يجزم الزائر لبلدية التريعات، التي تبعد عن عاصمة الولاية، عنابة ب45 كيلومترا، أنها خارج دائرة الزمن، سكانها لا يزالون يقطنون أكواخا من القش والقصب والتقصدير، يغمسون الخبز بالماء ولا يعتبرون لدغة الأفعى أو لسعة العقرب حادثا يستحق سيارة إسعاف أو مستشفى.. أغلب أطفال هذا الدوّار يفضلون الرعي على التمدرس، فمأساتهم كبيرة وسط الحڤرة والتهميش، وإهمال المسؤولين. ولعل أول ما يعكس العزلة للزائر أن ذبذبات الهاتف النقّال ل “جازي” و”نجمة” لا أثر لهما، والكل مجبر على اقتناء شريحة موبيليس التي لا تشتغل داخل الغابات والمناطق المجاورة، فالطريق إلى بلدية التريعات التي يقطنها أكثر من 6 آلاف نسمة لا يوحي لك لأول وهلة بأنك بصدد التوغل في عمق تاريخ المنطقة، فكلما تقدمت خطوة إلى الأمام تحس بشيء في نفسك يحرّضك على المزيد من الخطوات لكشف أسرار هذا الدوّار المعزول عن العالم خاصة أن عمر مسيرة التنمية ببلدية التريعات قصيرة جدا، إذ وضع الإرهاب حدا لها بداية من سنة 1995 ليعود بها إلى نقطة الصفر. عرفت البلدية في السنوات الأخيرة مشاكل كبيرة على جميع الأصعدة، بدءا بمشكلة التهيئة التي استنزفت الملايير دون أن تعيد للبلدية نضارتها، فقد استهكلت مشاريع التهيئة والتطهير ما يفوق ثلاثة ملايير طيلة السنتين الماضيتين في الوقت الذي ما تزال فيه أغلب الأحياء منها دوار سليمان بن مرابط وبوشاشية والتريعات مركز تعاني من مشاكل التطهير والإنارة العمومية. ولتعزيز مشاريع التنمية الجوارية خصصت البلدية 6 ملايير لفك العزلة وربط الأحياء بالإنارة العمومية وتطهير الشوارع وتهيئة الأرصفة، لكن تبقى بعض الممرات التي تربط القرى بالمدينة عبارة عن مسالك ترابية. وفي سياق آخر، طرح سكان المنطقة مشكل الغياب شبه الكلي لوسائل النقل، فأغلب سيارات النقل النفعي والحافلات ذات الحجم الصغير غيّرت وجهتها نحو بلدية برحال وقد أثر تذبذب النقل بالتريعات على المتمدرسين والمواطنين الفقراء، وبالتالي فهم يصلون دائما متأخرين ويغادرون منازلهم قبل الوقت المحدد للحاق بوسيلة النقل. عشرات العائلات تقطن “البرّاكة” وقائمة السكن “لغز” تعيش بلدية التريعات منذ أشهر على صفيح ساخن، فمنذ الإفراج عن القائمة السكنية، تضاربت الأرقام بشأنها والتي قيل بأن عددها 80 و90 وأخيرا استقرت عند الرقم 85 سكن، حتى أن بعض الأشخاص المقربين من الجهات المسؤولية يقومون بجمع عدة أرقام ليكشفوا عن الرقم الإجمالي للسكنات، ليظل سكان هذا الدوار يترددون على البلدية بين الحين والآخر على أمل مقابلة المير للإفراج عن القائمة الاسمية الخاصة بالسكنات ذات الطابع الاجتماعي وذلك للتخلص من حياة “البرّاكة” والقصدير ومعاناتهم في الحر والبرد الذي لازمهم لسنوات طويلة هم وأبناءهم. وجدير بالذكر أن سكان البرارك هم الذين هجّرهم الإرهاب من أراضيهم وشتتهم خلال العشرية الحمراء، ليجدوا في المدينة مأوى لهم. وحسب رئيس البلدية، سليمان بن مرابط، فإنه تم خلال سنة 2010 توزيع 85 وحدة سكنية ذات طابع اجتماعي أما حصة السكن الريفي فلا تتعدى 271 وحدة، فيما تبقى سكنات “لاصاص” تقدر ب 102 والتي تعود إلى العهد الاستعماري يقطنها الأهالي الأصليين بالتريعات، فيما تحصي البلدية 60 كوخا قصديري فيما تم إيداع 700 طلب للسكن على مستوى البلدية. قاعة العلاج...نقطة سوداء تتوفر بلدية التريعات على عدة قاعات للعلاج وعيادة متعددة الخدمات، إلا أن الصحة تبقى في مرتبة أدنى من طموحات السكن، خاصة المرضى منهم. خلال زيارتنا لإحدى قاعات العلاج دوّار سليمان بن مرابط، تفاجأنا برائحة الفلفل المشوي التي كانت تنبعث من القاعة!! في أول وهلة خيّل لنا أننا نشق إحدى الزقاق الضيقة التي تربط أكواخ الفقراء، إلا أن اللافتة المعلقة على باب قاعة العلاج كانت دليلنا للدخول والاستفسار عن حالة الصحة بالتريعات، حيث قابلتنا طبيبة تقطن بمدينة عنابة يبدو عليها الإرهاق لأنها تعبت من التنقل يوميا إلى هذا الدوّار الكبير لمعالجة المواطنين، وقد استغلت هذه الطبيبة وممرضة أخرى إحدى الغرف الشاغرة للطهي وتسخين وجبات الغذاء، لأن دوار سليمان بن مرابط “لا يتوفر على أكشاك خاصة بالفاست فود”- تقول محدثتنا - هي مجبورة على طهي طعامها في إحدى الغرف التابعة لقاعة العلاج!! يحدث هذا في وقت يتردد على هذا المجمع الصحي عشرات المرضى، منهم من يعاني من الحساسية المفرطة، فبدل أن يبحث المريض عن الراحة والدواء يجد الطبيبة والممرضة منهمكتين في طهي طعامهما دون أي رقابة أو متابعة من طرف المدير العام للصحة الجوارية بدائرة برحال، والذي أعطى أوامر لطردنا عند زياتنا للمصحة المتعددة الخدمات بالتريعات مركز، فغادرنا المكان ونحن نتساءل عن مصير هؤلاء المرضى الذين يعانون الأمرّين، خاصة أن هناك من النساء من يضعن مواليدهن بطرق تقليدية بدل التنقل على بعد مسافة 45 كلم إلى عاصمة الولاية من أجل الرعاية الطبية. 70 %من الشباب بطالون في غياب إحصائيات رسمية، قدّر أحد أعوان رئيس المجلس الشعبي البلدية عدد سكان بلدية تريعات ب 6297 نسمة يمثل الشباب منهم حوالي 70 بالمئة. وما توصلنا إليه بعد هذا التحقيق أن كل هؤلاء يعانون من البطالة، حيث لم يصادفنا ولا شاب واحد يملك منصب عمل قار ودائم والأشخاص الوحيدون الذين يملكون هذه المناصب هم أرباب العائلات وأغلبهم من خارج البلدية على غرار المعلمين، الأطباء والممرضين، فأغلب العائلات بالتريعات تعيش على منحة البطالة. وقد تم توزيع نحو 202 منصب عمل في إطار الشبكة الاجتماعية وعقود ما قبل التشغيل، فالفقر أثر على أغلب عائلات القرى والمداشر بدءا بصحتهم ووصولا إلى المستوى الثقافي، فإذا كان الكهول والشيوخ أغلبهم أميين، فإن مصير أطفالهم لم يختلف كثيرا عنهم فالأغلبية لهم المستوى الإبتدائي والمحظوظ منهم يبلغ المستوى المتوسط والأكثر حظا يدخل الثانوية. مأساة أطفال بوشاشية وصمة عارفي جبين الحكومة في ذلك الثلث الخالي، فقد الأطفال براءتهم وهم مجبرون على أن يكونوا رجالا فوق العادة، لا يحق لهم العيش بسلام مثل أقرانهم في بلديات أخرى، خاصة أنهم يقطنون داخل بيوت هشة في قرية مترامة الأطراف جعلها الدمويون منطقة عبور واستغلوا عزلتها لصالحهم وأذاقوا سكانها الترويع. فالصورة التي تقابلك خلال زيارة دورا بوشاشية، الذي يبعد عن مقر البلدية ب 15 كلم، تحت الشمس الحارقة هي صورة لمدرسة ابتدائية تحوّلت مع مرور الزمن إلى خربة آيلة للسقوط، جدرانها مشققة وأسقفها بالية، داخلها تلاميذ ينحذرون من القرى الفقيرة يكتمون غيضهم على الحكومة لأن أقسامهم تفتقر لأدنى شروط العلم والتعلم. بعيون حزينة وقلوب منكسرة، استقبلنا هؤلاء التلاميذ وهم على دراية تامة بأننا سننقل انشغالاتهم إلى بن بوزيد لإخراجهم من الجحيم، خاصة أن رئيس البلدية لم تطأ قدماه هذه الابتدائية رغم أنه تم انتخابه منذ 20 سنة على رأس بلديتهم. خلال حديثنا مع مدير المدرسة والذي تحدث إلينا بنبرات حزينة، مؤكدا أن ابتدائية بوشاشية خارج نطاق التغطية لم يزرها مسوؤلا فقط حتى رئيس البلدية، ليضيف محدثنا أن التدفئة غائبة رغم توفر المجمع المدرسي على تجهيزات خاصة بالتدفئة، إلا أن انعدام المازورت حرم 17 تلميذا من نعمة الدفء وسط حجرات باردة. ويضاف إلى هذا أن السيد ليتيم ينقل يوميا مقتنيات المطبخ من خبز وخضروات إلى الماء الذي يجلبه من باعة الصهاريج. آخر نكتة حدثت هذه المدرسة يقول المدير هو البحث على قارورة غاز من عند أهالي تلاميذ المدرسة لتحضير وجبات الإطعام والتي تفتقد لأغلب الحريرات، خاصة أن سعر الوجبة الواحدة لا يتعدى 320 دج، مأساة تترجمها هذه المشاهد وتغتال البراءة بصورة واضحة فالكل مسؤول، حتى وإن كانت المسؤولية شخصية. نحن نتساءل أين الحل الذي من شأنه أن يستوعب مطالب تلاميذ بوشاشية حتى وإن كانت مشروعة وبسيطة، فإن الحكومة وبن بوزيد والمير بأكملهم مسؤولين عن هذه الوضعية الكارثية، فلو تطّلع اليونيسف على أطفال بوشاشية ستوبخ الجزائر. فلاحة... في نقطة الصفر تشكّل الأراضي الفلاحية 34 بالمئة من مساحة بلدية التريعات والمساحة المتبقية في أغلبها ذات طابع جبلي بنسبة 65٪. لهذا، يبقى النشاط الزراعي في مرتبة أدنى من طموحات السكان وسخاء أراضيهم الخاصة. ويعود المشكل حسب المسؤولين ببلدية التريعات إلى أن أغلب المزارع كانت مسيرة ذاتيا خلال السنوات الماضية ثم تحوّلت إلى مستثمرات فلاحية، حيث تحصي المنطقة نحو 30 مستثمرة جماعية وأربعة فردية. وحسب السيد حملاوي، رئيس مصحلة الشؤون الاجتماعية، فإن المنطقة تتميز بالحمضيات والزراعة الموسمية على غرار الطماطم والبطيخ والدلاع ومنتوجات فلاحية أخرى، ليضيف محدثنا أنه خلال العشرية السوداء تم تجهيز الفلاحين من أراضيهم والتي تحولت إلى مساحات رعوية. ويرتبط فشل قطاع الفلاحة بالتريعات - حسب ذات المسؤولية - بنقص الدعم المالي وعدم صلاحية العقد الإداري وشيخوخة اليد العاملة. وعليه، فإن الفلاحة أصبحت تعتمد على وسائل بدائية وحتى برامج التدعيم الفلاحي انتهت بتجميد عشرات الهكتارات، لتفقد بذلك التريعات سمعتها الفلاحية إلى درجة أصبحت تسجل عجزا كبيرا في الإنتاج الفلاحي. وبما أن سكان التريعات لا يحسنون غير خدمة الأرض، فإن يومياتهم تحولت إلى مسلسل من الانتظار لأن مياه السقي أصبحت مشكلا آخر يطرحه الفلاح كل مرة. ثروات طبيعية بحاجة إلى الاستغلال أكد لنا رئيس المجلس الشعبي البلدي بن سليمان مرابط أن منطقة تريعات تتوفر على ثروات طبيعية هامة لو استغلت لتخلصت البلدية من مظاهر الفقر والحرمان، أهمها مادة التوفنة التي توجد بكميات هائلة مما يسمح بإنشاء أكثر من مصنعين لصناعة الأجر إلى جانب استحداث منطقة النشاط التجاري والتي تستحوذ على 7 هكتارات. وقد اقترح المير إنجاز مدجنة ونشاطات أخرى، بمنطقة مرابط بن سليمان التجارية كما يعتبر المسؤولين بالبلدية أن أهم مشروع بإمكانه إخراج المنطقة من عزلتها هو تفعيل النشاط الإقتصادي خاصة أن التريعات تتوفر على مصنع للأجور ينتج 140 ألف طن سنويا ويغطي احتياجات الولاية المجاورة، سكيكدة والطارف وعنابة ويشغل 110 منصب عمل دائم بالإضافة إلى مدجنة جوارية وهو انتظار تحريك دواليب التنمية المحلية لهذا الدوّار يطمح المير إلى إنجاز مدجنة أخرى تستغل 30 هكتارا وستوفر 300 منصب عمل للبطالين. لِمَ إخفاء المعلومات؟ للتريعات مير يصرّ على أن التنمية تسير بشكل جيد وأنه يرفض الكتابات الصحفية التي تسوّد المشهد وتجعله قاتما. فكان لزاما علينا الانتقال إلى مقر البلدية بعد رحلة البحث عن مجهول الأرقام، أن نسلك طريقا كان محفوفا بالمخاطر رغم تعزيزات الأمن المكثفة والتي كانت تتواجد على طول الطريق. التقينا رئيس البلدية وطرحنا عليه جملة من الانشغالات التي يعاني منها السكان على رأسها مأساة أطفال بوشاشية، إلا أن محدثنا تحفّظ للرد عن أسئلتنا، وقد استغربنا سر إخفاء بعض الحقائق واكتفى بالقول “علينا أن نغلق ابتدائية بوشاشية لأنها غير صالحة للاستعمال”؟! ليضيف أن البلدية تعاني من عجز مالي مزمن في غياب مصادر الدخل.. والغريب في الأمر أن المير لم يفدنا بأي رقم أو إحصاء يخص نشاطات المنطقة، فلولا مرافقنا وهو أحد المسؤولين بالبلدية لما استطعنا إنجاز هذا الروبورتاج. فيبقى السؤال المطروح لِمَ إخفاء المعلومات ومئات العائلات تئن تحت وطأة الفقر والبؤس والحرمان؟! الإرهاب يدفع ثمنه الجميع لقد أدى النشاط الإرهابي الذي مس البلدية طيلة السنوات الماضية إلى التأثير على كل المجالات الحيوية بالبلدية، فقد دفع ذلك بالمصالح البلدية إلى التخلي عن العديد من المرافق تحت ضغط هذه الآفة، حيث تم غلق بعض المدارس وتحويلها إلى مفرزة للحرس البلدي، فيما أغلقت العديد من الوحدات الصحية مع هجرة السكان. وبمجرد عودة الأمن وجدت البلدية نفسها أمام تحدٍ صعب تمثل في إعادة الحياة لجميع هذه المرافق، فقامت بإعادة تهيئة مشتة بوشاشية بإعادة فتح ابتدائيها بالإضافة إلى ربط المنطقة بالطرقات وبناء قاعة علاج لاتزال مغلقة بالإضافة إلى بناء خزان مائي سعته تقدر ب 100م3 وذلك لتزويد السكان عند عودتهم إلى قريتهم.