"مبدعون" يُباعون ويُشترون في سوق التظاهرات الموسمية انفتاح سوق النشر حوّل بعض التجارب الإبداعية الجادّة إلى أسماء فاشلة سعيد خطيبي، كاتب وصحافي ومترجم. يكتب في جريدة "الأخبار" اللبنانية ويساهم، بشكل منتظم، في مجلات ودوريات فرنسية. صدرت له الكتب التالية: "بعيدا عن نجمة" وهو ترجمة لأشعار كاتب ياسين، "مدار الغياب" منشورات البيت وهو أنطولوجيا للقصة القصيرة الجزائرية المكتوبة باللّغة الفرنسية وضمت ترجمات لقصص بعض الأدباء وهي أول أنطولوجيا جزائرية خاصة بكُتاب القصة القصيرة المكتوبة بالفرنسية، "أعراس النار...قصة الراي" منشورات البيت أيضا وهو كتاب جديد مغاير عن سياقات الكتب التي صدرت للكاتب، إذ خصصه إلى فن الراي ونشأته وتاريخه ومسيرته الطويلة الزاخرة بالكثير من النجوم الذين ألهبوا العقول والمسارح وقاعات الغناء العالمية. وقبل نهاية هذا العام سيصدر الجزء الثاني منه، "عبرتُ المساء وحيدا" صدر مؤخرا عن منشورات فيسيرا وجاء في 183صفحة وهو كتاب حوارات ضم ثلاثة عشر حوارا أجراها الكاتب مع أدباء جزائريين يكتبون باللّغة الفرنسية. حاورته/ نوّارة لحرش الكاتب خطيبي نال عدة جوائز منها: جائزة مؤسسة فنون وثقافة للشعر باللغة الفرنسية في ماي 2006، جائزة المركز الثقافي الفرنسي للشعر في نوفمبر من نفس السنة، كما تم اختياره ضمن الأنطولوجيا العالمية ل castello di duino بايطاليا عن قصيدة "soupi-re".. أيضا ساهم في ترجمة "قاموس السينمائيين الأفارقة"(2009). في هذا الحوار يتحدث سعيد خطيبي عن كتبه وبعض اشتغالاته في الكتابة والترجمة والبحث والتوثيق. تشتغل على الترجمة وتقول أنك لا تترجم تحت الطلب، هل يمكن القول أن النصوص التي تحدث حالة جمالية ودهشة لديك هي التي تلح عليك لترجمتها؟ وهل علاقتك بالترجمة جمالية روحية بالأساس؟ سعيد خطيبي: لست أعرف لماذا ترتبط كلمة ترجمة بالعبارة الإيطالية الشهيرة "traduttore, traditore"(المترجم خائن). أحيانا نصادف نصوصا أدبية مترجمة تحمل قيمة جمالية لا تقل عن قيمة النصوص الأصلية. المترجم لا يكتف بالنقل الأوتوماتيكي للنصّ، بل يبذل جهدا للغوص فيه من الداخل: فهمه، تفكيكه وإعادة تركيبه باللّغة المترجم إليها. الأعمال التي ترجمتها، لحدّ الساعة، هي من توقيع مؤلفين جزائريين يكتبون بالفرنسية. رأيت من الضروري تقديمها بالعربية، بحكم أنها تنبع من بيئة جزائرية خالصة وتخاطب، بالدرجة الأولى، القارئ الجزائري. نصوص لا تنقصها الجمالية بقدر ما ينقصها قارئ واع بأهمية العودة إليها. ترجمت أشعار كاتب ياسين وصدرت في كتاب بعنوان «بعيدا عن نجمة»، ما الذي دفعك إلى ترجمة ياسين؟ ما الذي يجعل نصوصه قريبة إلى روحك وذائقتك أكثر؟ سعيد خطيبي: أنجزت ترجمة نصوص كاتب ياسين الشعرية سنوات الدراسة في الجامعة. فعلاقتي بكاتب/الأديب ثم كاتب/المناضل تعود إلى سنوات المراهقة. تجربة صاحب "نجمة" في الحياة وسيرته الذاتية تعتبران خلاصة الشخصية الجزائرية الفعلية. بالعودة إلى نصوصه الشعرية التي جمعتها الباحثة الفرنسية جاكلين أرنو(1934-1987) نجد أن علاقة المؤلف باللحظة الراهنة كانت جد عميقة. لغته الشعرية عادية أحيانا ولكنها تنخرط في التعبير عن حالات إنسانية متعددة: حب، غضب، ثورة. كما أن علاقته بالوطن لم تكن علاقة شوفينية، مبنية على الأحاسيس القومية الآنية. بل كانت علاقة مد وجزر تحمل أحيانا خيبة بعد كل ما وقع من متغيرات عقب الإستقلال. يمكن أن نجد في نص كاتب الشعري أكثر من موضوعة واحدة. كما أن نصوصه تحمل بعض ملامح التجريدية الغنائية الغائبة عن شعراء جيله. هل ترجمته تعد نوعا من الإنصاف والإحتفاء به وبنصوصه في وقت قلت فيه الترجمات التي تحتفي بأدبه؟ سعيد خطيبي: الغريب أن كاتب ياسين يبقى، في الجزائر، محصورا في رواية "نجمة" وبعض النصوص المسرحية. رواية لم نستطع بعد ترجمتها فعلا إلى العربية ومسرحيات تم اقتباسها وتشويه لبّها. بإعتقادي أن كاتب ياسين أكبر من أن يُحتفي به على طريقة المناسبات الموسمية. فأعماله الأدبية تُدرس في كبريات الجامعات الفرنسية والجزائرية. ما ساقني إلى ترجمة نصوصه الشعرية هي ملاحظة راهنيتها، أسلوبا وموضوعة، رغم ما مضى عليها من عقود. "مدار الغياب" كتابك الصادر عن منشورات البيت ويعتبر أول أنطولوجيا للقصة القصيرة الجزائرية المكتوبة باللّغة الفرنسية، هل كنت منصفا في اختياراتك للعينات التي ترجمتها ومحايدا، أم كنت انتقائيا حسب معطيات خاصة ومعينة؟ سعيد خطيبي: القصة القصيرة هي نمط أدبي لم يلق، للأسف، إهتماما كافيا في الجزائر. وبحسب قول أوجين يونيسكو: "لا بد من مواصلة الكتابة لأنفسنا من أجل بلوغ الآخر". فيما يخص "مدار الغياب" فقد ولدت الفكرة من ملاحظة القطيعة بين ضفتي المعربين والمفرنسين في الجزائر. قطيعة قد ينفيها البعض ولكنها حقيقة، نلتمسها سنة بعد الأخرى. لا يمكن أن نغمض أعيننا عنها. لا أستطيع الإجابة إن كنت منصفا أم لا. فالأسماء الإبداعية الجزائرية باللغة الفرنسية كثيرة جدا. ولكن منطلق الكتاب تمثل في تسليط الضوء على أسماء جيلي الثمانينيات والتسعينيات. مع تجنب الأسماء المعروفة والمكرسة والمترجمة سلفا إلى العربية. كثير من الكتاب الجزائريين المغتربين صاروا اليوم يصنعون الحدث الأدبي في فرنسا ولكننا لا نقرأ لهم في الداخل، على غرار سليم باشي، صاحب رواية "صمت محمد" (2008) الذي ترجمت له نص قصة "الغرق". كيف وجدت سقفها الجمالي مقارنة بالمكتوبة باللّغة العربية، وما هي أهم المراحل أو الحقب التي ازدهر فيها هذا الفن المكتوب بلغة الآخر؟ سعيد خطيبي: لست أرى في نفسي مخولا لتقديم مقارنة بين الأدبين. ولكنني أعتقد أن تجربة القصة القصيرة الجزائرية المكتوبة بالفرنسية تستحق أن نعيد الإطلاع عليها. تاريخيا، بسبب الإستعمار، ظهور القصة القصيرة الجزائرية المكتوبة بالفرنسية سبق ظهور نظيرتها بالعربية بحوالي نصف قرن. حيث كانت خطواتها الأولى مشتتة عبر المجلات والجرائد نهاية القرن التاسع عشر. بحسب ما توفر من مصادر تاريخية فإن أول قصة قصيرة جزائرية تعود إلى سنة 1883، موقعة باسم كاتب يدعى "رحّال". وتطورت لاحقا بفضل مساهمة كُتاب الخمسينيات أمثال طاووس عمروش، آسيا جبار، محمد ديب، صاحب مجموعة "في المقهى"(1957). أصدرت كتابا عن موسيقى الراي بعنوان "أعراس النار" تؤرخ فيه لهذا الفن الذي ذاع صيته عالميا، كيف طرقت موضوعا لم يكن يبدو مهما على مستوى التأريخ والبحث والتوثيق، ولم يكن منتبها له من قبل؟ كيف اخترت مقاربة هذا الفن والبحث فيه والكتابة عنه، كيف ذهبت نحو هذه الأعراس الرايوية ومنحتها فرصة تأريخية في كتاب؟ سعيد خطيبي: يقول الكاتب الفرنسي بالزاك: "يوجد تاريخان: تاريخ رسمي يملأ الواجهة وتاريخ سري يطرق أبواب الحقيقة". كتاب "أعراس النار" يمثل محاولة لصياغة الوجه غير المعروف من تاريخ الجزائر الثقافي. أو ما يسمى بثقافة (underground). أعتبر نفسي، وكثيرين من مثل سني، واحدا من أبناء جيل "الراي". جيل ولد نهاية الحقبة الإشتراكية وبداية الأزمة الأمنية وبروز موسيقى الراي. قضيت سنوات المراهقة وسنوات الشباب الأولى في الإستماع إلى الراي والبحث عن جديد المغنين (شبابا وشابات). من الصعب أن ينفصل الفرد عن تأثيرات الوسط الإجتماعي الذي وُلد وكبر فيه. سبق لي أن التقيت كثيرا من المغنين وربطتني وما تزال تربطني علاقات صداقة معهم. في مرحلة لاحقة، لاحظت أن الراي، على خلاف مثلا الحوزي، ليس فقط موسيقى بل هو نمط عيش. طريقة تفكير مختلفة. حياة استثنائية تنمو وتزدهر على هامش الخيارات والخطابات الرسمية. استغرقت أكثر من سنتين في البحث وفي التواصل مع المغنين، داخل الجزائر وخارجها. رأيت من المهم انجاز عمل ميداني عن الراي، وتجنب الكتابة النظرية الجافة، من خلال استجواب أهم الفاعلين ومنحهم فرصة التعبير عن أنفسهم في وقت تمنعهم وسائل الإعلام الرسمية من الظهور. من خلال التوغل، شيئا فشيئا، في عوالم الراي الخفية نكتشف تاريخا مغيبا. نجد حقائق مهمة، مثل علاقة الشيخة الريميتي بحزب الشعب وأداءها أغنية للأمير عبد القادر، وتأثير الشيخ حمادة مثلا على الفنان محمد عبد الوهاب وعلاقة أحمد وهبي بفريد الأطرش. من المتوقع أن يصدر الجزء الثاني من "أعراس النار" قبل نهاية العام، هل لنا أن نعرف أكثر عن هذا الجزء، وأي معطيات أو خلفيات وحيثيات ركزت عليها في هذا الجزء؟ سعيد خطيبي: أعمل، في الوقت الحالي، على الراي النسوي. فالنساء، وعلى خلاف ما يدور من آراء وانطباعات، شكلن الحلقة الأهم في الحفاظ وفي تطوير موسيقى الراي. حضورهن في الراي يعكسن حضورهن ودورهن داخل المجتمع. أرجو فقط أن لا يتم مواجهة الجزء الجديد بنفس الفظاظة التي عرفها صدور "أعراس النار" حينما خاطبني بعض الكُتاب والصحافيين: "ألست تخجل من الكتابة على العاهرات؟". حالة من العدمية صارت تلفّ الوسط الثقافي في الجزائر. حالة من عدم المبالاة وسوء النظر إلى عمق الأشياء. "عبرت المساء حافيا"، هل الكتاب محاولة للإضاءة على تجارب بعض الكتاب الذين يكتبون باللّغة الفرنسية أم محاولة لتقريب تجاربهم من المشهد الأدبي المعرب وبالتالي تقريب هؤلاء الكتاب من القاريء المعرب الذي ربما لا يعرفهم أو لم يقرأ لهم؟، ومن جهة هل هو جسر يحاول أن يؤسس لحوارات وتواصلات مستقبيلة بين قاريء وكاتب تفصل بينمها لغة الآخر؟ سعيد خطيبي: "عبرت المساء حافيا" يتضمن حوارات أدبية مطولة تحاول الإحاطة بسيرة وأعمال جملة من أهم الكتاب الجزائريين باللغة الفرنسية، أمثال ياسمينة خضرة، مالك علولة، مايسة باي وأنور بن مالك. كما أشرت إليه في سؤال سابق نعيش في الجزائر ضمن ما يشبه "ڤيطوهات" أدبية، أين يكتفي كل ڤيطو بالنظر إلى نفسه وكفى. صحيح أن غالبية الكتاب الجزائريين المفرنسين ينشرون أعمالهم في فرنسا ولكنهم يبقون دائما في تواصل مع الجزائر وفي مخاطبة القارئ الجزائري. من أكثر الكتّاب الذين حاورتهم في هذا الكتاب والذين عبرت نحوهم بأسئلتك وترك حديثه أثرا في نفسك وفي ذاكرتك؟ سعيد خطيبي: كل كاتب يمثل تجربة خاصة. كل واحد منهم يحمل هما وجرحا وفرحا وقلقا ورغبة في البوح. شدتني رغبتهم في مخاطبة القارئ المعرب. لا أذكر واحدا منهم تردد في الإستجابة لدعوة الحوار لما عرف أنه سيصدر بالعربية. موزع أنت بين الترجمة والكتابة والبحث والتأريخ للفنون والآداب، ألا تستنزف هذه الإشتغالات من الشاعر فيك ومن فن ما لحساب فن آخر؟ سعيد خطيبي: أقضي غالبية الوقت في المطالعة وفي الكتابة. أفرط في كثير من الواجبات وأهمل كثيرا من الإنشغالات بسبب هموم أدبية. أعتقد أنني سأكون ربّ بيت فاشل في المستقبل (يضحك). تجربتي الإبداعية الشخصية تبقى مؤجلة إلى حين. الإبداع مسؤولية أكبر. تحتاج إلى وقت وإلى جهد. "لابد أن نحيا لنكتب ولا نكتب لنحيا" كما يقول رونار. أتأسف لحال بعض الكتّاب من جيلي، انفتاح سوق النشر وسهولة التواصل مع وسائل الإعلام حوّل بعض التجارب الإبداعية الجادّة إلى أسماء فاشلة تصرّ على مسارعة الوقت وإبداع الفشل، شعرا ورواية وقصة. أتذكر أنني، قبل حوالي السنتين، لما مررت بفترة صعبة نوعا ما في العاصمة، قايضت أحد الكتّاب الشباب "المعروفين" عملا أدبيا مقابل مبلغ مالي بسيط، من أجل تسديد دين. بضعة أشهر لاحقة، فاز العمل نفسه بجائزة وطنية وهالتني تصريحات المعني في جرائد وهو ينسب العمل لنفسه ويتحدث وكأنه المؤلف الحقيقي. من المؤسف ملاحظة مبدعين شباب غير واعين بالراهن. يحملون نظرة عقيمة لمفهوم الكتابة. يواصلون البحث عن بركات جيل سبقهم ويتناسون ضرورة تكوين أنفسهم إبداعيا. بعضا منهم نال نصيبا في وسائل الإعلام واعتقد نفسه "نبي الشعر" أو "كافكا" القرن الواحد والعشرين. "مبدعون" يُباعون ويُشترون في سوق التظاهرات الموسمية. تكتب باللغتين العربية والفرنسية، لكن تكتب الشعر بالفرنسية أكثر، هل يعني هذا أن لغتك الأعمق والأقرب شعريا هي الفرنسية، وأنها هي من تشكل وتؤثث شغفك الكتابي والأدبي عموما؟ سعيد خطيبي: بالنسبة لي، اللغة مسألة ثانوية. بحسب رأيي أمبرتو ايكو: "اسمع قلبك واتركه يتحدث، لا تهتم بلغته". فزت بجوائز عن بعض أشعارك المكتوبة بالفرنسية، كيف تقرأ هذه الجوائز التي تأتي من هنا، والتي تأتي من هناك؟ سعيد خطيبي: الجوائز التي حصلت عليها لم أكن بتاتا أفكر فيها. نلت جائزتان وطنيتان وثلاث جوائز في الخارج. كما ترجمت بعض نصوصي إلى الإيطالية وإلى الإنجليزية. مع ذلك أرى أن تجربتي الشعرية لم تنضج بعد.