الحمى التي شلت جسدها وهي طفلة أيقظت فيها حلم بلوغ قبة البرلمان لم تكن تلك الحمى التي اغتصبت جسدها و هي في ربيعها الثاني تدري أنها بقدر ما كانت أشد ألما في وصفها من حمى المتنبي و قاسية على حق الطموح لجسد فتي في النمو و اكتساب مفاتن الأنوثة قد كانت بذات القدر رحيمة بها في ايقاظ روح التحدي و اشعال شموع الأمل و انارة دروب النجاح مؤججة بذلك مشاعر الثقة بالنفس في قلب ينبض بالحياة و عقل واجه المتاعب ببصيرة و شق المصاعب و كسر حواجز الإعاقة ليعتلي الجميع و ينافس أصحاء البدن مناديا بأعلى صوت ها أنا هنا . هي قصة استوقفتني و جعلتني شغوفا بمعرفة تفاصيلها فارتويت بعبرها من خليصة بعابشة المرأة الفولاذية التي تعرضت للإعاقة و هي في المهد بعد اصابتها بحمى شديدة أدت الى شلل كلي بجسدها جعل من عائلتها التي كانت تقطن بقرية افيغو النائية في بلدية ثنية النصر شمال ولاية برج بوعريريج تعد الأيام و تسابق الزمن لإرجاع الحركة الى اعضائها في رحلة علاج استمرت لسنوات قادتها لعديد المستشفيات الى أن استقرت بمستشفى الدويرة بالعاصمة أين مكثت لمدة 04 سنوات مستعيدة عافيتها بعدما كانت لا تقوى على تحريك سوى عينيها . لكن انعكاسات المرض تسببت في تثبيط هرمونات النمو و لم تثبط عزيمتها في تحدي قصر القامة و كسر حواجز الاعاقة فكان من أبرز تحدياتها بداية التعليم بالمدرسة الملحقة بمستشفى الدويرة الى أن عادت الى القرية التي ولدت بها في السنة الرابعة من التعليم الابتدائي أين كانت تحمل على ظهر أختها للوصول الى المدرسة في كل صباح و تمكنت من افتكاك شهادة التعليم الابتدائي لتواصل تعليمها متنقلة بين متوسطة أوشيش في ولاية البرج و متوسطة بالمرادية بالعاصمة لدى أخوالها لاستكمال مرحلة العلاج موازاة مع مزاولة الدراسة و بهذه الأخيرة تحصلت على شهادة التعليم المتوسط . واستمرت العزيمة إلى أن اجتازت مرحلة التعليم الثانوي و الالتحاق بالمعهد الوطني للمحاسبة أين تحصلت على شهادة مسير محاسبة ، لتواجه مرة أخرى صعوبات في ولوج عالم الشغل أمام النظرة القاسية من طرف الإدارة للمعاق و عدم التعويل عليه في شغل منصب حساس يتعلق بالمحاسبة . هذه العوائق أشعلت روح التحدي و المواجهة في نفسية خليصة التي أصبحت تواجه مدراء المؤسسات و تتحداهم على تجريب قدراتها و لو ليوم واحد مع اهمال الشكليات و المظاهر كونها خداعة و التعامل مع العقل باعتباره تاج الإنسان وعامل التميز عن باقي المخلوقات ، كان وقع هذه الكلمات مؤثرا على مدير الصندوق الوطني للتأمينات الاجتماعية بالبرج فمنحها فرصة سنة 1995 الى أن نصبت كمحاسب بالمعهد الوطني المتخصص في التكوين المهني بالبرج و بعدها الاعتماد في منصب وكيل محاسب من طرف الخزينة في جوان 2002 بنفس المعهد الى جانب عضويتها في عديد الجمعيات الوطنية التي تعنى بهموم فئة المعاقين و الاتحاد العام للعمال الجزائريين و النضال السياسي . حكايتي مع خليصة انطلقت من رؤيتي لصورها كمترشحة للتشريعيات القادمة في مرتبة متقدمة لإحدى القوائم الحزبية ، شعرت بتميزها من وقفتها و رأسها المرفوع رغم الإعاقة و قصر القامة ، فقادني الفضول إلى معرفة دوافع ترشحها لكنني اكتشفت قصة اجتماعية أفضل من الحديث عن الإنتخابات ، و جدتها مشغولة فضبطنا موعدا في اليوم الموالي لأجد نفسي محاطا بين عائلتها المرحة التي تصر على مساندتها و دعمها في جميع مشاريعها ، فكانت البداية لفتح صفحات من ألم طفولتها و أمال و ابتسامات النجاح في الكبر و زاد شقيقها ياسين و والدتها من حميمية اللقاء أثناء الحديث عن شغفها و تحديها لشراء و قيادة السيارة الذي كان بمثابة الشيء المستحيل تحقيقه في نظر أهلها و اخوتها الى جانب شغفها بالمستديرة و فريق البارصا و المنتخب الوطني . الحاجة رقية كنت أخشى على مستقبلها لكنني اليوم أشعر بالشفقة على اخوتها أكثر منها عادت بنا الحاجة رقية و هي والدة خليصة إلى أيام مرضها و قالت أنها كانت تبكي ليل نهار على فلذة كبدها بعدما تسببت الحمى في شل جميع أعضاء جسمها ، حيث بقيت تقوى على تحريك عينيها فقط ، ما دفعها الى تدبر أمرها في كيفية نقلها إلى الطبيب في سنوات السبعينات ، أين كانت الولاية تفتقر الى العدد الكافي من الأطباء ، فضلا عن صعوبة توفير وسائل النقل بقرية افيغو التي كانت تعاني في ذلك الوقت من العزلة لعدم وجود الطريق و ندرة السيارات بالمنطقة ، و رغم ذلك تم الاستنجاد بمعارفهم لنقلها الى طبيب عام قالت أنه لم يقدر على فعل أي شيء لإنقاذها ، ما اجبرهم الى التنقل الى طبيب سوري منحها حقن مكنتها من التعافي بعض الشيء ، لكن ذلك لم يكفي بإقناع الأم على وضع فلذة كبدها خوفا على مستقبلها فقامت بشراء كرسي متحرك لها رغم وضعهم المادي المتوسط إلا أن استنجدت بإخوتها في الجزائر العاصمة أين قاموا بالتكفل بها على أتم وجه من خلال نقلها الى مستشفى الدويرة حيث خضعت للعلاج على يد أطباء ألمان متمرسين و مكثت بالمستشفى لمدة أربعة سنوات لإعادة التأهيل و تقوية عضلاتها على الحركة ، و عند عودتها من العلاج قالت الوالدة أنها استعادة الأمل فيها و تنبأت بنجاحها بعد تفوقها في الدراسة ، ليصل الأمر في الوقت الحالي الى التفكير في اخوتها الثمانية بدل التفكير فيها كونها أصبحت تتدبر أمورها لوحدها و تعول عليها أكثر من أخوها ياسين ... تضحك . الثقة بالنفس و الارادة الفولاذية هو سر نجاح خليصة هكذا أرادت أن تجيب على سؤالنا بكل بساطة " لا يمكن للإنسان أن يمشي بدون ثقة و أن لا ينكسر في أول تجربة بل الاصرار على النجاح هو أسمى صور النجاح " و أضافت أنها استفادت من محيطها فامتلاك والدين واعيين و ليس بالضرورة أن يكونا متعلمين كفيلان بالتربية الصالحة للأبناء ، فمثلا وجدت خليصة الدعم الكافي و التفهم من والديها الى جانب الادارة الفولاذية لأمها التي أمنت بقدراتها و تنبأت لها بالنجاح ، و رغم ما عانته من متاعب و مصاعب في مواجهة الاعاقة و ظروف الحياة الصعبة اثناء مرحلة العلاج و نظرة المجتمع السلبية غير أنها أكدت على عدم شعورها يوما بعامل النقص خصوصا و أنها محبوبة بين عائلتها و أصدقائها في العمل ، لكنها تدراكت في حديثها بأنها أحست ببعض النقص قبل البلوغ عند مواجهة الصعوبات لكن سرعان ما أدركت أن الأصحاء يعانون من مشاكل و اقتنعت بحياتها خصوصا و أن الاعاقة عوضها الله عنها في جهات أخرى ، و اليوم أضحت تستلذ قيمة النجاح و عرفت قيمة الجدية " اليوم انا اجني ثمار تعبي " أختي كانت تحملني على ظهرها إلى المدرسة و الأب يعتبرني قدوة حياة خليصة لم تكن سهلة كما يتوقعها البعض بل كانت تعاني من القصور في القامة و الصحة في فترة تعلمها بالمدرسة الابتدائية أين كانت أختها تتولى رعايته و تحملها على ظهرها إلى مدرسة الأمير عبد القادر بدوار أولاد سيدي المسعود بعيدا عن منزلهم بحوالي واحد كيلومتر في كل صباح و تعود بها الى المنزل في المساء ، و رغم ذلك بقيت مصرة على اكمال دراستها الى أن تحصلت على شهادة مسير محاسبة بالمعهد الوطني للمحاسبة ، و بلغ الأمر إلى حد تفوقها على إخوتها في ميدان العمل ، الى درجة أن والدها الذي كان يتخوف على مستقبلها أصبح لا يعير أهمية لمشاكل المنزل و يعتمد عليها في كل الأمور بما فيها تدبر اتمام أشغال بناء المنزل في وقت يهتم شقيقها بالتجارة ، كما أصبحت المرجع لإصلاح ذات البين بين اخوتها و أفراد عائلتها . قيادتي للسيارة تحد و حلم تحقق و عائلتي لم تصدق حصولي على رخصة السياقة و لعل من أبرز صور التحدي لديها هو اصرارها على تعلم السياقة و شراء سيارة للتخلص من تبعية التنقل الى جانب أخيها ياسين الذي لم يبخل عليها بأي شيء ، غير أنها أرادت أن تتحرر من قيود الاعاقة و تعود الى التحدي بالحصول على رخصة السياقة ، يتدخل ياسين " لما طرحت هذه النقطة بيننا قلت في نفسي من المستحيل أن تتعلم السياقة و تشاورت مع والدي لكننا لم نشأ خدش مشاعرها و وافقنا على الطلب من باب تركها تجرب حتى تيأس " لكنها فاجأت الجميع بحصولها على رخصة السياقة و تدبرت أمرها لوحدها لشراء السيارة و اتصلت بشركة خاصة بالعاصمة لتركيب المعدات الخاصة بالمعاقين ، و أضاف ياسين أنه توجها بها إلى منطقة معزولة لتعليمها كيفية تشغيل المحرك و تحريكها لتفاجئه مرة أخرى بعودتها إلى المنزل و هي تقود السيارة ، و أضاف أنه تخلى عن انشغالات المنزل و اصبح يتفرغ لعمله في وقت تتكفل فيه بزيارة الأهل مع الوالدين و قضاء حوائج المنزل لوحدها . و عن قيادتها قالت أنها كانت تواجه صعوبات في الأيام الأولى امام اعتبار الأهل طموحها بالحلم الذي يستحيل تحقيقه و ذهول المارة و أصحاب المركبات الأخرى كونها قصيرة القامة ، لكن سكان الولاية تعودوا عليها و أصبحت تلقى الاحترام من الجميع إلا من طرف بعض الأشخاص الذين ينظرون اليها بعامل النقص حيث قالت في هذا الصدد أنها تشعر بالشفقة عليهم كونهم يعانون من اعاقة في التفكير في وقت تجاوزت هي اعاقة الجسد و لم تعد تشعر بأي عامل نقص . تعشق المستديرة و تتمنى أن يعود رابح ماجر إلى قيادة الخضر تميز هذه المرأة لم يتوقف عند العمل و التحدي بل تعداه الى أمور أخرى حيث أبدت شغفها بكرة القدم إلى حد المراهنة على نتائج المباريات مع شقيقها و الصراع الدائم بينهما كونها من عشاق البرصا و ميسي ، و أضافت أنها تتابع مشوار المنتخب الوطني و تعرف كل كبيرة و صغير مشيرة الى تأثرها بإصابة مراد مغني الذي كانت تعول عليه في كأس العالم و كذا إعجابها بزياني لما يكون في أوج عطائه ، و قالت مداعبة أمها أنها تتنبأ بالحركات الخطيرة التي تجيء بالأهداف بعدما يقوم زياني بإخراج صدره إلى الأمام و لي ذراعه إلى الوراء قبل قذف الكرة و تمنت أن يعود رابح ماجر الى قيادة الخضر خصوصا و أنها قد تابعب مشوار هذا اللاعب و الفريق الوطني في سنوات الثمانينات . و بينما كنا نتجاذب أطراف الحديث حلت صديقتها سهام و أرادت هي الأخرى أن تعترف بدهشتها لشجاعة هذه المرأة و تحديها في تجاوز الصعاب ، و أضافت أنها كانت مقتنعة ببقائها في المنزل لتربية أبنائها رغم مستواها التعليمي و تفوقها لكنها منذ أن عرفتها أصبحت تطمح في إثبات وجودها كامرأة في المجتمع من خلال الانضمام الى الجمعيات من منطلق إدراكها أن الاعاقة ليست بالجسد بل في التفكير و في ضمور الإرادة . ترشحت للدفاع عن فئة المعاقين و زيادة عن مسارها المهني تحوز خليصة على مسار سياسي و نضالي بدأته في حزب جبهة التحرير الوطني و ترشحت للتشريعيات المقبلة في المرتبة الثانية لقائمة حزب " الجبهة الوطنية للعدالة الاجتماعية " ، و أوضحت أن ترشحها جاء كتحد جديد للدفاع عن فئة المعوقين و حقوقهم ، مبدية امتعاضها من عدم تخصيص ممر على الأقل لهذه الفئة بالأرصفة في معظم ولايات القطر الوطني ، بالإضافة الى معاناتهم في الدخول إلى الادارات و صعود السلالم لعدم وجود أماكن مخصصة لهم و علو الشبابيك في مراكز البريد و المرافق الأخرى مثل مقرات الحالة المدنية بالبلديات إلى جانب مشاكل أخرى لا حصر لها تتخبط فيها هذه الفئة من المجتمع .