تأريخ الفجيعة.. تدوين الفقدان قبل عشريتين بدأت ملامح أدب جديد تتبلور في الجزائر أدب رافق التغيرات التي حدثت بعد أكتوبر88.و لا أريد هنا الرجوع إلى حيثيات هذا الحدث إنما لأجعله صدمة رمت بالأدب من إلتزامه بقضايا الفكر الواحد إلى دواليب الواقع المؤلم والمتعدد. فاطمة بريهوم ولأن رفض أباطرةالمرحلة من الأدباء الذين يؤمنون بوجه واحد للجزائر هذه الصدمة مدعين أن أدب هذه المرحلة هو "أدب استعجالي"مقارنة مع أدبهم الذي عدوه أدب المواقف و القضايا و الإلتزامات الكبيرة فإن النقد المنحاز للموضوعية يراه في أغلبه مجرد شريط تسجيل لمراحل سياسية بعينها لا تختلف عن التقارير التي يكتبها الإداريون أو بعض الصحافيين. ويرى أدب بعد88 أدب روح جديدة تنبعث في عروق الأدب الجزائري، و تحمل خصائصه و رؤاه، أدب يعجز النقاد الأكادميون عن الإحاطة به خارج المقرارات التي تو جه البحث إلى أسماء مكرسه-إلا فيما ندر- و إلا كيف نفسر ما تلقاه هذه الكتب التي طبعت سواء على عاتق أصحابها أو ضمن فعاليات متعددة؟أسماء تؤثث المشهد الأدبي سواء باستمراريتها أو بتميز صوتها لكنها في غياب الإحتفاء والبحث والتمحيص ولم لا التثمين أحيانا. من كتاب هذه المرحلة الكاتب مراد بوكرزازة الذي عرفه القارىء في"الربيع يخجل من العصافير"وهي مجموعة قصصية"ثم في روايتي "شرفات الكلام" ورواية"ليل الغريب" التي صدرت في طبعة صغيرة في 206صفحةعن مطبوعات البيت. وهي رواية تؤرخ لمرحلة جد حساسه من تاريخنا المعاصر: مرحلة التسعينات بقساوتها و دمويتها ،و أثرها على الضمير و الحاسسية الجزائرية. ومن خلال هذه القراءة سأحاول أن أقدمها على نحو ما تتبعت فصولها و أحداثها بعيدا عما تجتهد المناهج أن تكرسه: تبدأ الرواية من حيث نمت كل أحداثها واتضحت فالروائي لايلعب معنا غواية العقده، بل يكشف لنا أن القصةحدثت وانتهت وأنهت معها كل تفاصيل الحياة بخروج حبيبته من حياته ،وهو يكتب تحديدا لتبرئة ذمته و تحرير صوته مما حدث و صيره رجلا منتهيا، تقاذفته الأقدارولعبت به كل أدوارها بعد أن اختار الفرارمن آلة الإرهاب الأعمى إلى منفى يأمن فيه على حياته ووجوده لكن نفس القدر يعيده إلى نقطة البدءتماما ككائن بحري لا يقدر على مغادرة الماء. لا يدخل بوكرزازة مع القارئء في روايته"ليل الغريب" في أية مراوغة او إثارة في التعريف بالراوي إذ من الصفحات الأولى يكشف لنا أن الحكاية بتفاصيلها لا تبعد عنه فالراوي-الكاتب رشيد عياد ليس إلا مراد بوكرزازة" أتراك تتركين الراوي يذهب للحكاية كيفما شاء" ليؤكد بعد أسطر:" بينك و بينه أقصد بيني"". مغرقا في ذاتية تستحوذ على كل الحوار فجعلته مرصودا من الكاتب وليس وليد الأحداث . لكنها لغة شفافة وأنيقة لعلها تؤرخ لنص جديد في الأدب الجزائري الذي غرق في الخطابية و المباشرة، و لغة المجتمع و العقل التي لاتورط كاتبها في كشف من يكون فيفضل أن يفصل بينه و بين ما كتب وقت يصر الراوي هنا على التدقيق في تفاصيل كاتب من سلالة جديدة يحدثنا عما تقوله الأمكنة و كيف تختلف هذه الشوارع عندما تكون في مدينة هي"قسنطينة" إذ يشعر بها تفتقد صحبته اليومية المسائية وهو بعيد عنها: "أي كابوس سينام عليه شارع عواطي مصطفى أنا القادم إليه كل يوم في الخامسة مساء بالخبل تارة و الجنون تارة أخرى" و أي وحده ستركن إليها المراة الحديدية..." لما يكره على الرحيل صوب مدن بارده لا تحضنه، و لا تفهم هذا الفقد الذي أعاده في لحظة ينقصها التبرير في رأي قارئ ينشد المنطق و صرامة الحدث في الرواية. أما الراوي / الكاتب الذي يعيش على توقيته (و هنا أسجل شبها كبيرا بين كاتب مالك حداد في "سأهبك غزالة" و كا تب مراد بو كرزازة، و لعلهما شخص واحد إذ يقتسمان حب هذه المدينةو العجز عن تنفس هواء آخر غيرها) فلا يجد نفسه مجبرا على اقناعنا بأن رسالة مليئة بالأخطاءلابن أخته مدسوسة في لباسه تقدر أن تغير مسيرته و عودته نحو قدر لم يكن له من الأول أن يهرب منه كأنما ليقول: لم تكن تعنيني صعوبة الحصول على أوراق شرعية لإقامتي في المنفى الإختياري بقدر ما كنت عاجزا عن الهروب من حبي لعائلتي و مدينتي/و طني. في رحلة العودة كما في رحلة الذهاب يلتقى رشيد عياد صاحبة "العينين التي لا لون لهما، و التي لم يمهله القدر أن يعرف لونهما".ليعيدنا إلى زمن الروايات الرومانسية التي تجمع فيها الصدفة-القدر بين الشخصيات مع أن مؤشر الرسم كان بإمكانه أن يربطهما،لاسيما و أنه ذهب و بحث عنها بمساعدة صديق (جمعته به أيضا يد القدر الحنونة )في شارع Monmartre. فلا نفهم لماذا لم تبدأ الحكاية إلا على متن طائرة العودة-البداية:هل لأن الحب خارج قسنطينة مستحيل؟أم "لأن الأقدار تتظاهر بالاستسلام لتعود أكثر شراسة وقوة "كما كتب محمد ديب في "إغفاءة حواء"؟ بالعودة يتفنن الكاتب في إطالة سحر هذا اللقاء كأنما لينجح في إقامة جدارفاجع و مؤلم بين شق الرواية الأول الذي يهيؤنا فيه إلى ترويع ما سيجييءفي شقها الثاني. لتسيرالحياة بهدوئها واضطراباتها التي لم يبعد الكاتب عن رصدها وهو يصف تفاصيل مدينة عرفت كيف تحضن عصافير الحب غمرتها السوداوية، و ما تعرضت له من تشويه من ثقافة تحارب الحب والجمال والابداع وتسدل الليل قبل آوانه.. لا يفصل الكاتب-الراوي في تعقيدات ذلك وحتى ما نقله من آثار على لسان شخصيات تكسر زجاج وجودها فقد نقله بوكرزازة من وجهة نظره ،ووفاء للغته كأنما يقول لهذا العالم :"أصمت -آخيرا -لتسمع لغتي"فالحب هو السير الطبيعي للحياة وهو رأي الحبيبة-الفنانة -أيضا- التي لا تحاكم رشيد لأن أخاه آوى إلى الجبل تذمرا وحنقا وغضبا من بؤسه وكل الظلم الذي تعرض له. فعن طريق تفاصيل حياته الرتيبة أو المعدة سلفا لتقول جمال الحياة الهادئة يجرؤ بوكرزازة أن يكشف كيف يحب الجزائري، ولا يخجل من كشف عواطفه وأحاسيسه ليعطي للرواية الجزائرية روح الرجل الجزائري المفقودة في الأدب المكتوب باللغة العربيةبخاصة فيذكر "عطر زوجته المفضل ويفاجؤها به."ويصفها بعين عاشقة حالمة. هكذا يندمج المنفيان العائدان إلى حضن المواجهة في الحياة سلاحهما الحب رغم ما يتواصل من تفجيرات ومن قتل فيصف لنا الكاتب عبر نمو هذا الحب قسنطينة بغاباتها وثلوجها وجسورها ويعيد لها بعض ألقها تماما كما سطيف والقالة.. إلى أن يحل الزلزال تلك الليلة وينفتح باب الجحيم بدءا من الاختطاف من طرف الجماعات المسلحةإلى تفاصيل الحكاية الثانية (التي تفسر احتماء الراوي-الكاتب إلى إدمان الخمر واعتزال الحياة والبشر عدا الذين يقاسمونه وجعه وذاكرة الألم) في "تغراست" أحد معاقل المسلحين المغلقة على الإذلال والإغتصاب والتدمير النفسي اليومي للإنسان..وعبر يوميات تدوم واحداوعشرين يوما يكتشف رشيد أي وحش تحول إليه أخوه وهو يئد الأحلام ويقطف الحياة بمسدسه.ومن خلال هذه اليوميات أيضا يطل بوكرزازة على الأسباب التي دفعت بهؤلاء الدمويين إلى بشاعة ما صنعوا فيكشف عيوب التعليم وافتقادنا للعدالة وتكافؤ الفرص.ويزيح الستار عن ضحايا لا ذنب لهم سوى أنهم آمنوا بحب هذا الوطن وخدمة الحياة فيه.فمن الجلاد ومن الضحية؟ومن المتهم ومن القاضي؟ فهل مات؟لعله مات وهو يرى زوجته الحامل تغتصب أمامه؟ أو فقط توقف عن أن يحيا وما الفرق؟ إنها تفاصيل مرعبة تكتمل والمسلحون يأخذونها رفقة سبيات أخريات إلى وجهة مجهولة؛ليظل هو ومن معه تحت رحمة السلاح والحقد والعجز. بعد فراره بأعجوبة بمساعدة مسلح كان أحد المعجبين ببرامجه يستفيق رجلا يعيش على المهدئات العصبية ليقاوم انهياره. من حضن أمه كأنما تعود إليه بعض الحياة..وبعد ثلاث سنوات نعرف سر إصراره على كتابة هذه الرواية عائدا بنا إلى أحد أهداف الفن:التطهر من كل ما حدث.فقد عاد إلى الحياة متحديا آلة الموت برجوعه إلى عمله من خلال النهاية-البداية:"والآن..." جملة مفتوحة على الفرح المجروح والحياة والاستمرار.. إنها رواية مرحلة ونوستالجيا وتحد كتبت بوجهين متقابلين لحكاية واحدة إحدهما نتيجة للأخرى لعل لغة الكاتب الوفية لنفسها جعلتها تخفف عنا لفح جحيمها.