وجه الحقيقة الأكثر وضوحا هي الرواية الأولى للكاتب الجزائري عبد القادر شرابة وقد صدرت في سبتمبر الفارط من 2012 عن دار الألمعية،رواية تؤكد أنه لابد لنا من القوة والجرأة لنواجه عالم الأدب الملغم بالحساسيات والموانع، ومجتمعا - كمجتمعنا- متكتما على أكثر من جرح بموضوع الخيانة الثورية عبر حلبة اليومي وتحليله من جذوره التي قد يغفل عنها البعض فيعمى أن يرى كل الحقيقة. فاطمة بريهوم بنصف الحقيقة الشائك الذي لم تشف منه بعد الذاكرة الجزائرية، وهو الخيانة إبان ثورة نوفمبر، يبدأ عبد القادر روايته بتوطئة شفافة الكلمات مجروحة القلب :"منذ القديم ونصف الكوب يغويني كيف أملؤه؟وبم يفيض علي إن شدني إليه واندلق؟". فيذكرنا بتلك المواثيق القديمة المغلقة الطلاسم في الكهوف والصناديق بلغة تنجح في ربطنا إلى ما سيأتي لا تتكلف المعاني الغامضة ولا التصوير الغريب وهو يكاد يكون واثقا في أنه نجح في إتراعنا من سحر كأسه لمتابعته :"أيها المجذوبون نحوي.. من الآن وصاعدا صار لكم عندي عهد أن تشربوا من نبع مزيج اللعنة والمتعة وأن تسرجوا خيول الهامش البعيد عن اللحمة..."ص8 تنفتح أزرار تفاصيل الرواية في زمن حرج ودقيق يؤطر الفترة الزمنية التي تدور حول فلكها الأحداث وهي سنة 1992 في الكثيب الغربي حيث ترك الاستعمار أبشع آثاره معتقلا سيرتبط بما تلا توقف المسار الانتخابي لسنة 1991 إنه معتقل "رقان" حيث تطهر عبدالرحمن من حقده وهو يعترف:"وهل كنت رحما وكنت جنينا فيك؟وبأي صورة ستلدني الآن؟..منبوذا كما كنت أم محبوبا كما لا أعتقد؟؟ "ص10 لنجد أن هذه المخاطبة العميقة والتعرية لماضيه هي رسالة لصديقه ومعلمه سمير الذي يكون الشخصية الأكثر محورية في الرواية حيث يحلو للكاتب أن يتماهى في تفاصيله، رسالة معجونة بشعور الذل من ماض لم يكن يوما مسؤولا عنه وهو خيانة والده المدعاة من صديقه الذي باعه حتى يحصل على حبيبته ثم يعرج الكاتب عبر هذا إلى وضع المرأة البائس وهي التي لا تملك أن تحدد مصيرها وهو يؤول إلى ابنها بعد أن استراحت إلى الجنون فقد اختارها من يهوى ، وتبعت من يسيطر، وأظهرت الولاء للقبيلة والعائلة التي تزوجها لأخ زوجها فاقد الرجولة دون أن يستشيرها أحد ؛ لينفتح مع هذا الزواج موضوعا شائكا وهو محاولة فرنسا اختراق الثورة عبر ضباط موالين لها :"بن لونيس هذا في الحقيقة هو عقيد في الجيش الفرنسي دعمته فرنسا بالخيول والسلاح والمال لتجعل الجزائريين يتناحرون فيما بينهم..."ص14 إلى جانب المذلة التي عوملت بها الأسرة وتمزق الهوية يضاف الفقر والحاجة التي فرضها تأميم الأراضي (أنظرص35) لتزهر المأساة انتقاما ضد هذه الأرض بمن فيها. فمن عمق الجزائر يخوض الكاتب في أسباب الاحتقان النفسي ،والاجتماعي، والسياسي وهذا ما يؤكده وهو يرفض من الانخراط في الحزب لأسباب غير موضوعية :"يا سي عبد الرحمن أعرف قدرك وشد حدك...أنت بن حركي وإلا نسيت؟"ص45 ويتطور الورم ويستفحل فيلتهم ما بقي صالحا للحياة، هذا هي الصورة الحقيقية للعنف يقول شرابة الذي لم يهرب من التهديد بل عاشه وعايشه حتى عرى لنا تفسخ المجتمع وخسرانه لقيمه من خلال عينه المكانية العميقة في بوسعادة التي ماتزال رغم ما طالها على مرور الزمن تنظر حتى تأتيها الدنيا، كذلك الفيلسوف الذي يرفض السفر معتقدا بأن العالم يدور وسيعود إليه حتما إنها تحتفظ ببنية الحياة في هذه الأرض تماما كما حللها الشيخ في ص67 و68.المكان يزيح ستاره الصديق الذي يكشف من خلال مرافقته لصحافية لوموند ما آلت إليه مدننا المؤثثة بالجمال والفن من عنف لفظي وكتابي وفعلي كأنه يصف خيال مدينة عبر ما حل بها من عنف هدد الحياة فيها.. هذه المدينة بالذات التي يوائمها الفصل الذي أفرد له الكاتب شبه عنوان "على آثار دينيه"أين يعرف سميدار بما بقي منها ومن مرور ديني عليها!فأي عش نحل آخر فتحه شرابة وهو يكشف لنا الأصل اليهودي لهذه الصحافية المتفتحة على الحياة بعيدا عن انغلاق الهوية عندنا فهي تؤكد أن "لا وطن في الحقيقة إلا ما نسكنه أخيرا حفرة أفرشتها وأغطيتها التراب وتقول ارتباطها بالجزائر أكثر من ارتباطها بأرض الميعاد:"...اليهودي الذي عاد مع أجدادك...هو جدي الأكبر وقد كان فيلسوفا وطبيبا مشهورا..."لنستعيد مع هذه الحقيقة ذاكرة حسن الوزان في ليون الإفريقي لأمين معلوف. عندما ننهي "نصف وجهي المحروق "تكتمل الحقيقة أمامنا وقد تورط سمير في قضية أمن الدولة فالعنف يطال كل ضحايا التهميش، وانعدام العدالة ،وتكافؤ الفرص سواء رفضوا ما لحقهم من ظلم أو ابتعداو. فبعد أن فقد أخته ضحية اعتداء جماعة مسلحة كان عبد الرحمن أحد أفرادها، ولكي يكفر عما ألحقه به من ضرر يترك له في بيته القديم رسالة ومالا لما يصل إليه تحاصره قوات الأمن .. لا غرابة أن نقرأ الحقيقة بهذه اللغة البسيطة الساحرة التي تمردت عليه وهو يميل للحكاية أحيانا ولإنطاق الشخصيات أخرى حتى يبعدها عن النمطي من الأساليب،كما في اللغة الحوارية البسيطة فقد كانت كلها جمل سؤال وجواب يفقد فيها المتحدثون العمق الذي ابتدأ به ويحرر السرد من "كان" التي تكرر استعمالها كثيرا. فيواصل التوثيق لذاكرة شعب عانى طويلا من محو ثقافته وتناسيها فيحفظ تلك الأساطير التي فعلا أعطت للرواية أفقا من التلوين للحكي و سحره. "فتذهب أرواحنا مطواعة حيث تريد لها،وحين تنهي حكايتها وتنصرف عنك ،تجدين نفسك وحيدة تتخبطين في شرنقة الحكاية، عاجزة عن التحرر منها" ص99.