أطفال لا يملكون شهادات ميلاد و لا يعرفون المدارس بدوار الصم في مدينة باتت بناياتها تناطح السحاب، و في عالم جديد يتم تشييده بوتيرة متسارعة، تنهض المدينةالجديدة علي منجلي بقسنطينة بما يوحي بأن مسار التنمية يعرف حركية إيجابية، غير أن الواقع و غير بعيد عن هذه المدينة يخلق نوعا من التناقض الرهيب و الصارخ، بين مكانين أحدهما يعيش أوج ازدهاره، و عالم آخر لا يزال يعيش تحت وطأة البدائية القاتلة لأزيد من 10 عائلات بدوار الصم بقرية بوشبعة أحمد بعين السمارة . تحقيق : إيمان زياري /تصوير / الشريف قليب في هذه القرية التي لا تبعد سوى ببضع كيلو مترات عن المدينةالجديدة علي منجلي، والمتواجدة على محور الطريق الرابط بين علي منجلي و عين السمارة، تناقض صارخ بين عمارات بهندسة راقية، و بيوت بالجزء الخفي من القرية ، مشهد يشبه تلك المشاهد التي نراها في مونتاج فيلم تاريخي يقارن بين تناقض الحياة في مكان واحد جزؤه الأول يعيش أعلى درجات التخلف و انعدام التنمية، و جزؤه الآخر الذي استطاع فيه الكثيرون النعيم برغد الحياة و العيش داخل بنايات مشيدة على آخر طراز، هذا هو المشهد عندما تحاول رؤية المكان عن بعد و أنت تشاهد قرية بوشبعة تكاد تتلاصق مع مدينة علي منجلي. و حسب السيد سليمان رب عائلة ساكن بالقرية فإنه منذ سنة 1965 و سكان هذا الجزء من القرية المتواجد خلف جبل كبير يوحي بأن لا حياة خلفه، تفتقر للإنارة في وقت تؤكد فيه السلطات المحلية و الولائية بأن نسبة التغطية بالإنارة الريفية تكاد تبلغ نسبة ال100 بالمائة و بالرغم من أن العمود الكهربائي ذو التوتر العالي يتواجد قرب هذه البيوت، فسكان الدوار لا يعرفون نور المصابيح التي يشاهدونها إلا في الليل من مسافة بعيدة بعمارات المدينةالجديدة علي منجلي، فالمصباح التقليدي أو ما يعرف بالكانكي لا يزال الشئ الوحيد الذي يبعث الضوء في ظلام حالك، و حتى الكانكي لا يوجد بكل البيوت لأنه يعتبر شيء ثمين بالنظر لوضعية هذه العائلات التي تعيش على دنانير قليلة من عائدات رعي الغنم الخاص ببعض الأشخاص بالمنطقة، أو أجرة شهر من التعب و العناء بإحدى ورشات البناء بعلي منجلي بالنسبة لمن كان له الحظ و ظفر بهذه الوظيفة. عائلات تعيش على ضوء الكانكي وتقتات من أعلاف الحيوانات غياب الإنارة و عدم توصيل ربط بيوت عائلات الصم بالكهرباء طوال هذه المدة، حرمهم من متابعة تطورات الحياة و حرم أبناؤهم من مشاهدة رسوم متحركة في التلفاز، في وقت استغنى فيه كثير من أبناء المدينة عن هذا الجهاز الذي استبدل بالكومبيوتر، فخلال جولتنا ببيوت الدوار لم نجد إلا تلفازا واحد و كان عبارة عن جهاز صغير جدا و بدون ألوان، كان متواجدا بإحدى أركان كوخ و خلفه بطارية سيارات، فسألت عن سبب تواجدها بالقرب منه، فقالوا بأنها من أجل تشغيل الجهاز مرات قليلة في الأسبوع، بالإضافة إلى أن الشاب الوحيد الذي يملك هاتفا نقالا بالقرية يتوجه إلى المدينةالجديدة أو القرى المجاورة من أجل شحنه. مظاهر الحرمان و التخلف بدوار الصم لم تنحصر في غياب الإنارة العمومية، بل امتدت إلى أهم ضروريات الحياة، فالماء منعدم تماما، و السكان لا يزالون يجلبون هذه المادة على ظهور الدواب من إحدى المنابع الطبيعية التي تبعد بمسافة تزيد عن 5 كلم، أو من الخزان المتواجد بالقرب منهم و الذي أكدوا بأن حارسه يرفض منحهم الماء إلا بعد توسل لوقت طويل، علما أن أحيانا كثيرة تضطرهم إلى الشرب من إحدى المستنقعات التي تعيش فيها الضفادع و تعتبر غير صالحة للشرب في ظل انعدام الوسائل لجلب المياه الصالحة للشرب. و في فصل الشتاء، فالحياة بهذه المنطقة طعم آخر، عندما تعزل عن المناطق القريبة منها نوعا ما، بسبب صعوبة التنقل عبر الطريق الترابي الوحيد و في ظل انعدام وسائل النقل، أو عند تساقط الثلوج التي تعزلهم عزلة تامة عن العالم الخارجي، تنفذ المؤونة القليلة المتوفرة بالبيوت، ما يضطر ربات الأسر إلى البحث عن بديل لسد جوعهم، حيث أكدت النساء اللائي تحدثنا إليهن بأنهن يقمن بخبز أعلاف الحيوانات أو ما يعرف بالنخالة لأكله بسبب نفاد مادة السميد، هذا في أحسن الأحوال علما أنهم يبيتون جياعا لليال طويلة عند نفاد كل ما يمكن أكله بالمنطقة. و نحن نقترب من القرية، ضننا لوهلة بأن مرافقنا غير صادق في قوله بأن عائلات كثيرة تعيش داخل هذه البيوت التي تشبه بيوت الحقبة الاستعمارية المهجورة، كانت بهندسة واحدة، و مصنوعة من مادة واحدة، لا شئ يشبه الطوب، أو الآجر، أو الحديد أو ما يستغل في أشغال البناء في مدينتنا، فكل البيوت القصيرة بالقرية بنيت من حجر طبيعي مصقول بوسائل بسيطة، أكد السكان بأنهم يستخرجونه من الأرض لبناء بيوت تقيهم قر الشتاء و حر الصيف بعد أن عجزوا عن جلب مواد البناء المعروفة إلى قريتهم بسبب الفقر من جهة و بعد المسافة من جهة ثانية. بيوت من الحجر تزاحم فيها الثعابين البشر بيوت الحجر و عند دخولنا إليها، كانت كلها مغطاة بأخشاب بالية و بلاستيك مثقوب في جزئه الأكبر، و السواد يغطي أسقفها بسبب دخان الفحم الذي يستغل في الطهي و التدفئة، فحتى السكان كانت وجوههم سوداء بسبب هذا الفحم و ثيابهم متسخة قالوا بأن غياب الماء و الفقر أيضا تسببا في وصولها إلى هذه الدرجة من الاتساخ، أما عن الأفرشة، فلم نشاهد و لا فراشا نظيفا أو لائقا يمكن لبشر النوم فوقه براحة، هذا ما قالته إحدى السيدات التي ردت على سؤال لنا حول كيفية العيش في هكذا ظروف قائلة» لم يعد باليد حيلة، علينا أن نقنع بهذا العيش و نصبر من أجل أبنائنا، فات الأوان للتراجع عن التفكير في الرضا أو رفض العيش في هكذا ظروف». العيش داخل هذه البيوت التي تفتقر للأفرشة، الأغطية، الخزائن، الأسرة و كل شئ يبعث الراحة في نفس الإنسان، ليس بالمشكل الوحيد بالنسبة لسكان يبت أبناؤهم الشباب في الخلاء، فبالإضافة إلى الدجاج و الحمام و الكلاب التي تعيش مع السكان داخل البيوت، باتت الثعابين أيضا تزاحمهم فيها ما خلق نوعا من الرعب في أوساطهم خاصة و أن أفعى قد تسببت أمس الأول في مقتل خروف بعد أن لسعته. قمرة، هنية، أحمد، بسمة و ... دهشنا عندما كنا نترجل من السيارة عندما شاهدنا هؤلاء الأطفال الذين كانوا في أعمار مختلفة يجرون نحونا بملابس بالية و جد متسخة و أغلبهم لا يرتدون الأحذية، كنا نعتقد بأنهم كانوا يلعبون في مكان وسخ، غير أننا تفاجئنا بحالة واحدة للجميع، هم أطفال لا يعرفون إلا رسم ابتسامة بريئة على وجوه لونها الشقاء بالسواد و رسم عليها ملامح البأس و الفقر و الشقاء و كأنهم يعيشون في عالم خارجي غير الذي نعيش فيه، أو أنه سقطوا خطأ من كوكب آخر أو من بلاد أخرى لا يزال الفقر و التخلف هو السمة الغالبة فيها. و أكبر و أخطر ما سمعناه من أولياء هؤلاء الأطفال هو كون أغلب الأبناء لا يملكون شهادات ميلاد لكونهم ولدوا بالبيت في ظروف قاسية منعت أمهاتهم من الوصول إلى المستشفيات المجاورة، في حين لا يعرف المدارس إلا طفل واحد من أصل حوالي 20 طفلا، نبأ نزل علينا كالصاعقة في زمن يلعب فيه أبناء قسنطينة على أجهزة الحاسوب و يتبادلون الأخبار و يلعبون على صفحات الفايسبوك، و يتلقون دروسا عن طريق الانترنت و يدرسون بمدارس خاصة، لا يزال أطفال بوشبعة لا يفرقون بين الألف و الباء و لا يجيدون حمل القلم أو الطبشور، فقمرة ذات ال12 ربيعا قالت بأنها لا تعرف الكتابة عندما طلبت منها أن تكتب حروفا فوق سبورة صغيرة ملتصقة بإحدى جدران بيتها. و هو نفس الوضع بالنسبة لبسمة 14 سنة التي لا تعرف ماذا تعني المدرسة، و كذا هنية 7 سنوات التي لا تجيد إلا القفز و الجري حافية لأنها لا تملك حذاءا كسائر إخوتها و أبناء عمها الذين يعاشرون الغنم و الدجاج في الخلاء عوضا عن الأطفال في مساحات اللعب. ويطالب سكان قرية بوشبعة و دوار الصم على حد سواء بالاستفادة في إطار البناء الريفي، حيث أكدوا بأنهم أودعوا ملفاتهم منذ سنوات طويلة غير أن أسماءهم لم تدرج ضمن الحصة الموزعة في الفترة الأخيرة و المقدرة ب26 استفادة، حيث طالبوا المسؤولين المحليين بأن يعتموا أسلوب الإنصاف في عملية التوزيع خاصة و أنهم من السكان الأصليين للمنطقة. و إن كان سكان بوشبعة يطالبون بالسكن الريفي، فإن أغلب سكان دوار الصم لا يحلمون إلا ببيت لائق و جدران صامدة بأبواب و نوافذ حقيقية، و أن يتمكن أبناؤهم من التعلم و اللعب في أماكن نظيفة. ودعنا بسمة، هنية و قمرة بعد أن أعطتني الأخيرة وعدا بأن تتعلم كتابة الحروف من أخيها الذي يغيب أسابيع و شهورا عن المدرسة بسبب الظروف، و ودعنا سليمان و خليفة و البسمة تملأ ثغريهما فرحا بزيارة اعتبروها الأولى من نوعها قالوا بأنهم يأملون في أن تكون سببا في التفات السلطات الولائية إليهم للعمل من أجل انتشالهم من هذا المستنقع الذي أدخلهم في غيبوبة طويلة. المير : السكان يقطنون الدوار منذ سنة 1965 والمشكل في العقار لم يستغرب رئيس بلدية عين السمارة عندما قلنا بأننا نتصل به من أجل الاستفسار عن سكان دوار الصم، بل بدا سعيد و هو يتحدث عن المنطقة و أراد أن يقدم لنا بعض المعطيات عن هذا الدوار الذي وقفنا على واقعه المؤسف بأنفسنا. فقد أكد المير بأن سكان الدوار أصليون و يعيشون فوق هذه الأرض منذ سنة 1965 كما قالوا لنا، غير أن الإشكال كون هذه الأرض ملك لخواص مما حرمهم من إعانات السكن الريفي في وقت سابق، و قال بأنه و بعد الدراسة الأخيرة و بالنظر إلى ما تعرفه المنطقة من حركية في مجال التنمية، فقد تقرر إزالة قرية بوشبعة كاملة و كذا دوار الصم. و أضاف المسؤول في حديثه معنا بأنه تم توزيع حصة في إطار السكن الريفي على سكان قرية بوشبعة و التي قدرت ب29 استفادة في إطار البناء الريفي و 7 سكن اجتماعي، مؤكدا بأن باقي العائلات سترحل جميعا إلى سكنات لائقة في القريب العاجل خاصة و أنه سيتم توجيه مراسلة إلى الوالي بعد الوصول إلى اتفاق مع مديرية السكن و التجهيزات العمومية حول تاريخ إزالة القرية. إ / ز