اختتمت أمس ببلدية تكوت تظاهرة سوق عيد الخريف، وهي المناسبة التي تتميز بها منطقة تكوت جنوب شرقي ولاية باتنة، بحيث تقام كل موسم تزامنا وحلول فصل الخريف، وقد صمدت طيلة عقود من الزمن، بحيث ترجع إلى بدايات القرن التاسع عشر، وقد ظل أهل المنطقة متمسكين بها، لما لها من أبعاد اقتصادية واجتماعية، فالتظاهرة عبارة عن سوق لعرض مختلف السلع أبرزها المنتجات الفلاحية، وتقام خلال التظاهرة التي عادة ما تدوم ثلاثة أيام نشاطات من التراث المحلي لمنطقة الأوراس، فضلا عن إقامة اجتماعات لإصلاح ذات البين ومعالجة القضايا الاجتماعية. وبعد أن أخذت تظاهرة سوق عيد الخريف بمنطقة تكوت صيتا وبعدا محليا وجهويا، بادرت السلطات العمومية لولاية باتنة إلى احتضانها وتشجيعها، وعرفت الاحتفالية طيلة ثلاثة أيام أجواء بهيجة صنعها سكان تكوت وما جاورها، منذ الافتتاح وسط طلقات البارود للفرق الفلكلورية، وعلى أنغام الرحابة التي صدحت بها حناجر فرق الشاوية، وعرف يوم الافتتاح للسوق إقبالا كبيرا للمواطنين. وقد أضفى السوق لمسة جمالية على الشارع الرئيسي لبلدية تكوت بالألوان التي توحي لفصل الخريف، أين عرض التجار سلعا مختلفة ومتنوعة من ألبسة وأواني وتجهيزات منزلية وأغطية وأفرشة، وتحضر بقوة في سوق عيد الخريف المنتجات الفلاحية الموسمية التي تتميز بها المنطقة، كالتين والتين الشوكي والتفاح والإجاص والخوخ وغيرها من الفواكه إلى جانب عرض ما تجود به أيادي النساء الشاويات في منازلهن من تحضير للكليلة، والمنسوجات التقليدية. وأصبحت التظاهرة مقصد التجار من ولايات عديدة من الوطن لعرض سلعهم أو حتى للمقايضة مثلما أكده مواطنون ل «النصر»، حيث أشاروا إلى أن السوق قديما كان يعرف مبادلات تجارية ومقايضة بين السلع والمنتجات الفلاحية التي تميز منطقة تكوت وما جاورها بسلع وأغراض على غرار الوسائل الفلاحية، والمقصود حسب السكان بالخريف لا يعني الفصل وإنما مدلوله من نضج وتوفر منتجات فلاحية موسمية تقترن بالخريف. وللتظاهرة بعد اجتماعي في القديم، ناهيك عن البعد التجاري الاقتصادي الذي يضفي حركية بالمنطقة ويبعث فيها أيضا حركية سياحية لكل مرتاد عليها، ويتمثل البعد الاجتماعي في التقاء الأعيان والأئمة ورجال الإصلاح للنظر والبت في قضايا اجتماعية كإصلاح ذات البين، وحصر مهر وشروط الزواج للتشجيع عليه. ياسين عبوبو الباحث في التاريخ جمال مسرحي للنصر: سوق عيد الخريف إرث حضاري بأبعاد اقتصادية واجتماعية * استغله رواد الحركة الوطنية في فترة الاستعمار يؤكد الباحث في التاريخ الدكتورجمال مسرحي أن تظاهرة سوق عيد الخريف أو كما تعرف بالشاوية «هامغران تمنزوث»، باتت التظاهرة مناسبة للترويج السياحي للمنطقة التي تنام على موروث زخم، ولا تقتصر التظاهرة على البعد الاقتصادي، وإنما تمتد لأبعاد اجتماعية وثقافية. أجرى الحوار: ياسين عبوبو * النصر: بداية إلى أي حقبة تاريخية تعود مظاهر الاحتفال وإحياء ما يُعرف بعيد سوق الخريف بمنطقة تكوت؟ تقام تظاهرة سوق عيد الخريف ببلدية تكوت، منذ فترة طويلة لم يتسن لنا تحديد بدايتها بدقة، لكن يبدو أنه قد بدأ تنظيم هذه السوق مع تثبيت الإدارة الاستعمارية الفرنسية العسكرية في المنطقة عقب احتلال الأوراس سنة 1848 وتقسيم عرش بني بوسليمان إلى دوارين هما دوار زلاطو الشمالي الذي يضم إينوغيسن، ودوار زلاطو الجنوبي الذي يضم تكوت، وبما أن تكوت كانت الأكثر ملاءمة لتكون مقرا لقيادة العرش بسبب موقعها الملائم، وتعداد سكانها الكبير فقد تم اختيارها لتكون مقرا لمشيخة العرب، كما أنشأت بها محكمة مدنية (محكمة شناورة)، وعليه كان من الضروري التقاء الأعيان بالمدينة لدراسة مشكل العرش وحل قضاياه الخلافية، فكان ذلك مناسبة أيضا لإقامة سوق سنوي لأهل المنطقة بشكل عام، وعليه يُرجح أن تكون بدايات تنظيم هذا السوق فيما بين 1860 إلى 1870 أي قبل سقوط النظام العسكري الفرنسي على إثر الحرب البروسية الفرنسية. * ما الذي يتخلل سوق عيد الخريف الذي تحتفي به منطقة تكوت بالأوراس؟ قبل الاستقلال كان سوق عيد الخريف يقام يومي 15 و16 أوت من كل سنة، وهما آخر يوم من فصل الصيف وأول يوم من فصل الخريف بالتقويم الفلاحي المعتمد لدى سكان المنطقة لارتباطهم بفلاحة أراضيهم طوال السنة، وفي ذلك الاختيار دلالة مهمة هي أنه انتهاء فصل الصيف وأشغاله الشاقة من حصاد ودرس وتخزين للمنتوجات الفلاحية ليتم الاستعداد لموسم جديد، والتحضير لموسم الحرث ثم الشروع في رحلة الشتاء للتنقل إلى شمال الصحراء كون سكان المنطقة نصف مرتحلون يمارسون رحلتي الشتاء والصيف. وجدير بالذكر أنه قبل تنظيم السوق الكبير(سوق عيد الخريف) بمدينة تكوت عاصمة عرش بني بوسليمان، غالبا ما كانت تنظم أربعة أسواق أسبوعية يطلق على كل واحد منها «سوق الجمعة» تقام بالموازاة معها زردة أو وعدة عند ضريح من أضرحة الأولياء الصالحين، وتتمثل هده الأسواق «الجمعية» في سوق جمعة سيدي فتح الله، في منطقة كيمل، وسوق جمعة سيدي عيسى بمنطقة جارالله، وسوق جمعة تاقطوفت في حمر خدو، ثم جمعة جبل البوص في وادي عبدي وخلافا لسوق عيد الخريف يرافق هذه الأسواق طقوس متعددة كإقامة الحضرة، وقراءة القرآن، ثم تلاوة الأهازيج الصوفية وغيرها، ليختتم ذلك يومي 15و16 أوت بتنظيم السوق الكبرى بتكوت إيذانا بانتهاء فصل الصيف وبدء فصل الخريف. وحسب الشهادات المستقاة من شيوخ المنطقة، فإن مكان تنظيم السوق كان في موقع يسمى «زينون» ويقع بمحاذاة الوادي الكبير (وادي شناورة) والطريق الرئيسي المؤدي إلى وسط المدينة الذي كان في الأصل معسكرا لجيش الاحتلال (محمود عبد السلام، مدينة تكوت ووليها الصالح سيدي عبد السلام، ص. 199). لا ندري من أين جاء اسم زينون هذا، فرغم استبعادنا أن يكون المعني هو زينون الفيلسوف الاغريقي ذو الأصل السوري زعيم فلسفة الأخلاق الرواقية (264-335ق.م) إلا أنه يجب التذكير أن منطقة تكوت كانت محطة التعمير البشري منذ فجر التاريخ، وكانت أحد مراكز الاستيطان الروماني بالمنطقة وتشهد على ذلك العديد من المعالم الأثرية الرومانية كخزان المياه في تكوت الدشرة (القديمة)، وخزان آخر في شناورة، بالإضافة إلى آثار مختلفة كالحجارة المصقولة، وقطع من مختلف العملات الرومانية يتم العثور عليها من حين لآخر. * ما سر ذيوع صيت السوق وتميزه على مدار عقود من الزمن؟ بعد الاستقلال تغير موعد تنظيمه، فغالبا ما كانت السلطات البلدية تحاول إقامة التظاهرة مقترنة بالسوق الأسبوعية الذي يصادف الخميس وبالتالي أضيف يوما آخر فأصبحت تقام أيام: 26-27-28 أوت من كل سنة، ويتم نشر إعلانات إشهارية لإعطاء الجانب الإعلامي الدور المنوط به لإنجاحها، رغم أن شهرة السوق كانت قد تجاوزت الأوراس منذ ما قبل الاستقلال وقبل انتشار وسائل الإعلام، حتى أن أحد علماء الزاب وهو الشيخ عبد المجيد ابن حبة كتب ما يشبه الشعر يصف سوق عيد الخريف أورده الأستاذ محمود عبد السلام في كتابه. ولقد ذكرت الباحثة الفرنسية جيرمان تييون في كتابها المتعلق بالثقافات والاعراق أن:«صدى سوق عيد الخريف تجاوز الأوراس ليصل إلى المناطق المحيطة به كوادي ريغ، والحضنة، ومناطق أخرى من الهضاب العليا.. « (G. Tillion, Il était * ne Fois L›ethnographie; Paris 2000. PP. 179.) وعليه كان التجار يأتون من مختلف مناطق الوطن لاسيما الشرقية كسطيف، جيجل، فرجيوة، برج بوعريريج، باتنه، قالمة، خنشلة، تبسة، بسكرة وغيرها وكان أغلب التجار الوافدين من خارج المنطقة هم تجار الملابس، لاسيما المستعملة (الشيفون)، الأفرشة والأغطية، الأواني المنزلية، الأدوات الكهرومنزلية، والآلات الفلاحية، والأدوات المدرسية ومختلف المصنوعات. * النصر: لماذا ترتبط التظاهرة بالخريف وما دلالة تسميتها التي تجمع بين السوق والعيد؟ كما رأينا مما سبق أن هذه التظاهرة من الناحية اللغوية للمصطلح «الخريف» ارتبطت بتوديع فصل الصيف واستقبال فصل الخريف، لكن دلاليا لدى سكان المنطقة يطلق اسم الخريف على الفواكه التي يتم جنيها في فترة بداية فصل الخريف، والتي تشتهر بها بلدية تكوت وقراها المختلفة أو المناطق المجاورة لها كقرى: شناورة، لقصر، تاغيت، جارالله وبلديات غسيرة، مشونش ثم مدينة آريس ومحيطها كاينوغسين وإيشمول، وكل قرى الوادي الأبيض، ناهيك عن قرى وادي عبدي.. ومن ثمة فدلالة مصطلح سوق عيد الخريف لها ارتباط بالفواكه التي يتم عرضها في هذه السوق، وما يثبت ذلك هو تسمية التظاهرة بالعيد أي إضافة عيد الخريف، وهو ما يوحي بأن السكان كانوا ينتظرون موعدها كل سنة للتسوق سواء بيع المنتوجات أو شراء مستلزماتهم من هذه الفواكه كالتين المجفف، التين الشوكي، الرمان، الجوز، العنب، والتمور إلى غير ذلك من الفواكه. إضافة إلى ذلك تعرض منتوجات محلية أخرى مثل: السمن، الزبدة، الكليلة، الطماطم المجففة، زيت الزيتون، الصوف المنسوجات، الألبسة، والتوابل، أدوات الفلاحة: المحاريث، المناجل، والحيوانات المختلفة كالماشية والمستغلة في أعمال الفلاحة.. وبالتالي كان السوق ملاذا رئيسا للسكان سواء الفلاحين المنتجين لتلك الفواكه من أجل تسويقها، أو سكان الجبال المجاورة لاقتناء حاجياتهم من تلك المنتوجات التي يفتقدونها كون أنشطتهم الفلاحية تقتصر على زراعة الحبوب (القمح والشعير) في غالب الأحيان، فكانوا ينتظرون موعد سوق عيد الخريف للتزود بما يكفيهم لأطول مدة قد تكون مؤونة عام كامل لبعض المواد كالفول، والفريك، و»المرمز» وحتى الألبسة. * ماذا عن البعد الاجتماعي للتظاهرة ناهيك عن البعد الاقتصادي لبيع المنتجات الفلاحية؟ إلى جانب الطابع الاقتصادي التجاري للتظاهرة فهي أيضا ذات طابع اجتماعي واخر ثقافي، أما الطابع الاجتماعي فيتمثل في: اعتبار السوق مؤتمرا سنويا لأعيان عرش بني بوسليمان لدراسة مختلف القضايا التي تهم العرش فتتخلل هذا الموعد عقد لقاءات متعددة للأعيان الذين يحضرون في إطار هيئة «الجماعة» التي تتولى حل المشاكل التي تنشب بين أفراد العرش أو مع أعراش أخرى، فيتم إصلاح ذات البين، وإنهاء الضغائن بين الافراد أو الجماعات المتخاصمة، أو نشبت بيها خلافات استعصى حلها عن طريق العدالة، كما يقوم هؤلاء بدراسة مهور العرائس وتحديدها وفق ما ينص عليه الدين الإسلامي محاولين قدر الإمكان التقليل من تكاليف الزواج، لمساعدة الشباب على الاقدام عليه، ثم تقييد ذلك في وثيقة يوقعها أعيان العرش الذين يحضرون من مختلف المناطق والقرى من كلا الدوارين زلاطو الشمالي والجنوبي مع حضور الكثير من أئمة المنطقة ورجال الإصلاح حتى من خارج عرش بني بوسليمان كأعراش التوابة وبني فرح و أوجانة ..إلخ. أما الجانب الثقافي فيتمثل في كون التظاهرة فرصة لإقامة حفلات ليلية تحييها فرق الرحابة المحلية، خاصة وأن المنطقة ككل مشهورة بثرائها الغنائي لفرق الرحابة مما يضفي على التظاهرة زخما خاصا وطابعا ثقافيا وترفيهيا. وفي الآونة الأخيرة عمدت الجمعيات المحلية والنوادي الرياضية إلى تنظيم دورات رياضية تنافسية في رياضات مختلفة ككرة القدم، والكرة الطائرة، أو دورات تنافسية في رياضة الشطرنج، كما أن للتظاهرة بعد سياسي خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية بحكم أن الأوراس انطلقت منه تحضيرات الثورة التحريرية. * ماذا عن البعد السياسي لتظاهرة سوق عيد الخريف خلال الحقبة الاستعمارية الفرنسية؟ كان السوق في السابق قبل أثناء فترة الاحتلال الفرنسي دورا سياسيا مهما، فعلى غرار كل التجمعات كان رواد الحركة الوطنية يستغلون مثل هذه الأنشطة لنشر الوعي في أوساط الشعب، ففي هذا السياق يقول الأستاذ محمود عبد السلام وهو شاهد عيان على مرحلة الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي في المنطقة: « كما يقصدها -سوق عيد الخريف- الطلبة الذين يدرسون خارج المنطقة كقسنطينة وتونس وغيرهما، هذا وكنت أرى تجمعات بشرية هنا وهناك على حافة ميدان السوق، يتحاورون فيما بينهم، وقد يتناقشون حول السياسة وغيرها، وقد شاهدت ذات يوم مناضل الحزب الشيوعي شباح المكي وقد ارتقى تلة حمراء على هامش السوق وهو يخطب في مجموعة من أتباعه، وقد كان لابسا بدلة فرنسية على مرأى ومسمع من السلطات المحلية «(محمود عبد السلام، نفسه، ص. 203) ومعروف أن شباح المكي كان أحد أبرز مناضلي الحزب الشيوعي بالأوراس وكونه ابن المنطقة فمن الطبيعي أن يستغل المناسبة لنشر أفكار حزبه، كما كان للأئمة وشيوخ الزوايا أيضا نشاطات توعية لسكان المنطقة دون التغاضي عن نشاط حزب الشعب الذي كثيرا ما كان مناضلوه يستغلون من هذه التجمعات لنشر الفكر الاستقلالي في أوساط الشعب الجزائري، لذلك كثيرا ما كانت سلطات الاحتلال تراقب بل تمنع النشاطات والتجمعات في «الزردات» و الأسواق و»الوعدات» و الزيارات التي تقام للأضرحة ومقامات الأولياء الصالحين في جمعات سيدي عيسي، وسيدي فتح الله وغيرها..