قد يَعُود البَرابرة... أحمد دلباني 1 كان لنا أن نرى التاريخ يصنعُ عن كثبٍ في العالم العربيّ. كان لنا أن نقلّصَ من هامش حُضور المُستحيل في أبجديَّات وُجودنا وتفكيرنا. هذا أمرٌ شديدُ الأهمية بذاتِه. إن عودة الرُّوح إلى الذات الجماعية مُؤشرٌ على أن الحِراك السُّوسيو- سياسي لن يتوقف عند حدّ يُجهض المطامحَ الكبرى للانتفاضات المُتتالية، خاصَّة ً إذا انتبهنا إلى فرادة التجربة الثورية الحالية التي لم تكن انقلاباً عسكرياً تقليدياً أو مُمانعة ً حزبية إيديولوجيَّة مُنظمة. فإذا كان العقلُ الجدليُّ التقليديّ قد اجتهدَ، منذ زمن، في استشرافِ الثورة باعتبارهَا تجاوُزا لتناقضاتٍ لم يعُد بإمكانها أن تستمرّ، أو باعتبارهَا الوردة التي لا تستطيعُ أن ترى النّور إلا بنفي البرعُم، فإن ما نشهدُه اليوم فاق قدرة مَرجعياتنا الفكرية المُتآكلة على التوقع: لم نعرف قبل هذا الزلزال البهيّ، مثلاً، أنَّ الثورة غيَّرت من جُندها ولم تعُد بحاجةٍ كبيرة إلى الكُتل المُؤهلة لذلك تاريخيا كما كُنا نعتقد؛ وأشيرُ هنا، بخاصَّةٍ، إلى المُثقفين بالمعنى التقليديّ. إنَّ الثورة حدثٌ لا يُفهمُ خارجَ مُحاولةِ خلخلة الأسُس التي تمنحُ الشرعية للوَضع القائم سياسيًّا وثقافيا أيضا. هذا ما أحاولُ، هنا، أن أشدّد عليه. ليست الثورة انقلاباً على العَرش وإنما هي، كذلك، تهيئة ُ النعش لمنظومةِ القيم التي كانت السلطة السّياسية المُباشرة والقائمة تستندُ إليها. دون ذلك لن تكون الانتفاضة ثورة ً وإنما زلزالاً اجتماعيا يفتقرُ إلى هاجس التخطي والتّجاوُز ويفتقرُ إلى الحُلم الإنساني الأعمق بالتحرُّر الشامل. الثورة، جوهريًّا، ليست حِراكاً فحسب بقدر ما هي تحرُّكٌ نحو واتجاهٌ إلى. إنها هدفٌ مُعلنٌ واعتقادٌ عميقٌ بصَداقة التاريخ لشرعية المعنى الذي يعتقُ الإنسان من تفاهتهِ في الغبار الكونيّ، ويمنحُ وُجودهُ جدارة ً لا تتحققُ بغير الوعي والحُرية. ما معنى أن يثورَ الناس؟ رُبما كي يقولُوا إن الوضع لم يعُد يُطاق، أو ليقولوُا أيضاً إن بإمكانهم أن يُحرّرُوا طائر الحُلم المُكبّل في ذواتهم برقصةٍ سَكرى في بَهو المعبدِ المُقدَّس. يثورُ الناسُ، أيضاً، من أجل معنًى يسعُ تطلّعاتِهم في هزيمةِ اللامعنى والعدميَّة. وفي كل حال تبقى الثورة نسغ شجرةِ الإنسانية وهي تشرئبُّ إلى الضوء. لكنَّ الذي جعَل بعض المُثقفين والمُفكرين الأورُوبيين الكبار - في النصف الثاني من القرن المُنصرم - يُعيدون النظر في مفهوم الثورة ويُعيدون التأمل فيها فلسفياً وسياسيًّا هُو، بمعنى ما، انحرافُ هذه الثورة - في طبعاتِها المعرُوفة – عن يُوتوبيا التحرير وسُقوطها في أحبولةِ الشموليةِ والاستبداد والأحادية الفكريةِ والسياسيَّة. لقد كانت " إرادة قوة " جديدة ولم تكن عِتقا للإنسان من زنزانة الاغتراب التاريخيّ. وفي كلمةٍ، كانت الثورة " غولاغ ". هذا ما نجدهُ عند ألبير كامي مثلا وهُو يُنبهُ إلى قيمة التمرُّد الميتافيزيقي في عالم يُلفعهُ اللامعقولُ مُنتقدًا سُقوط الثورة في فضيحةِ سَحق الإنسان. هذا ما نجدُه، أيضا، عند من رأوا في الثورات المُعاصِرة ميلا إلى مُعاداة " المجتمع المفتوح " الذي خرج من رحِم الأنوار الأوروبية، أو عند ميشال فوكو الذي رأى كيف تلاشى الحلمُ الثوريّ ذاتهُ في أواخر القرن العشرين. من هُنا يبدو لي، شخصيًّا، أن الثورة يجبُ أن تُواكَبَ من قِبل الأنتلجنسيا والعقل النقديّ بُغية حمايتها من الانحراف وبُغية تجذيرها أكثرَ في أفق التحرُّر الإنساني ببَرامج العَمل التي تتجاوز قلبَ نظام الحكم. فليسَت الثورة قلباً لنظام الحكم بقدر ما هي قلبٌ لنظام الشرعية التي يقومُ عليها الواقعُ الشامل للاغتراب بكلّ أبعاده، السّياسية منها والثقافية والاجتماعية. إن السُّلطة – مهما بدَت قمعية ً أو ذات سطوةٍ وجبروت - لا تقومُ على شرعية القوة فحسب وإنما، أيضا، على قوّة الشرعية التي يضمنُها خطابٌ ثقافيّ سائدٌ ينهلُ من روافد متعدّدة: نفسية وتاريخية وأنتروبولوجية ورمزيَّة. من هُنا تبدُو مقاومة السلطة بعيدة ً عن أن تكونَ أمرًا هيناً. هذا، رُبما، ما يدعُونا إلى أن نقرّر، بداية ً، أن الأكثر دوامًا هُو المُقاومة وليس الثورة. المُقاومة وعيٌ باهتزاز الشرعية وتفككِ نظام المعنى القائم بمرجعياته ورمُوزه. المُقاومة نضالٌ ثقافيّ شاملٌ يوسّعُ الهُوّة، شيئاً فشيئًا، بين الشرنقة الوجُودية وفراشة الطلائع السُّوسيولوجية التي أكملت صُنع أجنحتِها. إنها فولتير ورُوسو قبل أن تكون قطعًا لرأس الملك. 2 يبدُو لي، شخصيًا، أن أهمَّ فكرتين أسَّستا للحداثةِ السياسيَّة هُما العقد الاجتماعي والثورة. لم يعُد الفكر السّياسي يبحث في أفضل الأنظمة الحاكمة وشرُوط المدينة الفاضلة، ولم يعُد لاهُوتاً يُريدُ مُحاكاة المدينة السَّماوية وإنما صارَ بحثا في الشرعيَّة: شرعيةِ تمثيل الإرادة العامة وحِماية حُقوق الأفراد الطبيعية، أو شرعية قوانين التاريخ الاجتماعي في عملِه الدائم على تجاوُز التناقضاتِ وتحرير الإنسان من الاغتراب. لقد تأنسنَ الفكر السياسيّ وتفككت علاقتهُ بقبَّة السَّماء الآفلة. هذا يعني أن الثورة، جوهريًّا، كانت أنسنَة ً أي بحثاً عن شرعيةٍ جديدةٍ تتمحورُ حول الإنسان، ولم تكن هاجساً إصلاحيًّا يريدُ مَسح الصدأ الذي بدأ يعلو المرجعيات التقليدية في شكلها الديني / الأبوي. الثورة انقذافٌ في المُستقبل وليست عودة ً إلى زمن الحلم بفردوس مفقودٍ تحت ضغط الحاضر غير المُسَيطر عليه كما نجدُ، اليوم، في الفكر العربيّ الذي يتلفعُ بالماضويَّة وبنوستالجيا البداياتِ السَّعيدة في بيت الأب الغائب. لذا نُلاحظ أن الثورة مُراجعة ٌ لنظام عمل المُجتمع وخلخلة ٌ لأسُس الثقافة السَّائدة التي تحمي نظامَ العالم السّيميائي وتحمي بنياتِ القمع، وهي ليست مُجرَّد تغيير حتى لو كان انقلابيًّا. ولكن ما تكونُ الثورة في مجتمع لم يُنجز ثورتهُ الثقافية بعدُ؟ ما مصيرُ التغيير في بلادٍ تسُودها ثقافة بطريركية ٌ وقوى مُمانعةٍ سُوسيولوجية تُدافع بشراسةٍ عن مَواقِعها وعن دورها التقليدي في قيادة المُجتمع؟ ما معنى فكرة الثورة أصلا في مُجتمعاتٍ تثورُ على الحداثةِ وعلى قيم الحرية والفردانية والإبداع وتبشرُ بمدينة الله ضدَّ ما تُسميها مدينة الفرعون؟ هذا ما يدعُونا، هنا، إلى التأمل - وبنوع من الجراءةِ - في تجاربَ ماضيةٍ اعتُبرت ثوراتٍ ولكنها لم تحقق شرط الأنسنة وشرط استضافةِ التاريخ الذي أصبحَ ملعبَ الرّيح الملكيَّة الكانسة وفالقَ إصباح المعنى بمعزل عن المُطلق. وفي كلمةٍ واحدةٍ: ما معنى الثورة ضدَّ الحاضر – مهما كان استبداديًّا وقمعيا وغير عادل - باسم الماضي ورمزانيته التي لم تكن تحلمُ يوماً بمدينة الإنسان والحرية؟ رُبما علينا، هنا، أن نعلمَ جيدا أن مرجعية الماضي لا تضمنُ انعتاقَ الإنسان وإنما قد تجيبُ عن حنقهِ وغضبهِ أمام حاضر يمثلُ اغترابا للإنسان التقليدي في غياب ثورةٍ ثقافيةٍ وتنميةٍ بشرية فعلية. هذا رُبما ما مثلتهُ " الثورة الإيرانية " التي نراها اليومَ تتباهى بانتهاك أبسط حقوق الأفراد والجماعات، ونراها تُخضعُ قيمَ الجمهورية لوصاية المُرشد الرُّوحيّ وسَطوة المرجعيات المذهبية التقليدية القائمة على الاعتقاد بالمهدي المُخلّص. من هنا نعتقدُ أن الثورة كرة عظيمة ٌ تتدحرجُ وقد تقعُ في أية هاويةٍ ما لم يتمَّ تحديدُ وجهتها والتمهيدُ الواعي لأهدافها الإنسانية ضدَّ كل أشكال السُّقوط المُمكنة. لذا يبدو لي شخصيًّا أن علينا أن نعملَ دائما على حماية الثورة العربية من أن تتجرجرَ مُترنحة ً وراء وُعودِ الكتب الحَمراء والخضراء على السَّواء. الثورةُ تأسيسٌ لعقدٍ اجتماعي جديد يستجيبُ لتطلّعاتِ الحاضر ويُنهي أزمنة التناقض الذي بلغ حدًّا لا يُطاق. الثورة ليست حنيناً إلى طفولةٍ تأخذ شكل الوطن الذي ندفنُ رؤوسنا في لازورد أوهامه وتهويماتهِ. الثورة ليست عودة ً وإنما هي انسلاخ ٌ من سيادة الماضي ووصاية المرجعيات التي ظلت تُؤبّد سلطة الأب. هذا ما يُفسّر لنا ارتباط الثورة الوثيق بالحداثة. ورُبما لم يفهم الكثير من مفكري الأزمنة الحديثة الكبار الحداثة َ إلا بوصفها زمناً حضارياً جديدا تأسّس في أفق الثورة التي أسدلت السّتار على المُقدس والمُطلق وأحالته على التقاعُد ليولدَ زمن التاريخ والصّيرُورة التقدمية. هذا ما يجعلُنا نفهمُ، هنا، كيف أن الثورة باعتبارها نفياً للماضي ظلت غريبة ً عن الفكر الأصولي بجميع أشكالهِ لأنهُ فكرٌ يعتقدُ بتعالي المرجعية التراثية وبسلطة الأب الرمزي. الحداثة ُ، تحديدًا، هي موت الأب وكذلك هي الثورة أيضا، وهذا الشرط ُ لم يتحقق في الكثير من الاحتجاجات الانقلابية على أنظمة الحكم التي سقطت في شرَك تأبيد سلطة الأب الثقافي نظيرَ ما رأينا في " الثورة الإيرانية ". تكمنُ مُشكلتنا - بوصفنا عربًا ومسلمين - في أننا لم نشهد قتل الأب في ثقافتنا وإنما أعدنا إنتاجهُ في أشكال جديدةٍ من الأصولية العقائدية والانغلاق الإيديولوجي المذهبي الذي اعتقلَ العالم والحقيقة في شباكِ النظرية والكلمةِ الأولى التي ادَّعت أنها تعلو على وقائعية العالم وفجائعيته. مُشكلتنا أننا لم نشهد اضمحلالَ المُقدس أو انسحابَهُ من فضاء العمل التاريخي في توليد المعنى على ما يرى البروفيسُور مُحمَّد أركون، وإنما ظلت تتناسلُ فينا شهوة التماهي مع الأصل احتماءً من فوضى الحاضر غير المُسَيطر عليه بشكل جيد. هذا ما يدفعُ بي إلى الحديث عن خطر الثورة السياسية في ظل غياب الثورة الثقافية والعقلية التي تناوش قلعة الواقع وتُفكك سلطة المرجعيات المُتآكلة. دون ذلك تبقى بيوتنا مُشرعة ً دائماً لضيوفها من الآلهة التي ترفض أن تمُوت. مُشكلتنا أننا لم نشهد " عُطلة الآلهة " وميلاد مركزية الذاتية الإنسانية كما يُعبر هيدغر وهُو يتحدث عن أسُس الحداثة. هذا ما جعل العقد الاجتماعي عندنا مهدورًا في ظل الصَّخب الإيديولوجي المُعاصر، ويُعاني من افتقارهِ بشكل مُوجع إلى البُعد الإنساني الفردي وحقوق الإنسان الديمقراطية لصالح الحديث باسم الأمة أو الثورة الاشتراكية أو التحديات التي طالمَا قصَمت ظهورنا. وها نحنُ اليومَ نجتهدُ في بعث الحكايات التأسيسيَّة لحظة إفاقتنا على التراجع الشامل. ها نحنُ ننكمشُ أمام تنين العالم ونمارسُ الهربَ من مُختبَر التاريخ حيث تصنعُ الأقدارُ الجديدة ويشتدُّ الصراعُ على احتكار معنى الكينونة التاريخية للبشَر. 3 أستدركُ، هنا، فأقولُ قد يفهمُ من كلامي السَّابق أنني نصيرٌ للمركزية الغربية ولمَرجعيتها المزعُومة، وبخاصَّةٍ في حديثي عن الثورة والأنسنة انطلاقا من خلفيةٍ مرجعيةٍ غربية. هذا الاعتراضُ واردٌ ومفهومٌ. وأنا لا أنفي أبدًا مأزقَ المُثقفِ العربيّ المُعاصِر الذي يجدُ نفسَهُ داعية ً للتحديث وتثوير الحياة العربية استنادًا إلى النموذج الغربيّ الذي أنتج قدَر البشرية الجديد: الحداثة. غير أن كل مُثقفٍ عربيّ يدركُ اليوم، أيضا، أن الحداثة الغربية الكلاسيكية التي غزت العالم وفرضت عليه منظومَاتِها القيمية - أصبحت موضعَ مُراجعةٍ عميقةٍ ونقدٍ تفكيكيّ يكشفُ عن عنجهيتها وعن صلافةِ عقلها التنويري ذي النزعة المركزية. من هُنا نفهمُ الحديثَ الرَّاهن عن النسبية الثقافية وعن ضرورة احترام الاختلاف الثقافي والحضاري بعيدًا عن التمركز الغربي الذي كرَّسهُ الاستعمارُ التقليدي وفرضَ به ثقافتهُ الخاصَّة بوصفها ثقافة ً - مرجعًا. إن من أجلّ فتوحاتِ العقل النقدي المُعاصر، بكل تأكيدٍ، تلك الخلخلة التي تمت بوساطتها زحزحة ُ الذات الغربية عن المركز معرفيا وسياسيًّا أيضا. غير أنَّ لديَّ ما أقولُ - رغم كل شيءٍ - في ذلك. أعتقدُ أن الاختلاف الثقافيّ أمرٌ واضحٌ ويكشفُ عن غنى التجربةِ البشريَّة وعن التنوُّع الهائل في ابتكار الرمزانيَّة الثقافية بوصفها طريقة ً في سُكنى الوُجود وتأثيثهِ بمصَابيح المعنى. هذا الأمرُ من صَميم تجربةِ البشر التاريخية ومن مزاياها. إلاّ أن الحديث عن النسبيّة الثقافية المُطلقة أمرٌ خطيرٌ قد يوقعُنا في العدمية وفي إمكان تلاشي كل مرجعيةٍ تتأسَّسُ عليها القيم التي نطمحُ إلى أن تكونَ إنسانية ً وكونية. أعتقدُ أننا نشهدُ اليوم تنامي الخطابات الأصوليَّة والعنصرية، ونشهدُ انكماشاً للعقل المُنفتح وحديثا لا ينتهي عن الهُوية. إن في هذا أمرًا بالغ الدّلالة في اعتقادي الخاصّ: إنه مؤشرٌ على فشل الحداثة الكلاسيكية التي وقعت في وَهمِها المُتسرّع ببلوغ نهايةِ التاريخ السَّعيدة؛ وهُو أيضا مؤشرٌ خطيرٌ على مُحاولةِ سدنةِ الأصُوليات المتآكلة الاستفادة َ من " رُوح العصر " من أجل إعادة بعث مشرُوعهم باسم الدفاع عن الخصُوصيَّة الثقافية والدينية والحضارية بعامَّةٍ. فهل علينا، اليوم، أن نُدافع عن الكونية أم عن الخصوصيَّة؟ هل نستطيعُ أن نكون كَونيّين دون السُّقوط في أحبولة المركزية الغربيَّة؟ وهل الدفاعُ عن الخصوصية يمثلُ – بالضرورة - موقفا نقديا من مُحاولات الهيمنة باسم النزعة الإنسانية في طبعتها الغربية النيوكولونيالية؟ أعتقدُ، هنا، أننا يجبُ أن نميز جيدًا بين النزعة الإنسانية والفكر الغربي. فأن نكونَ اليوم أصحابَ موقفٍ إنسانيّ منفتح ونقديّ لا يعني بالضرورة أننا مسكونُون بنوستالجيا الكولونيالية الجديدة، ولا يعني أننا نعتبرُ الثقافة الغربية مَرجعًا مُطلقا. بالعكس. إن قيمة هذه الثقافة بالذات - كما يُبيّن تاريخها – تكمنُ في كونها حركية ً دائمة من المُراجعة ومن الثورات المعرفية والسياسية على موروثها الخاص. رُبما هذا ما نجابهُ به وضعنا الذي أصبحَ أمْيلَ إلى تأكيدِ الخصوصية في وجهِ عالم لا يكفّ عن التغير وعن ابتكار الحُلول لفيض المُشكلات والأزمات خارجَ كل مرجعية. إن الثقافة – إضافة ً إلى كونها طريقة ً في سُكنى العالم - هي القيم. هذا هُو مدارُ المُشكلة. وأعتقدُ، شخصيًّا، أننا نستطيعُ أن نتفقَ على كونية القيم انطلاقا من الاعتقاد بمركزية الإنسان داخل دائرة القيم. هذه هي مرجعية الحداثةِ الكبرى التي قلصت من هامش حضور المُقدس وسطوةِ المرجعيات التقليدية المعرُوفة في كل الثقافات. هذه النزعة الإنسانية ساهمت فيها كل الثقافات الحية عبر التاريخ مثل ثقافتنا العربية – الإسلامية كما أشار إلى ذلك البروفيسُور مُحمّد أركون. وخارج هذا المدَار لا أعتقدُ أنهُ بإمكان البشر الاتفاق على منظومةِ قيم واحدةٍ ومرجعية أخلاقية كونية. والعوائقُ هنا ليست فلسفية ومعرفية ً فحسب وإنما هي، بالأساس، سياسيّة ومذهبية باتت تُغذيها - منذ مُدَّة – عولمة ٌ هوجاء لم تحقق وحدة التطلع البشريّ إلى الحرية والعدالة والكرامة بقدر ما نجَحت في تحويل العالم إلى سُوق وغابةٍ اقتصادية نعرفُ جميعا مدى مآسيها على المُستوى الإنساني. هذا ما أنتجَ الخيبة العامة وفجَّر الأصُولياتِ المُختلفة بوصفها طوقَ نجاةٍ في مُحيط العماء التاريخيّ وحِصنًا أمام الاغتراب. أعُودُ إلى قضية المسألة الثقافية وهاجس الدّفاع الحالي عن الخصُوصية وعن الحق في الاختلاف. هل علينا أن نُدافعَ عن الإنسان أم عن الهُوية؟ هل يجبُ أن نُدافعَ – في عالمنا العربيّ مثلا - عن حق الفرد في التفكير والتعبير والإفصاح عن الرَّأي؟ أم علينا أن ندافعَ عن المرجعية التكفيرية والمُؤسَّسةِ الوصيّة على الضمائر؟ هل التكفيرُ والتبديعُ وهضم حقوق الفرد تمثل قيمًا تدخلُ في دائرةِ الخصوصيّة التي يجبُ الدفاعُ عنها؟ هل علينا أن نُناضلَ من أجل الحق في المُساواة بين الجنسَيْن ومن أجل المُواطنة الفعلية؟ أم يجبُ – خلافا لذلك – أن نستميتَ في الدفاع عن نظام اللامُساواة ووضع أهل الذمة كما حدّدتهُ الأدبيات الفقهية / الحقوقية في الماضي بدعوى التمسُّك بالأصالة والحق في الاختلاف بعيدًا عن إملاءاتِ الغرب؟ هل على الهند المُعاصرة، مثلاً، أن تمنعَ تقليدَ إحراق المرأة نفسَها بعدَ وفاةِ زوجها أم عليها أن تعتبرَ ذلك تراثا مُقدَّسا وخصوصية واختلافا ثقافيا يمثل هُويتها؟ هل نستطيعُ اليومَ فعلا أن ندافعَ عن ختان المرأة المُمارس في بعض البلدان الإسلامية والإفريقية باعتبارهِ خصوصية ومورُوثا وتميّزا ثقافيا رغم نتائجه المُدمّرة عند الأنثى؟ وفي كلمةٍ واحدةٍ: هل علينا أن نحترمَ الإنسان أم ما يعلو عليه؟ ما أردنا أن نقولَ هُو أن الحديث عن الخصوصيات الثقافية اليوم لم يعُد يخدمُ الإنسان والحرية وبخاصَّةٍ إذا صدرَ من جهاتٍ سياسية تطمحُ إلى اكتساب شرعية أدبية وفلسفية وأخلاقية وهيَ تنتهكُ حُقوقَ الإنسان باسم الهُوية والتميز الثقافي والحضاريّ كما نجدُ في بعض البلدان العربية. إن لسانَ حال بعض الأنظمة العربية - الإسلاميّة التقليديّة يقول: " نعم. نحنُ لا نحترمُ الإنسان ولا نعتبرهُ مرجعًا، ولكن على العَالم احترامُ هُويتنا وخصوصيتنا الثقافية والحضارية القائمةِ على سحقهِ وتدجينه! ". هذا ما يدعُونا إلى إعادة النظر الجذريَّة في قضية الهُوية ورهاناتِ انبثاقِها اليوم باعتبارها مسألة ً مركزية في النقاش الفكريّ والسّياسي. إن الهُويّة، في اعتقادي الخاصّ، تشكيلٌ تاريخيّ بالطبع ولا أحدَ يُمكنهُ أن يعترض على القول إن كل الثقافات تعرفُ تحوُّلا واغتناءً لا ينقطعان تاريخيا. الحضارة العربية – الإسلامية هُوية ٌ مركّبة وهي نتاجٌ تاريخيّ للتلاقح الحضاريّ البديع والعالي الذي كان المُسلمُون في عُهودِ ازدهارهم من رُوَّاده. الغربُ أيضا ليس هُويَّة ثابتة ً تقبعُ خارجَ التاريخ كمُومياء، وإنما هُو تحوُّلٌ عظيمٌ ومَسارٌ جدّ مُعقد. وقد سمعتُ، يومًا، الفيلسُوفَ الفرنسيّ المُعاصر ريجيس دُوبريه يتحدَّثُ عن هُويّة الغرب – بعدَ نقاش مُحتدم حول الدستور الأوروبيّ ومُشكلة حُضور الألوهة والبُعدِ المسيحيّ فيه – بالقول إن الغربَ ليس القديس أوغسطين فحسب وإنما هُو فولتير أيضا. هذا ما يُتيحُ لي أن أقولَ هُنا إن الهُوية العربيّة – الإسلامية ليست ابنَ تيمية والشافعي فحسب وإنما هي ابن رشد والمعرّي أيضا. يُمكننا، بالطبع، أن نلاحظ أن هُناك سِماتٍ عامة في كلّ ثقافةٍ تجعلنا نعتقدُ بوجودِ خصوصيّة ثابتةٍ فيها نُسمّيها عادة ً " الهُوية "، ولكنني أقولُ أيضا إن هذه السّمات ثابتة ٌ نسبيا فقط، وهي شيءٌ عَرَضيّ وتاريخيّ وليست أقنوما أزليًّا. من هُنا " تكونُ الهُويّة صيرورة ً، أو لا تكونُ إلا سجنا " كما يعبّرُ، بحق، أدونيس. ولكن من يُريدُ أن يجعلَ من الهُويّة سجنا أمام تطلعاتِ الحاضر وصيرورتهِ الطبيعية إن لم يكن السّجان؟ إن مُشكلة الهُوية عندنا سياسيّة / إيديولوجيّة، وهي خطابٌ يُستثمرُ دائما من طرف الفئاتِ الأكثر سيطرة ً من أجل كبح التغيّر وتبرير الهيمنة على الفضاء السوسيو- سياسي. 4 ذكرنا ما سبقَ كي نُنبّهَ إلى أن حديثنا عن الثورة يجبُ ألا يُفهمَ على أنهُ اعتمادٌ آليّ لمرجعية الغرب التاريخيّ من أجل فرضها على واقع المُجتمعاتِ العربية والإسلاميَّة. الثورة نشدانٌ للحرية وتطلّعٌ إلى تحقيق ماهية الإنسان في ظل استبصار الإمكان التاريخي والشروط الموضوعيَّة الدافعة إلى قلب نظام الشرعية الذي يقومُ عليه الواقع. وعندما تحدّثنا عن بعض الثورات رأينا أنها لم تكن إنسانية الطابع بقدر ما كانت إعادة إحياءٍ للأب الثقافي / الرمزي في شكله المُؤسَّسي التقليدي الذي يُعيدُ إنتاجَ نظام القمع والتدجين والارتهان للماضي. هذا ما رأينا فيهِ غيابا للأنسنةِ في " الثورة الإيرانية " مثلا. من هُنا أردنا أن نُحذر من إمكان سُقوط الثورة في اللاأنسنةِ و في إعادة بعث الآلهةِ بعيدًا عن هاجس التمركز حول الناسُوت. رُبما نفهمُ الآن جيّدًا كيف أن الثورة يجبُ أن تكونُ ثقافية وعقلية أو لا تكونُ إلا اهتزازا سطحيّا لا يرج الأعماق التي تؤسّسُ لدَوام شرعيةِ المُقدّس والماضي والمرجعيات التي تجتهدُ في مدّ ظلها على الحاضر، وتمكين القوى السوسيولوجية البطريركيّة من كبح حركيّة التاريخ ومُراقبة نظام المعنى والشرعية. إنَّ مدينة الإنسان التي تحلمُ بها الثورة الحديثة ليست بمأمن من عَودة البَرابرة من جديدٍ. قد يكونُ حصادُ الثورةِ تراجُعا على كل المُستويات. هذا يُعلمُنا شيئا عظيم الأهمية: على الثورة أن تكونَ تقدّما وتحريرًا وعِتقا للمعنى من العُنف الرمزيّ الذي تضمرهُ المرجعيات الدينية والدنيوية على السّواء. نقولُ هذا ونحنُ نشهدُ الحِراك العربيّ البهيّ الذي يتردّدُ المثقفون العربُ في مُواكبة إنجازاتهِ السياسيّة الباهرة. رُبما كان علينا أن نتخندقَ مع المُنتفضين الجُدد في جبهةِ العمل الدّائم على تجذير التطلع الثوري والتحذير من عودة البرابرة قبل الشروع في بناءِ مدينة الإنسان العربيّ.