"مصالحة "بين الغربان وسكان قسنطينة فوق جسر باب القنطرة لم تعد غربان قسنطينة تكتفي بالتحليق بين صخورها و جسورها المعلقة بل راحت تحاول الاقتراب أكثر فأكثر من مواطنيها لاسيّما على جسر باب القنطرة الذي تحوّل إلى مدرج هبوط لأسرابها. فالغربان التي ارتبط اسمها بفأل الشؤم و النكد منذ القدم، و نبذت لنعيقها و لونها منذ الأزل وجدت اليوم من يقدم لها الطعام و يستأنس مرافقتها بقسنطينة التي يبدو أن مواطنيها تصالحوا مع ذات "الرداء الأسود" و توقفوا عن النظر إليها نظرة شؤم مما منح هذا الطائر الذي لم يكن يغادر حدود الصخر الأسود، فرصة الدخول إلى قلب المدينة و السير على أرصفتها، و كأنه استمد شجاعته من الحمام الذي لم يعد هو الآخر يخشى "التير بوليت"الجائرة التي كان الأطفال يستمتعون بتصويبها نحوه ثم قذفه بحجارته التي تصب خبط عشواء الطيور المسالمة دون رحمة فيتطاير ريشها قبل أن تهوي أرضا، و راح يستأنس رفقة البشر بالساحات العمومية ملهما بذلك الغراب الذي أصبح يشاهد بين الفينة و الأخرى على الرصيف و درابزين جسر باب القنطرة و بشكل خاص أمام كشك تعوّد صاحبه على رمي قطع الخبز له، فكسب ثقة الطير الأسود الذي أخذ يقترب يوما بعد يوم من المكان و يحط للحظات، قبل معاودة جولته المعتادة بين الجسور و الصخور الذي اعتاد منقاره على مداعبة أحجارها اللامعة و نحت ذكريات المدينة عليها، و كيف لا و قد استوحى الأوّلون من اسمه إحدى كنايات المدينة الفريدة "مدينة عش الغراب" و ألهم الأسلاف في نسج قصص خرافية كقصة الولي الصالح الذي تحوّل إلى غراب بعدما جار عليه الحاكم و أصدر في حقه حكما بالإعدام رميا من أعلى الصخر، و لا زال ضريحه حتى اليوم مزار الكثير من العائلات القسنطينية المتبرّكة بسيدي محمد لغراب. و قد رفض غراب قسنطينة البقاء حبيس الصخور في الألفية الثانية، و كف عن لعب دور المايسترو لسيمفونيات تعزف أسفل الجسور لوصف الكثيرين لها بالنشاز، و اختار التقرّب من بني البشر تقليدا للحمام رغم أنه لم ينجح بعد في التخلص من حذره و تخوّفه المستمر من ردود فعل المتشائمين. حيث يقف بأجنحة متأهبة للطيران مع أي لحظة خطر على مشارف جسر باب القنطرة و هو يترقب وصول موزّع الخبز المبلّل الذي تعوّد هو الآخر عليه مثل الحمام و سائر الطيور التي لم تعد ترهق أجنحتها في البحث عن الطعام بين الحقول. و لم تعد أعناق زوار قسنطينة تشرئب لأجل رؤية الطائر الأسود من أعلى الجسر لأنه اقترب منهم. و قد يتمكنون يوما من ملامسة ريشه إن هم تخلصوا من الخرافات التي جعلت من الطائر مصدر شؤم، يكره الكثيرون نعيقه و يتطيّرون منه و يكثرون قراءة الأدعية و التعوّذ من الشر الذي قد يلحقه بهم و بالمكان الذي يحط به. و حتى الاكتشافات العلمية الكثيرة التي أكدت ذكاءه و مكره الشديدين، و كذا المعلومات التي أثبتتها دراسات سلوك عالم الحيوان لما لهذه الطيور من سلوكات مثيرة للاهتمام كالمحاكم التي تحاكم الجماعة فيها أي فرد يخرج عن نظامها حسب قوانين العدالة الفطرية التي وضعت عقوبات صارمة قد تلهم الإنسان مثلما ألهمته من قبل في دفن أخاه، لم يتصالح معها الكثيرون و ما زالوا يرمون عليها فضلاتهم من فوق الصخر رغم تذكير غي دي مباسون لهم بالقول المأثور " ترمي الغربان تلقائيا بقاياها على الناس بينما أنتم ترمون بقاياكم على الغربان". و قد يبرر ذلك اضطرارها إلى الصعود إلى أعلى الجسر ليس للتحليق فوقه فقط و إنما للسير عليه لرؤية من يرمونها بفضلاتهم عن قرب و من يدري قد تجد لهم عقوبة تليق بهم ضمن قوانينها الصارمة التي تلزم مغتصب عش غيره ببناء عش جديد لصاحب العش المعتدى عليه، وتقضي بقتل المعتدي على أنثى غيره ضرباً بالمناقير حتى الموت...و غيرها من القوانين المثيرة للإعجاب التي لن تترك صاحب الرداء الأسود مجرّد طائر شؤم مثلما أراده له التراث الشعبي بالكثير من الدول. و رغم كل ما قيل بخصوص احتمال اختفاء الغراب من قسنطينة بسبب خطر الانقراض الذي يتهدده لأسباب أو لأخرى، لن يتخلى الصخر الأسود دون شك عن جزء مهم من ديكوره الساحر الذي تغنى به الكثيرون و استلهم منه الفنانون لوحاتهم الخالدة التي كلما غلب عليها اللون القاتم ازدادت أناقة، فهل سيتمكن الغراب الذي كان منذ الأزل رمزا للأخبار السيئة و مصدر للشؤم، التخلص من كل ذلك إن هو هجر الحقول و تخلى عن عادة الوقوف فوق جاثمين الفزعات المرعبة للتقرب أكثر من المارة و التجوّل بين أقدامهم بالساحات العمومية.