رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    الفريق أول شنقريحة يشرف على مراسم التنصيب الرسمي لقائد الناحية العسكرية الثالثة    توقرت.. 15 عارضا في معرض التمور بتماسين    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة : عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    قريبا.. إدراج أول مؤسسة ناشئة في بورصة الجزائر    اجتماع تنسيقي لأعضاء الوفد البرلماني لمجلس الأمة تحضيرا للمشاركة في الندوة ال48 للتنسيقية الأوروبية للجان التضامن مع الشعب الصحراوي    المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت    تيميمون..إحياء الذكرى ال67 لمعركة حاسي غمبو بالعرق الغربي الكبير    أدرار.. إجراء أزيد من 860 فحص طبي لفائدة مرضى من عدة ولايات بالجنوب    سايحي يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    انطلاق الدورة ال38 للجنة نقاط الاتصال للآلية الإفريقية للتقييم من قبل النظراء بالجزائر    توقيف 55 تاجر مخدرات خلال أسبوع    بوغالي يترأس اجتماعا لهيئة التنسيق    عطاف يتلقى اتصالا من عراقجي    سوناطراك تجري محادثات مع جون كوكريل    مكتسبات كبيرة للجزائر في مجال حقوق الطفل    حوادث المرور: وفاة 11 شخصا وإصابة 418 آخرين بجروح بالمناطق الحضرية خلال أسبوع    توقيف 4 أشخاص متورطين في قضية سرقة    الجزائر العاصمة.. وجهة لا يمكن تفويتها    هذه حقيقة دفع رسم المرور عبر الطريق السيّار    التأكيد على ضرورة تحسين الخدمات الصحية بالجنوب    السيد ربيقة يستقبل الأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    غزة: ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 44056 شهيدا و 104268 جريحا    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    الجامعة العربية: الفيتو الأمريكي بمثابة ضوء أخضر للكيان الصهيوني للاستمرار في عدوانه على قطاع غزة    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    غزة: 66 شهيدا و100 جريح في قصف الاحتلال مربعا سكنيا ببيت لاهيا شمال القطاع    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    الجزائر تتابع بقلق عميق الأزمة في ليبيا    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    مصادرة 3750 قرص مهلوس    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في نقد العقل الثوريِّ العربيّ
نشر في النصر يوم 27 - 02 - 2012


فولتير أوَّلا، أم قطعُ رأس المَلِك؟
1
طرحت الانتفاضات العربية الأخيرة – أو ما سُمّي بالربيع العربي – العديد من الأسئلة المتعلقة بالدولة والدين والديمقراطية وحقوق الإنسان ومصير الثورة ذاتها. وقد كان من الطبيعي أن يعكف العقل النقديّ العربي على مراجعة مسيرته ونظام فهمه للواقع والتاريخ استنادًا إلى الأفق الذي فتحته الانتفاضات العربية وإنجازاتها السياسية بالأخص. كما كان عليه أن يُواكب الانتفاضة مُحتضنا تطلعاتها المشروعة ومُستبصرًا المعاني والدلالات التي طفت على سطح الأحداث المُتسارعة. وبعيدًا عن أي اعتبار آخر، يُمكننا أن نرى في الثورات العربية الأخيرة إنجازا تاريخيا مُهمّا جدّا حرَّر – على الأقل – الذات العربية من الحضور الطاغي لأيقونة البطريرك السياسي ونظام التقديس الذي ارتبط بثقافة ألفية لم تعرف رسوخ التقاليد الديمقراطية – بالمفهوم الثقافي الشامل – في تاريخها. أحمد دلباني
هذا يعني، أولا، أننا ننظر إلى الثورات العربية باعتبارها إنجازا سياسيا في المقام الأوَّل، أتاح الإطاحة بأنظمة حكم فاسدة ومُستبدَّة وتابعة لم تحقق التنمية الشاملة، ولم تحترم حقوق الإنسان ولم تصُن الاستقلال الوطني بكل أوجهه. لقد كانت – بمعنى ما – انقلابات مدنية شرعية جسَّدت حنق الشعوب العربية على فشل الأنظمة التي ولدتها حركات التحرير الوطني والانقلابات العسكرية، وقادت بلداننا، منذ عقود، على هدى بوصلة البناء الوطني وتحقيق الوحدة والتنمية. ولكننا نعرف أن الرُبَّان العربيّ لم يعد بإمكانه أن يمسحَ الصدأ عن بوصلته فاقدة الصلاحية في مُحيط العالم الذي شهد تغيرات جذرية على جميع المُستويات منذ بزوغ فجر العولمة. ولم يعُد بإمكانه أن يلهجَ بالخلاص التاريخيّ لأمتنا من العطب الحضاريّ، ومن حضور هيمنة الآخر الأمبريالي على مصائرنا. فلم تكن إطلالتنا على العالم المُعاصر دخولا في التاريخ وانسلاخا عن نظام المعنى المُفارق للزمنية والتغير والصيرورة. لم تكن إطلالتنا اكتشافا لمركزية الناسوت ورعب التاريخ وقد أفاق على خواء السماء الآفلة وسردياتها الخلاصية القديمة. وفي كلمة، لم تكن ولادتنا الحديثة طبيعية بل ولادة قيصرية، وتم الزجُ بنا في أتون تجربة المغامرة التاريخية ولم نمتلك أبجدياتها العقلية والإنسانية. هذا، رُبما، ما جعل منا أشباحا تفتقدُ الحضور الحقيقيّ الحيَّ على مسرح العالم حيث تلبسُ القوة تاج المعرفة وتجنحُ المعرفة إلى الهيمنة والسيطرة.
لقد كانت الثورة، إلى اليوم، حُلما بالتغيير ووعدًا بالتحرير. كانت يوتوبيا انعتاق واحتضانا للتاريخ وقد أصبح سردية بوَّأت بروميثيوس عرش التدبير مكان الآلهة الآفلة تاريخيا بفعل الحداثة واحتجاجاتها. ولكننا نعرفُ أنَّ الثورة – بوصفها حكاية تأسيسية للأزمنة الحديثة – لم تكن دائمًا سفرًا واثقا إلى إلدورادو الحرية والكرامة والتقدم. فقد أنتجت طبعات جديدة رهيبة من قصة سحق الإنسان وتدجينه ووأد تطلعاته وصبواته العميقة إلى الانعتاق الكياني الشامل وتحقيق الامتلاء الوجوديِّ في عالم فقد العلو. هذا ما أغرق الفكر الحديث في نوع من التشاؤم القاتم بشأن إمكان تحقيق الوعود الثورية وإمكان إنقاذ الوجود الإنسانيّ من تفاهته في الغبار الكونيّ. من هنا طفق الفكرُ المُعاصر – في أشكاله الأكثر طليعية – يُراجعُ مسيرتهُ وبرامجهُ ليكتشفَ جرثومة الاستبداد والشمولية والواحدية في جذورها ونوازعها الأولى التي شكلت مهدًا لميلاد الأزمنة الحديثة. ظلت شجرة العقل التاريخي تعيشُ على هواء اللامعقول، وظلت شجرة الحرية تُسقى من نهر القهر السفليّ القاتم. لم يكن هذا الأمر خصيصة ستالين وماو وكاسترو فحسب، وإنما كان إنجاز عبد الناصر وأصحاب أحلام البعث العربيّ أيضا كما نعرف.
ولقد نحبُّ أن نشيرَ أيضا إلى أنَّ الانتفاضة – مهما كانت كبيرة – لا تُحقق بذاتها تقدّما أو عتقا للإنسان أو تحريرًا للمعنى من نظام الحقيقة السَّائد. الانتفاضة احتجاجٌ على وضع لم يعُد يُحتمل وصرخة في وجه العالم ولم يعُد بيتا كريمًا للإنسان. ونعتقدُ أنَّ الصّراخ الحانق الغاضب علامة حياة، ولكنهُ ليس برنامج عمل وليس وعيا كافيا يُتيحُ تخطي زمن الاستلاب في آلة القمع السياسيّ والفكري التي جسَّدتها الأنظمة القائمة. فلسنا في حاجة دائمة، اليوم، إلى التذكير بأنَّ السلطة لا تُختزلُ في أيقونة الحاكم أو في مُؤسَّسة الحكم. إنها أداءٌ مُعقدٌ يستندُ إلى نظام الشرعيَّة القائم. وهي نظامٌ ينهلُ من روافد تراثية ونفسيَّة، وينهلُ من المكبوت التاريخيِّ الهائل الذي ما زال خلاصيا وأسطوريّا إلى حدّ بعيد في مخيالنا الجمعيّ.
2
قد نتفقُ – انطلاقا ممَّا أتينا على ذكره – على كون السلطة ليست شخص الحاكم. ورُبما أتيحَ لنا أن نُقدّر بصيرة ميشال فوكو وهو يُعلمنا ضرورة التفكير في السلطة بمعزل عن شخص الملك. ولكنَّ الفكرُ العربيّ ظل مسكونا بهاجس التغيير الانقلابيّ ولم يلتفت إلى الأسُس التي ظلت تغذي كلَّ أشكال التسلط والقمع في تاريخنا. وكنا، في أحسن الأحوال، نحمّلُ النخب الحاكمة أو الطبقات المُسيطرة أو الغرب الأمبريالي مسؤولية فشلنا في دخول العصر والارتقاء بالإنسان العربيّ. قد يكونُ ذلك من الأسباب المُؤكدة لكبوتنا الحضارية، ولكننا لم نلتفت بصورة جدية، أيضا، إلى البنيات الفكريّة الماضوية المُضمرة وإلى سطوة تاريخنا الباطنيّ وهُو يُعيدُ إنتاجَ نفسه إلى ما لا نهاية عبر نظامنا الاجتماعيّ البطريركيّ وعبر زمننا الثقافيّ الرَّاكد. لم نلتفت بما فيه الكفاية إلى ضرورة اجتراح آفاق النقد الثقافيّ لذاتنا التاريخيّة المُنهكة، وإنما ظللنا نعتصمُ بالحديث عن الهوية المُهدّدة وعن مخاطر الطريق إلى الحداثة. كما سيطرَ علينا هاجسُ مُحاولة مسح الغبار عن مرآة الذات كي نشبعَ فضول نرجس الذي يسكننا في التملي الأبديِّ في وجهه. يلتقي في هذا الفكرُ النهضوي / القوميّ مع الفكر الأصوليِّ المُهيمن، اليوم، بأشكاله المُختلفة.
لقد ظلَّ أولادُ حارتنا يلهجون دومًا بذكر الجبلاوي وينتظرون رجعتهُ المُظفرة. وها هي الثورات العربية الأخيرة تطرحُ علينا أسئلة كثيرة بعد أن احتفينا بها ورأينا فيها خلاصا من سلطة الوصاية والاستبداد في شكله السياسيِّ المُباشر؛ وبعدَ أن رأينا فيها إيذانا بمقدم عهد الديمقراطية والتعددية ونهاية عهد الأحادية والقهر. وها نحنُ نُسارعُ إلى الاحتكام لصناديق الاقتراع كي نُعجِّلَ بميلاد نظام حياتنا الديمقراطي الحديث. كأنَّ الديمقراطية لعبة انتخابية. أو كأنها شكلٌ فارغ دون مضمون ثقافيّ وإنساني وفلسفيّ قدِّر له أن يُدشنَ ميلاد زمن مركزية الإنسان ومرجعيته السياسية والأخلاقية خارج وصاية المُقدَّس الدِّيني التقليدي. كأنَّ الديمقراطية – بمفهومها الشامل والعميق – يُمكنها أن تزدهرَ في " مدينة الله " وتحت رقابة الجبلاوي ومُؤسَّساته العتيقة. كأنَّ الديمقراطية ستُولدُ مع قطع رأس الملك لا بعدَ مجيء فولتير وانتصار الروح التنويريَّة في الفضاء التاريخيّ في ظلّ صراع البشر الدَّائم مع سطوة المعنى السَّائد.
المعنى السَّائد؟ يعني الشرعية الثقافية الرَّاسخة تاريخيا ومُؤسَّسيا. ويعني، أيضا، ما يمنحُ العالم السوسيو- سياسي منطقهُ ومعقوليتهُ التي تؤسِّسُ لشرعية الوضع القائم. ونعتقدُ أنَّ المعنى السَّائد عندنا يتأسَّسُ على الرمزانيَّة الدينية وسلطة الماضي المرجعيِّ بوصفه ما يضمنُ تماسك الحاضر وما يُؤمّنُ حماية قلعة الأب من مُناوشات الصَّعاليك. هذه هي الأبوية التي ما زالت تتمتعُ عندنا بهيبتها وقداستها أيضا. لقد ظلَّ فولتير مخنوقا عندنا وظلت الأنوار حلمًا مستحيلا. هذا يعني أنَّ الشروط الثقافية لانبثاق " مدينة الإنسان " لم تتوفر عندنا. فكيف نتحدَّث عن الديمقراطية؟ وكيف يُمكننا أن نُنظّر لها ونحنُ لم نخرج، بعدُ، من نظام المعنى القائم على الواحديَّة واستبداد الفكر المرجعيّ؟ كيف لنا أن نستضيف الديمقراطية في مدينتنا التي ينتعشُ فيها الحنين إلى الأب الغائب ويزدهرُ فيها تكفير الاختلاف والإبداع؟ كيف لنا أن نكونَ ديمقراطيين ونحنُ نعتبرُ الإنسانَ جرمًا صغيرًا يدورُ، طوعًا أو كرهًا، في فلك المذهبية وأصناف المرجعيَّات التي تعلو عليه؟ وها هُو الدَّليل: ألا نلاحظ أنَّ الانتخابات الأخيرة في أكثر من بلد منتفض أعادت الإسلاميين إلى الواجهة؟ ألا نلاحظ أنَّ حلم التغيير العربيّ – على المستوى الجماهيريّ – لا يرتبط بحلم الحرية والفردانية والإبداعية والتعددية والعيش المُشترك بقدر ما يرتبط برغبة " تطهير " المُجتمع من ثِقل التاريخ الحديث ومُشكلاته؟ ألا نُلاحظ أنَّ رغائبنا العميقة لا تتعلَّقُ باحتضان التاريخ والدخول في مُعتركه بقدر ما تتعلقُ بالرغبة في الخروج منه؟ ألا نُلاحظ أنَّ مرجعيَّة الإنسان ما زالت تمثلُ أكثر الأفكار استهجانا في الوعي العام عندنا؟ كأنَّنا لا نستطيعُ أن نتصوَّر الخلاص دون فكرة المُنقذ، سماويّا كان أو أرضيا.
3
لقد أصبح من الواضح أنَّ الديمقراطية ليست لعبة سياسية وليست أداءً مُؤسَّساتيا يرتبط بأجهزة الدولة المدنيَّة الحديثة فحسب، وإنما هي قبل ذلك نظامٌ فكريّ وبناءٌ اجتماعي يقومُ على قيم رسَّختها، شيئا فشيئا، تجاربُ تاريخية ومخاضٌ عسيرٌ انبثق معهُ الإنسانُ بوصفه مرجعية عليا لنظام عمل المُجتمع بعيدًا عن سطوة المُؤسَّسات التقليدية. الديمقراطية جسَّدت هزيمة اللاهوت على يد الناسوت. هذا يعني أنَّها مثلت قطيعة معرفية مع نظام المعنى الواحد ومع المُقدَّس الدينيّ، كما مثلت قطيعة سياسيَّة مع " مدينة الله " وعلاقاتها القائمة على الوصاية والإخضاع. إنها زمن فولتير لا القدِّيس أوغسطين.
الديمقراطيَّة، أيضا، ليست مذهبا فكريا أو نظريَّة ناجزة بقدر ما هي تاريخ ينضحُ بالإنسانيّ، ومسارٌ في الانعتاق من محبس المرجعيَّات التي اغتصبت الشرعيَّة في الفضاء السوسيو- سياسي وأسَّستها على المُطلق أو المُقدَّس المُفارق. الديمقراطيَّة، في كلمة، هي التاريخُ مُتأنسِنا. من هُنا نستطيعُ أن ندرك، جيّدًا، ارتباطها التاريخيَّ الوثيق بمسار الحداثة الظافرة منذ القرن السَّادس عشر في الغرب الحديث. فقد أسهمت النزعة الإنسانيَّة والعقلانية الفلسفيَّة وأفكارُ عصر التنوير النقديَّة والحقوقيَّة والسياسية في ميلاد أفكار المُساواة والحقوق الطبيعيَّة والإرادة العامَّة، ومكنت من الإجهاز على العالم القديم وأسُسِه الفكريَّة / الإيديولوجيَّة المُرتبطة باللاَّهوت السياسيِّ القائم على الحق الإلهيِّ المُطلق. لقد استردَّ الإنسانُ سيادتهُ على المجال السياسيِّ انطلاقا من احتلاله مركز دائرة القيم وتنصيب نفسه مرجعيَّة عليا لكل مبادرة تاريخيَّة. هذا يعني أنَّ الديمقراطية لم تنشأ بوصفها لعبة انتخابيَّة شكليَّة وإنما باعتبارها زمنا ثقافيا جديدًا مثل انتصارَ الإنسان، شيئا فشيئا، على آلة الاستلاب الدِّيني العملاقة، وجسَّد خروجَهُ من زمن الارتهان في المُؤسَّسة البطريركيَّة القمعيَّة.
ولكننا نتساءلُ بحرقةٍ ومرارة: أين نحنُ من هذا؟ وما مكانة فكرنا الذي ظلَّ، لعقودٍ، مشغولا بالبحث عن الديمقراطية في المورُوث وفي أقبية الذات التي لا تنقضي عجائبُها؟ لماذا لم ننشغل – بدلاً من ذلك – بالتأسيس لشرُوط انبثاق الديمقراطية في حياتنا ومُجتمعاتنا نقديا وثقافيا وتربويا؟ لماذا لم نستطع أن نجعلَ من الإنسان قيمة مُطلقة في تفكيرنا وسياساتنا بدلَ الرّكون الأبديِّ إلى وصاية المرجعيَّات المُختلفة التي ما زالت – إلى اليوم - تمنحُ الشرعيَّة لأنظمةٍ تجتهدُ في إعلان قصور العقل وعجز الإنسان عن قيادة نفسه بنفسه؟ لماذا انحط مفهومُ الديمقراطية عندنا بحيث أصبح حيلة تمنحُ الشرعية السياسية – بالطرق غير المشرُوعة - للأنظمة المُستبدَّة، وأصبحَ آلية انتخابيَّة شكلية مفرغة من مضمونها الإنسانيِّ والثقافي الذي أتينا على ذكره؟
ما أردنا أن نقولَ هُو أنَّ الديمقراطية قامت على أسس ثقافية وعقلية لم تتوفر في تاريخنا. إنها أسسٌ دشنت عهدًا جديدًا أنهى زمن الوصاية الدينيَّة وحرَّر التاريخ من مُراقبة الأستاذية العقائدية؛ كما جعلَ المُجتمعَ مرجعَ ذاته في حركيَّته التاريخية. ولم يكن مخاضُ هذا الأمر سهلا كما هُو معروفٌ. لقد تزامنَ تفكك النظام المعرفيِّ القديم مع تفكك بنية المُجتمع الأبويِّ التقليدي والتراجع التدريجيِّ لعلاقات القوة القائمة على الإخضاع، وهذا لصالح بروز الفردانيَّة وازدهار المعرفة النقدية ونزعات الشك. من هُنا يُمكننا القولُ إنَّ شجرة الديمقراطيَّة تغذت تاريخيا على نسغ الانقلابات السوسيو- معرفية الكبرى التي مهَّدت لميلاد الحداثة في التاريخ الغربيِّ. ورُبما هذا ما يُتيحُ لنا أن نُقارنَ بين تجربة الغرب الحديث وبين ما حصلَ في تاريخنا الذي ظل راكدًا لقرون حتى لحظة إفاقته على " صدمة الحداثة " مع الاستعمار.
4
من المعروف أنَّ ثقافتنا – في شكلها الموروث و السَّائد / المُكرَّس – لم تكن ثقافة مُؤهَّلة لأن تحبلَ بالديمقراطية أو بنظام للمعنى يسمحُ بالنظر إلى الحقيقة باعتبارها بحثا لا ينتهي ومُغامرة في اكتناه ليل العالم. لم تكن هذه الثقافة الموروثة، في شكلها الدِّيني الطاغي المُهيمِن، لتُزحزحَ المُقدَّس المُتعالي عن المركز كي يحُلَّ محلهُ الإنسانُ بوصفه قيمة عليا ومرجعًا تتأسَّسُ عليه مشروعيَّة الوجود السياسي والاجتماعي. هذه مُشكلة الثقافة العربية الأولى. وعبثا نُحاولُ - خارجَ مدار نقد الفكر الدّيني والعقل الدِّينيّ - أن نؤصِّلَ للديمقراطية والعلمنة والحداثة، أو لقيم المُواطنة والمُساواة في حياتنا. عبثا نُحاولُ أن نُجيِّشَ آلة التبرير الكبرى في ثقافتنا المُعاصرة – من لحظة مالك بن نبي إلى محمد عابد الجابري مرُورًا بحسن حنفي – كي نكتشفَ، بضربة عصا سحريَّة، أنَّ قيمَ النهضة والحداثة والديمقراطيَّة وحقوق الإنسان كانت سجينة داخلَ قمقم الذات الخالدة تنتظرُ من يُحرِّرها ويُخرجُ ماردَها. هذا وهمٌ ومُغالطاتٌ وسقوط في اللاتاريخيَّة. لكل إنجاز ثقافيّ زمنه وحدودُه. ومُشكلة ثقافتنا الموروثة تكمنُ في تقليديتها وفي كونها ظلت نظامًا معرفيا يُكرِّسُ الماضوية والمرجعية وعقليَّة الطائفة الناجية والانغلاق المذهبيّ. وكلُّ هذه المُحدِّدات شكلت نظاما معرفيا كبحَ الذات العربية تاريخيا وأغلق أمامها الأبوابَ التي تُمكنُ من دخول كوميديا التاريخ الأرضيِّ والمُشاركة في صُنع أقداره. ورُبَّما أتيحَ لنا، أيضا، أن نلاحظ مع الكثير من الباحثين أنَّ دوامَ رسوخ ثقافة التقليد والإخضاع كان مُنسجمًا تماما مع البنية البطريركية للمُجتمع العربيِّ والتي لم تكن أرضية مُلائمة لانبثاق الفردانية أو ترسّخ قيم التفكير خارج المرجعيَّة المُتعالية والإبداع خارج النماذج. إنَّ هُناك أطرًا اجتماعية للمعرفة كما كان يُعلّم جورج غورفيتش. ولكنَّني أستدرك، هنا، فأقولُ إنني تحدَّثتُ، بالطبع، عن الثقافة باعتبارها مُؤسَّسة راسخة تاريخيا ظلت تتناسلُ وتُعيدُ إنتاج زمنها الرَّاكد في حياتنا، ولم أكن أشيرُ إلى الإنسان العربيِّ الهامشيِّ المُبدع. لم أتحدَّث عن فينيق العربيِّ الذي لم يُتح لهُ أن يحلقَ طائرًا ضوئيا خارج رماد مُؤسَّسة التاريخ.
هذا ما أردنا أن نقولهُ من خلال نموذج فولتير الوارد في عنوان مقالنا. فلقد كانت الثورة الفرنسيَّة الكبرى سنة 1789 تتويجًا لمخاض عسير وطويل من النضالات المعرفيَّة والفتوحات الفكرية والمطامح الناشئة للطبقات المُتقدِّمة في المُجتمع. لقد كانت الثورة السياسيَّة تعبيرًا عن الرغبة في التغيير الشامل المُعبِّر عن مطامح مُجتمع بورجوازي ديناميكي يُطالبُ بحقه في المُساواة وفي إدارة الشأن العام استنادًا إلى قيم جديدة تتجاوز قيمَ العهد القديم الآفل. وهذه هي الثورة تحديدًا: حركة نقد وتجاوز واحتضان للتاريخ مفهومًا على أنهُ مسيرة انعتاق من اغتراب الإنسان التاريخيّ. وهذا النموذجُ الفرنسيّ يُبيِّنُ أنَّ فولتير سبق روبسبيير، وأنَّ " الأنوار " سبقت الثورة السياسية. فهل كانت ثوراتنا، أيضا، تتويجًا لمسار نضاليّ وتقدم معرفيّ ورغبة في النقد الذاتيّ لمُجتمع لم يعُد مُؤسَّسة تكفلُ لأبنائها جميعًا الحياة الكريمة الحُرَّة؟ هل كانت ثوراتنا، فعلا، نُشدانا للديمقراطية بوصفها نظامَ عمل مُجتمع يقومُ على مركزية الإنسان والمُساواة الحقوقية بين الأفراد بعيدًا عن أشكال العصبيَّات والانتماءات الطائفيَّة والمذهبيَّة السَّائدة؟ هل كانت ثوراتُنا مُحاولة في تأسيس " عقد اجتماعيّ " جديد يتجاوز منطق العلاقات القائمة عندنا، إلى اليوم، بين " الرَّاعي والرَّعية"؟ هل كانت انتفاضاتنا ثورات حقا بالمعنى التجاوزيِّ / النقديّ أم كانت حنقا مُعبِّرًا عن رفض تحديث فاشل وقع تحت سحر نموذج الدولة الأمنية ولم يُتح لهُ تحقيق التنمية البشريَّة؟ وما تفسيرُنا، بالتالي، لنوستالجيا العودة إلى البدايات ورفض منطق الأنسنة والتقدم من خلال الحلم بنموذج الخلافة القروسطي والرغبة في " تطبيق الشريعة "؟ ما تفسيرُ ذلك الحنينَ الذي لا ينتهي إلى " تطبيق الشريعة " - عند من ينتفضُ ضدَّ نظام الحكم العربيّ - سوى بوصفه ردَّ فعل المُجتمع التقليديّ / الذكوريّ على تحديث مُتوحش لم ينجح في بناء مُجتمع المُساواة الحديث على أنقاض مُجتمع الفحولة والوصاية والإخضاع؟ ثمَّ كيف يُمكننا أن نفهمَ " ثورة " تُطالبُ بالرّجوع إلى ما قبل الحداثة الحقوقيّة والسياسية؟ كيف يُمكننا أن نكونَ ثوَّارًا ونحنُ لم ننجز، بعدُ، ثورتنا الثقافيَّة والفكرية / النقدية لمورُوثنا من خلال نقد الذات ومُراجعة نظام عمل ثقافتنا التي لم تعُد على موعدٍ مع التاريخ؟ هل تمَّ نقد الشريعة الإسلاميَّة في شكلها الموروث باعتبارها منظومة قانونية جسَّدت عقلا فقهيا طائفيا مُتمركزا حول حقوق الله لا البشر؟ هل يُمكنُ أن يكونَ ديمقراطيّا من لا تكونُ مرجعية حقوق البشر – بمعزل عن انتماءاتهم الدينيّة – في قلب نضاله ومُمارساته السياسيَّة؟
نقولُ هذا ونحنُ نشهدُ عودة الإسلاميّين إلى ساحة العمل السياسيِّ في البلدان العربيَّة المُنتفضة من خلال صناديق الاقتراع. هذا ما يدعُونا بإلحاح إلى مُمارسة ما سمَّيناه " نقد العقل الثوريّ العربيّ ". لقد هلَّل هذا العقلُ لقطع رأس الملك قبل أن يشهدَ ميلادَ حركة النقد الجذريِّ الشامل للثقافة العربيَّة والمُجتمع العربيِّ. لم نتجرَّأ على نقد المُجتمع العربيِّ، إلى اليوم، بوصفه مُؤسَّسة قمعيَّة تعيشُ زمنا ثقافيا راكدًا ولا تنتجُ إلا الآلهة وثقافة " الحنين إلى كل ما يسقط " كما يُعبّر أحد المفكرين. لم ننجح في بناء مُجتمع مُحصَّن ضدَّ كل أشكال النكوص المُمكنة. هذا يعني أنَّ الثورة لا معنى لها بوصفها انتفاضة إن لم يقُدها عقلٌ جديدٌ وعملٌ صبورٌ طويل النَّفَس تربويا وثقافيا وإبداعيّا.
أحمد دلباني – شباط (فيفري) 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.