الموسيقى و الكوليغرافيا تنقذان عرضا بطلته المرآة كنت أمنّي نفسي بمشاهدة عرض ماتع لمسرحية "النار والنور" يعيد الدفء إلى أجسادنا وأرواحنا في مساء شتوي قارس في مدينة على سفح جبل يعانق الغيوم ويطلّ من شاهق على الناس...خاصة بعد أن علمت أنّ مخرج العرض هو الجميل عيسى جقاطي الذي سبق وأن التقيته في أكثر من فعالية مسرحية وأعرف إبداعاته الجميلة في الإخراج وكان على عهدنا به فنانا مبدعا شفافا...وكنت قد اطلعت على النص منشورا وهو للكاتب الدكتور صالح لمباركية. وقد زاد من اهتمامي بحضور العرض أنني علمت بأنّ المعالجة الدرامية للنص الأصلي قد قام بها الفنان (الذي لا نشبع منه) "محمد الطاهر زاوي" والذي عرفناه يقترب في كلامه من الشعر، وشاهدنا له بعضا من أعماله فكنا نجمع على أنه واحد من طينة الكبار ياسين سليماني النار والنور، أين الأصل وأين الهامش؟ يبدأ العرض بكوليغرافيا جميلة يجسّدها شباب من الجنسين، نفهم من سيرورة العمل أنها تحاكي شهداء الثورة الجزائرية الأطهار الذين "عند ربهم يرزقون"، وكيف أنهم يستقبلون بحفاوة بالغة، بحب أيضا، الشهداءَ الذين يلتحقون بالسماء...يلتحقون بسابقيهم. في مشهد آخر نشاهد شابا يذهب إلى بيت جده القديم، ينتظر صاحبيه الشاب والشابة للالتقاء معا في منتصف الليل ل"الحرقة". إنّ هذا الشاب واحد من جيل ما بعد الاستقلال، جيل الفايسبوك والتويتر والسكايب، ليست له علاقة بالأجداد إلاّ في الوثائق الرسمية. منزل الجد هنا يمثل ذكرى عادية، لا خصوصية له مطلقا. تكون لحظة العناق بين الماضي والحاضر، بين الشاب والجد، بين جيل ما بعد الاستقلال وجيل الثورة عن طريق "المرآة" التي جعلها أصحاب العرض تنطق أمام الشاب الذي ينوي الرحيل إلى فرنسا ف"تسرد" جرائم هذه الدولة في حق بلاده التي ينوي الهروب منها بحثا عن "الكرامة". كلّ ما نشاهده بعد ذلك، هو ما ترويه المرآة للشاب. فالمرآة هي الشاهد على ما حدث في هذا البيت ما دامت قد ظلت موجودة مع الجد والابن واليوم مع الحفيد. يستشهد عمار بعد معركة طاحنة مع الفرنسيين، ويأمر قائد مجموعة الثوار أحدَ العناصر وهو "محمد" بإبلاغ عائلة الشهيد بما حدث لابنهم. يتزامن وجود المجاهد محمد في بيت الأب مختار والأخت حورية مع وجود سي عبد الله، أحد أذناب فرنسا وأتباعها من الخونة، مع تمشيط فرقة من الجيش الفرنسي للمنطقة. فيضطر المجاهد محمد لأن يتظاهر بالموت، فيغطيه مختار وابنته حورية بما يشبه الكفن وتجلس المرأة أمامه تبكي عليه. تنطلي الخدعة على فرانك، أحد المعمّرين عندما يقولون له بأنّ الميت هو ابن مختار الذي سقط من شجرة على صخرة فمات. ويضطرّ سي عبد الله إلى السكوت خوفا من القتل الذي هدده به مختار. تتصاعد الأحداث ويصبح من الصعب أن يستمر محمد بالتظاهر بالموت، كما يهدد سي عبد الله مختار وابنته بفضح المسكوت عنه إذا رفضا أن يقترن هو بحورية كزوجة ثالثة له. وينكشف هذا السر عندما يصرخ مختار بصوت عالٍ بأنه لن يسمح بأن يلمس ابنتَه كلب من كلاب فرنسا.في الوقت نفسه يحس فرانك بآلام القلب المبرحة، وتحت تهديد السلاح الذي كان برفقة محمد المجاهد لا يستطيع لا هو ولا الخائن عبد الله أن يفعلا شيئا فيموت فرانك ويوضع مكان الجثة المزعومة حتى لا ينتبه الجنود الذين جاؤوا يبحثون عن المعمَر ليرافقهم في مهمتهم لاختفاء الجثة. لقد استشهد عمّار وترك ابنه رضيعا يبكي، يتيم الوالدين، فأمه توفيت أيضا بعد ولادته مباشرة، لكن هذا الابن يكبر وتكبر معه الآمال باستقلال الجزائر، وبعد تحقيق الاستقلال بسنوات، يولد الطفل الذي يرغب اليوم بمغادرة الوطن لأن هذا البلد لم يقدم له شيئا. والنتيجة أنّ الشاب يعدل عن فكرته ويتراجع بسبب كل ما حكته وروته السيدة المرآة. فالقصة الأصل هي قصة الثورة، جهاد الشعب الجزائري الذي يظهر في هذه العائلة المكلومة بفقدان ابنها، والمفتخرة باستشهاده في آن واحد، نار الاستعمار والظلم والقسوة، ونور الاستقلال الذي يبدو آتيا بفضل تضحيات الشهداء، أمّا القصة الفرع، هي الهجرة غير الشرعية التي كان ينوي القيام بها حفيد الشهيد. I.بين نص صالح لمباركية ومعالجة محمد الطاهر الزاوي قصة الثورة هي ما كتبه لمباركية في عمله، وظهرت المعالجة الدرامية في القصة الموازية عن الحرقة، ولكي يربط الزاوي قصته الجديدة بالقصة الأصل جاء ببيت الجد والمرآة السحرية. ومن هنا يأتي كل اللوم على صاحب المعالجة والمخرج، على محدودية الرؤية التي تعامل بها مع دور الشاب الراغب في الحرقة والذي نسيت اسمه، والتي تشبه محدودية الرؤية الآنية التي أقحمت على العرض، مما أدّى دون مبالغة إلى إرباك توازنات العرض كله. كان يمكن أن يتحدث العرض عن مشكلة الهجرة غير الشرعية بأفضل مما رأينا، لقد ظهرت أسباب الهجرة واهية بسيطة عامة، كما أنّ الرجوع عن هذه الفكرة جاء دون حل حقيقي، فرغم أنّ المتلقي يرى بأنّ "العمل في الأرض" هو الاختيار الذي توصل إليه الشاب بعد أن جعلته المرآة بحكايتها الطويلة يتراجع عن الرغبة في الهروب من هذا البلد، إلاّ أنّ هذا الحل أيضا جاء على قدر من البساطة، ودون إقناع حقيقي، لا أظن أنّ شابا في هذا الزمن يفكر ويدبر ويخطط للهجرة ثم يتنازل عن مشروعه قبل لحظات قليلة من تنفيذه بسبب حكاية مهما كانت أهميتها وعمقها. لقد شاهدنا عرضا وظهر أنّ دور هذا الشاب جعله المخرج مجرد مطية لسرد أحداث الثورة، فلمن تروي المرآة الحكاية إن لم يكن له؟ ولماذا تروي له الحكاية إن لم يكن هناك سبب قوي يدفعها لذلك؟ الشاب في العرض لم يكن إلاّ سامعا للحكاية لا فاعلا فيها، ومن هنا انحسر دوره لأن يكون أقل من دور هامشي.لقد قام عبد العالي فرحات صديقي العزيز الذي غضب مني عندما انتقدت دوره قبل اليوم في مسرحيته الجميلة "وفاء والرحلة العجيبة" بدوره كما ينبغي لكنني لا أزال أقول أنّ مساحة الدور أقل بكثير من المطلوب، وكان يمكن للمخرج أن يعطي له أبعادا أكثر إيحاء وتأثيرا، وأنا مؤمن أنّ هذا الفنان الجميل له من الإمكانات الإبداعية القسط الوافر لو استغلها المخرج كما يجب، لكن النص كان بهذه الصورة. لي عتاب أيضا على مستوى النص، لقد كانت المرآة بطلة المسرحية بلا شك، فقد أخذت حيّزا ربما لم يأخذه أحد من الشخصيات الآدمية، وكانت تسرد كلاما طويلا مملا كان يمكن الاستغناء عن كثير منه إيجازه، ثم سمعنا هذا السرد الطويل في آخر العرض عندما أخذ الحفيد يناجي جده بثرثرة طويلة أرهقت المستمع. لقد وقعت المسرحية في الكثير من المرات في مطب "الشعاراتية" التي جعلت من النص خافتا. II. الرؤية التشكيلية: لم يكن استخدام المرآة الناطقة ذكيا لتسويغ حكاية الثورة الجزائرية،ولو أنّ مثل هذه الأشياء تحدث تفاعلا أكبر في مسرح الطفل وتلقى قبولا أحسن،وكان يمكن للمخرج أن يقدم تسويغا آخر أكثر حنكة وذكاء لتمرير قصة الثورة، ولكن إذا توقفنا عند تصميم الملابس فسنجده جيّدا، ولو أنه عادي ومتوقع، فقد لبس الشهداء الأبيض الناصع وكان أنيقا جميلا موحيا، ولولا هذا الأبيض ما عرف المتلقي الشخصية التي أمامه، كما لبس المجاهدون لباس الجند ذي اللون الأخضر، ولو أنني أعتب على هذا اللباس الأخضر الآتي من المصنع لتوّه، كان يفترض بألبسة المجاهدين أن تكون أقل شياكة أو أناقة، فما عهدنا بهم هذا، وهذا الانتقاد يوجه كثيرا للأعمال الجزائرية التي تطرح موضوع الثورة بما فيها الأعمال التلفزيونية، وهذه مفارقة!! أما ما لبسه مختار وحورية وسي عبد الله ، زيادة على المعمر فرانك والجنود الفرنسيين فهو مناسب، لصيق بالشخصية، يؤدي دوره الكامل في تعريف المتلقي بالممثل الذي أمامه دون حاجة الممثل للنطق بشخصيته، ويبقى لباس الشاب الذي ينوي الهجرة، هو وأصحابه ينتمي إلى جيلهم، فهو مناسب. لقد حاولت أن أفهم سر غياب السينوغرافيا فلم أفهم، فعدا المدفأة والمرآة الملصقة بها وكرسيين ، سأذكر أيضا سجادة صلاة ومائدة حتى تظهر الصورة واضحة، ومع ذلك كان الجميع يلعب في أرض بطحاء فارغة، في المشهد الذي يجسد أرضية المعركة، أو في المشهد الخاص ببيت الجد. هل هي ظروف إنتاجية أم رغبة من المخرج أم ضيق الوقت إذا علمنا أنّ فريق العمل جاؤوا لتوهم من ولاية أخرى عرضوا فيها العمل ذاته؟ III.فوز الموسيقى وإبهار الكوليغرافيا: يجب أن نرفع قبعاتنا إعجابا بالموسيقى التي أنجزها الفنان حسان لعمامرة فقد كانت مناسبة، والكثير من أجزائها آسر أخّاذ هوّنت علينا ثرثرة المرآة والحفيد، كما يجب أن نحيّي المبدعين سماح سميدة وفارس فتان على الكوليغرافيا الجميلة التي أنجزاها. يبقى هشام قرقاح ممثلا متألقا، لم أندهش من المستوى البديع الذي ظهر به في هذا العمل لأنني شاهدت له أكثر من عرض، كان فيه متفوقا على نفسه في كل مرة، وهشام من النوع الذي يصلح لأداء كل الأدوار التي تُسند له، وأعتقد أنني قرأت له حوارا يؤكد فيه عدم اهتمامه بحجم الدور الذي يقوم به سواء كان رئيسيا أم ثانويا، وهذا رائع بالنسبة للممثل إن كان الشاب مؤمنا حقا بما يقول. هذا على خلاف باديس مراد الذي كان كثيرا ما يتلعثم ويخطئ في نطق الكلمات الفصيحة، ويضطر لإعادتها وتصحيحها، هذا إذا تجاوزنا الحديث عن الحركات التعبيرية التي يقوم بها بعينيه وشفتيه بشكل مبالغ فيه ودون حاجة الموقف الذي يجسده لذلك، حتى لكأنه شخصية كرتونية لا ممثل في دور يوصف بالجديّة. وأظنني كنت سعيدا بدوره في مسرحية "البصيص" مثلا أكثر بكثير من دوره في هذا العمل خاصة مع لغة عربية أقل من المتوسط. وبالإشارة إلى الممثلة التي قامت بدور الأخت حورية، وهي ياسمينة فرياك، أرى أنها تبقى جيّدة، قامت بدورها بخفة واقتدار، تجيد التعبير بالوجه، لا تقوم بحركات زائدة عن الحاجة زيادة على نطقها السليم للغة العربية. IV. العربية المظلومة: في هذا العرض أيضا شاهدنا بعض الأشخاص لم يكونوا ممثلين، ولكن كانوا قرّاء للنص، يلقون بالكلام الذي حفظوه دون تعبير حقيقي بحركة الوجه ولا بالإيحاءات والإيماءات، ظهر هذا عند بعض الذين قاموا بدور المجاهدين، وظهرت صعوبة عملهم أكثر في حديثهم باللغة العربية، فشعرنا أنّ المظلوم الحقيقي عندهم هي هذه اللغة الجميلة. أمّا فكرة تمثّل الممثل لماهية دوره ودخوله في صلب الشخصية في اتساق كامل، الأمر الذي يداري عيوب النص إن وُجدت، فهذا أمر بعيد، وليلحظ المتلقي هؤلاء الممثلين في فترات صمتهم أي عندما لا يكون الدور عليهم في الحديث. أسوء ما في العمل نهايته، فالمخرج جمع جيل الاستقلال على يمين الخشبة وجيل الثورة على يساره بينما تسرد المرآة ويسرد الحفيد كلاما طويلا في الوطنية وحب الجزائر، وكان هذا الوقوف طويلا لم يزعج المتلقي وحسب ولكن أزعج الممثلين أنفسهم، حتى أننا لاحظنا أحدهم (من جيل الاستقلال!!) يأكل أظفاره لمرتين بينما المرآة والحفيد يشنفون آذاننا المتصدعة بكلام في الوطنية. اعتقادي أنّ الموسيقى والكوليغرافيا أبدع ما في هذا العمل الذي أصرّ على أنه أقل مستوى مما كنّا ننتظر من عمل من تأليف كاتب بحجم الدكتور صالح لمباركية وإخراج فنان بحجم عيسى جقاطي.