحادث مروري. بدأنا التوغل وسط تلك «الحشود البشرية» ومشينا بخطى بطيئة يمينا وشمالا وكأننا نركب أمواجا بسبب التدافع الكبير، لنجد أنفسنا في زاوية تمكنا من خلالها من الإطلاع على ما يدور داخل قاعة الانتظار، حيث لاحظنا تواجد أطفال و رضّع و كبار السن وشباب و قد كانت وجوههم عابسة و كان الألم باديا على بعضهم. وسط القاعة كان بعض الأولياء يسيرون بسرعة ذهابا وإيابا والتوتر ظاهر عليهم، وكأنهم ينتظرون نتيجة مصيرية أو حاسمة، و قد كنا نسمع بين الحين والآخر عون الأمن ينادي برقم ما، وبيده مربعات ورقية، توجهنا نحوه لنعرف عدد المرضى فأعلمنا أنه وصل إلى 107، فيما لا زال في الانتظار أكثر من 100 مريض. مرضى يضطرون لشراء الضمادات والانتظار لأكثر من ساعتين قررنا البقاء لمدة بقاعة الانتظار التي كانت ضيقة و بها مقاعد عددها على أصابع اليدين، و هنا شدتنا النظرات الحادة لبعض الجالسين والتي تراقب كل من يرغب في الولوج داخل مصلحة الاستعجالات التي يفصلها عن قاعة الانتظار باب صغير يقف به عون أمن، وكأنها تقول «إنه دوري عليك بالانتظار»، في حين كانت حالات مستعجلة تدخل بين الحين والآخر و تتمثل أحيانا في مسنين يُدفعون على كرسي متحرك وأحيانا أطفال صغار يعانون من ارتفاع حاد في حرارة الجسم، وهو ما يجعل البعض في حالة هيجان ويصب جام غضبه على عون الأمن والذي بدوره يسعى للتهدئة في كل مرة، خاصة وأن بعض المرضى فاقت مدة تواجدهم بالمستشفى الساعتين. وبينما كنا نراقب مشاهد الألم والغضب، سمعنا كلمات نابية وشتائم موجهة إلى أحد أفراد الطاقم الطبي، ليسرع عون الأمن نحو مكان الضجيج، حيث علمنا أن الطبيب لم يكن يملك ضمادات وطلب من المريض التكفل بجلبها من إحدى الصيدليات وهو ما لم يتقبله المصاب، و قد وجدنا أن قاعة الفحص ضيقة جدا ومساحتها لا تزيد عن 5 أمتار مربعة، و بداخلها 3 ممرضين و3 مرضى إضافة إلى ولي مريض وطاولة تستعمل في المعاينة ومكتب. 4 قاعات لاستقبال 400 مريض يوميا لمحنا طبيبا يمر بجانبنا، فسألناه عن سبب عدم توفر الضمادات، ليجيبنا أن المستشفى لا يتوفر على عديد المعدات والمستلزمات الطبية وحتى على أدوية مهمة، و بعد التعريف بأنفسنا استقبلنا الطبيب بمكتبه، وقال إن المؤسسة تخصص النسبة الأكبر من ميزانيتها للأدوية والمستلزمات الطبية، مضيفا أن الإدارة مجبرة على ذلك في ظل التوافد القياسي للمرضى في مقاطعة إدارية يقطنها أكثر من 500 ألف نسمة، وهو ما يجعل كل المستلزمات تنفد في وقت قياسي. و أوضح الدكتور أن المستشفى يستقبل يوميا ما يقارب 400 مريض أي قرابة 12 ألف شخص شهريا، أغلبهم يأتون في الفترة الليلية، مضيفا أن بعض الأدوية لا تتوفر من فترة إلى أخرى و ذلك على المستوى الوطني، على غرار أدوية الصرع ومحلول الحقن «غاردينال» و «الفاليوم» وجهاز قياس السكر في الدم، ما يدفع الطبيب إلى أن يطلب من المريض، محرَجا، اقتناء بعض المعدات بنفسه، لتحدث ردة الفعل العنيفة يوميا و لعشرات المرات. رافقنا الطبيب داخل مصلحة الاستعجالات التي تتوفر على رواق ضيق و 4 قاعات، اثنتان منها خاصة بالمعاينة وأخريين بالملاحظة، حيث كان عدد من المرضى ومرافقيهم يقفون أمام مدخل كل حجرة في انتظار دورهم، و هنا ألقينا نظرة إلى داخل قاعة شاهدنا بها 5 أسرّة تتقارب في ما بينها، حيث لم تزد المسافة بين السرير والآخر عن 20 سنتيمترا. أطفال يتقاسمون الأسرة مع جرحى حوادث السير بهذه القاعة شدنا بكاء طفل صغير ذعر من مشهد شخص مصاب بجروح خطيرة على مستوى الوجه وأنحاء متفرقة من الجسم، حيث اتضح أنه تعرض لحادث مرور، و هنا تدخل الطبيب لتوضيح الأمر، مؤكدا أن ضيق الحجرة أجبر الطاقم الطبي على تقريب الأسرّة، كما أكد أن القاعة تستعمل كمصلحة استعجالات طبية وجراحية ولطب الأطفال في نفس الوقت، لأن المستشفى لا يتوفر على هياكل أخرى تسمح باستخدام كل مصلحة على حدة. و قد كانت القاعة مجهزة بأنابيب أوكسجين وبعض الآلات الأخرى لوضع المصابين بالأمراض المزمنة بها على غرار السكري والقلب، أما الحجرة المحاذية لها فتستعمل أيضا في المعاينة وبها طبيب عام يجبر على إدخال عدد من المرضى ومرافقيهم لامتصاص غضب المنتظرين. موظفون يركضون في كل الاتجاهات وأثناء تبادلنا لأطراف الحديث لفتت انتباهنا عجوز كانت موصولة بجهاز الأوكسجين وهي في غيبوبة، وعند استفسارنا عن حالتها تبين أنها ترقد في ذلك السرير منذ 3 أيام بعد تعرضها لسكتة دماغية، وبحكم افتقار المستشفى لقاعة إنعاش تم إبقاؤها هناك، في وقت تعرف القاعة دخول و خروج العشرات من المرضى ومرافقيهم. تحدثنا مع ابن المريضة فقال بنبرة حزينة إن والدته تبلغ من العمر 84 سنة و قد تدهورت حالتها الصحية أكثر لأنه عجز عن إيجاد مكان مناسب لها في ظل افتقار المستشفى لقاعة إنعاش، كما لم يتمكن من إيجاد سرير لها في المستشفى الجامعي ابن باديس، وأبدى الابن تخوفه من فقدان والدته التي لا تحظى، حسبه، بمعاملة خاصة وبظروف مثالية، سيما وأن الأطباء أكدوا أن المدة المنطقية لبقائها خارج غرفة إنعاش هي 24 ساعة فقط، وهنا أكد الطبيب أن هذا السيناريو حدث سابقا لعشرات المرضى الذين منهم من قضوا 12 يوما في تلك القاعة ومنهم من توفوا بالمستشفى. دام تواجدنا بالمصلحة لدقائق أخرى وكانت نفس المشاهد تتكرر، حيث تقوم الممرضات بالركض في كل الاتجاهات، فيما كان الأطباء يتنقلون بين القاعة والأخرى لمعاينة بعض الحالات، بأوجه عابسة وشاحبة، و قد بدأ عدد المرضى ومرافقيهم يرتفع شيئا فشيئا، خاصة وأن التوافد لم يساير عملية العلاج، ليدخل بعض الأشخاص في ملاسنات مع الأطباء مطالبين بتسريع المعاينات، فيما تكرر مشهد منح الأولوية للحالات المستعجلة ما زاد من غضب الحاضرين. يأتي ذلك في وقت يعتبر مستشفى علي منجلي المقصد الأول لأزيد من 500 ألف نسمة تقطن في مقاطعة بحجم ولاية، كما يوجه إليه كل المصابين على مستوى الطريق السيّار شرق غرب المحاذي للمدينة، إضافة إلى آلاف الطلاب والطالبات المقيمين في عشرات الإقامات الجامعية، كما يعد قبلة سريعة للقاطنين في القرى المحاذية على غرار قطار العيش والقرية الحمراء. rأطباء عامون ومختصون «نقص الإمكانات أجبرنا على تحويل 70 بالمئة من الحالات» وأكد أطباء عامون ومختصون أن انعدام الإمكانيات أجبرهم على التخلي عن مهنتهم الحقيقية في علاج المرضى بمختلف الاختصاصات، والاكتفاء بتوجيههم إلى مستشفيات أخرى تتوفر على مرافق و ظروف أفضل، وأوضحوا أنهم يقومون بتوجيه 70 بالمئة من المرضى فيما يتكفلون بالنسبة المتبقية، مضيفين أن ضيق المستشفى أجبرهم على استغلال مصلحة واحدة للاستعجالات وفي طب الأطفال، فيما تنعدم عدة تخصصات وهو ما يضعهم في حرج كبير أمام المرضى ومرافقيهم. كما قال طبيب مختص في التخدير والإنعاش و رئيس مصلحة الاستعجالات الطبية والجراحية، إن المنشأة تتوفر على أطباء في عدة تخصصات، ولكن انعدام مصالح وغرفة إنعاش وقاعة عمليات حال دون ممارسة عملهم، بل إن إدارة المستشفى اضطرت إلى تحويل أخصائيتين في التوليد إلى مستشفى الخروب لعدم توفر الإمكانيات اللازمة، فيما يتم استقبال الولادات العادية والبسيطة فقط وذلك بمعدل 5 حالات يوميا، و ذلك من قبل أطباء عامين تلقوا تكوينا في هذا المجال من طرف وزارة الصحة، فيما تحوّل الولادات القيصرية إلى المستشفى الجامعي أو عيادة سيدي مبروك. وأجمع الأطباء أن الإمكانات المتوفرة في المستشفى تجعلهم عاجزين عن تسيير مدينة بحجم علي منجلي، سواء من ناحية العدد الكبير للسكان أو من ناحية غياب المصالح والتخصصات الضرورية و كذا الأدوية والمستلزمات الطبية، ويرى الأطباء أن الحل الوحيد يكمن في إنجاز مستشفى آخر في المدينة أو بناء توسعة في مساحة محاذية تابعة للحي الإداري، حيث يبقى ذلك المكان في حالة مهملة وغير مستغل، فيما يمكن تشييد مصلحة استعجالات تتوفر على غرفة عمليات وقاعة إنعاش، وهو ما سيُمكن حسب الأطباء، من فصل الاستعجالات الطبية والجراحية و طب الأطفال. ممرضات يمارسن عملهن واقفات بسبب ضيق القاعات و وصف رئيس الممرضين بمصلحة الاستعجالات، ظروف العمل ب «الصعبة»، حيث تضطر الممرضات لأداء عملهن وهن واقفات وكأنهن في حافلة، بسبب ضيق مساحة القاعة، مضيفا أن بعضهن يتعرضن أيضا للاعتداء لمختلف الأسباب وأهمها نقص الأدوية، و قد كانت آخر حادثة لشخص أحضرته الشرطة بعد أن كان يقود سيارته في حالة سكر، وأثناء محاولة ممرضة أخذ عينات لمعرفة نسبة الكحول في الدم، قام بالاعتداء عليها. وقال المدير الفرعي لمصلحة الوسائل والمالية، رياض كرميش، إن مستشفى علي منجلي لم يعد قادرا على مسايرة التطور الكبير في عدد السكان بالمدينة، موضحا أن مصالحه تضع الحالات المستعجلة كأولوية على غرار ضحايا الاحتراق وحوادث المرور والاختناقات بالغاز والتسممات، ولكن الأطباء تحولوا للإشراف على الحالات العادية بنسبة 80 بالمئة، وذلك لعدة اعتبارات أهمها نقص الإمكانيات، وأضاف المتحدث أن البناية تعرف ضغطا رهيبا في أوقات المناوبة وتحديدا من الساعة الرابعة مساء إلى الثامنة صباحا. «حياتنا مهددة ونتعرض لاعتداءات لفظية وجسدية يوميا» كما أضاف المدير الفرعي أن التطور السكاني الهائل في علي منجلي، لم تصاحبه تطورات في المنشآت الصحية، موضحا أن المستشفى الوحيد بالمقاطعة الإدارية يفتقر لمصالح مهمة على غرار جراحة الأعصاب والحروق والقلب والإنعاش وطب العيون والأنف والأذن والحنجرة، فيما يوجد أطباء في 10 تخصصات أخرى ولكن لا يمكنهم ممارسة عملهم بحكم انعدام قاعة إنعاش وغرفة عمليات، أما عن توفير 3 أطباء عامين فقط في المناوبة، فرد بأن القانون يتيح توفير اثنين فقط لكن بسبب الضغط الكبير وحجم المدينة، تم السماح بانتداب طبيب ثالث. كما أكد عون أمن بالمستشفى أنه وبقية زملائه يتعرضون للاعتداءات جسديا أو لفظيا من المرضى ومرافقيهم يوميا، وذلك لأسباب مختلفة منها رغبة كل مريض في العلاج قبل الآخر، وأحيانا نتيجة انعدام بعض التخصصات وكذا الأدوية والمعدات الطبية، مضيفا أن الطاقم العامل عاش حالة من الرعب عدة مرات بسبب قدوم منحرفين لإكمال شجاراتهم داخل المستشفى، و هو ما استدعى تجنيد شرطيين خلال الفترة الصباحية ومثلهما في المساء من أجل توفير الأمن أكثر.