فقد الأدب العالمي، أمس، أيقونة من أيقوناته، برحيل الكاتب التشيكي- الفرنسي ميلان كونديرا الذي انطفأ في باريس عن 94 عاما. ويعد كونديرا من آخر الكتاب المعاصرين الكبار الذين عرفوا المجد والانتشار في مختلف اللّغات، حيث تحولت رواياته، إلى كلاسيكيات، كما تعدّ حياته ملحمة في حدّ ذاتها لا سيما في علاقته المتأزمة ببلده الأم التي بلغت حدّ تجريده من الجنسيّة سنة 1979 بعد أربع سنوات من "انشقاقه" وانتقاله للعيش في باريس قبل أن يُعاد له الاعتبار سنة 2019. وتعد رواية "المزحة" الصادرة عام 1967 والتي تم حظرها في تشيكوسلوفاكيا وقتها، بمثابة إعلان قطيعة مع النظام الشيوعي في بلده، بعدما انتسب إليه وناضل في صفوفه. وتصوّر الرواية كيف انقلبت حياة شخص رأسا على عقب، بل كيف نزل إلى الجحيم، بمجرد أن كتب مُزحة في بطاقة أرسلها إلى صديقته، ولا تكتفي الرواية بالسخرية من وضع سياسي انتهت إليه الأفكار والمبادئ الكبيرة، بل تحفل بتأملات في الحياة نفسها وكيف يتحوّل أقرب شخص إلى مصدر الخطر الأول، وبعلاقة المواطن بآلة الحزب الذي يشارك مواطنيه حميمياتهم. و تستمر المزحة في أجواء "غراميات مرحة" و"الضحك والنسيان"، بل أن الجانب السياسي أصبح يُستدعى كلّما جرى حديث عن كونديرا، الذي منحه فرونسوا ميتيران الجنسية الفرنسية سنة 1981، وتحوّل فيما بعد إلى الكتابة بالفرنسية التي أتقنها ودرّس بها، حتى بات يُصنّف بين الكتاب الفرنسيين الكلاسيكيين، إلى درجة أن سلسلة "لا بلياد" الشهيرة نشرت أعماله الكاملة في حظوة لم تكن تمنحها للكتّاب على قيد الحياة. وعادت رواية "كائن لا تُحتمل خفّته" على كونديرا بشهرة واسعة، لكن رواياته الأخيرة لم تجد الاهتمام الكبير في فرنسا، التي يبدو أنها باتت تبحث عن "مُنشقين" من فضاءات أخرى، وهكذا لم يتحمّس الوسط الأدبي لروايات "البطء" أو " الجهل" أو"حفلة التفاهة". وعرف كونديرا بتمجيده للعزلة، حيث يرفض إجراء حوارات صحافية منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، ويحيل سائليه على كتبه النقدية وعلى رأسها "فن الرواية" الذي قال فيه كل ما يمكن قوله عن هذا "الفن الشامل"، كما يرفض اللقاءات الأدبية وحفلات توقيع الكتب، محيلا على مقولة لموباسان فحواها أن حياة الكاتب الخاصة ووجهه ليسا ملكا للجمهور. كما تعرضت علاقة الكاتب مع بلده الأصلي جمهورية التشيك في السنوات الماضية إلى هزات جديدة، بداية باتهامه بالوشاية بطالب إلى المخابرات في فترة شبابه، وانتهاء بتشكيك الصحافة التشيكية في وفائه لبلده، بسبب رفضه لترجمة أعماله من الفرنسية إلى التشيكية. ويعد كونديرا من الكتّاب الكبار الذين أخطأتهم جائزة نوبل التي ظل لوائح التكهنات بالفوز بها لعقود طويلة، أي منذ أن منحت لمنشقين عن المعسكر الشرقي في زمن الحرب الباردة، في صورة باسترناك. لكنه نال تقدير القراء في مختلف اللغات التي تُرجم إليها.