تستمدُّ الرواية خصوصيتها الأجناسية من بنائها وطبيعة تشكُّلِه التي تختلف من عملٍ إلى غيره، وتنهلُ ملامح معماريتها من حياة الشخوص، والعلائق التي تربط بينهم، وتبني الوشائج بين مصائرهم المختلفةِ ضمن أحداثها، وأيضا من خلال طبيعة زمن السَّردِ وتقنياتِ تشكيله على امتداد متنِ الرواية بصورة تجعل من الزمن نفسه ذي دلالة ومعنى. هذا الأمرُ يؤكد بأنّ الأعمالَ السرديّة مثلما ترتكز على موضوعها، تقوم أيضا على شكلِ الرواية؛ أي على بنائها المغاير، الذي يصنع، وبصورة أكيدة، موضوعَها، بل إنَّ عمقَ الموضوع واختلافه أصبح لصيقا بهذا الاشتغال الذي يمنح للكتابة السردية خصوصيّتها وجمالياتها. من هنا، يكون الاستثمار في بناء الرواية، وجعله أفقا لبناء الموضوع عملا لا يتحصّل في كثير من الرواياتِ التي تكتفي بالحكاية وترتيب الأحداث عبر مسار السرد متكئة على الزمن المتتابع الذي يفقد الرواية كثيرا من جمالياتها الناتجة أصلا، في بعض جوانبها، عن البراعة في إنتاج الزمن بطرق مبدعة. بقلم:محمد الأمين سعيدي انطلاقا من هذه القناعة سنحاول في هذا المقال الاقتراب من رواية"ندبة الهلالي:من قال للشمعة:أح"، لعبد الرزاق بوكبة الصادرة هذه الأيام عن المؤسسة الوطنية للإشهار والنشر. وهي روايةٌ تشكّلتْ عبر جغرافية بناء معقّد تتداخل فيه كثير من الشخصيات الحقيقية والمتوهمة، كما تتداخل فيه الأزمنة بصورة منسجمة تقتضي من القارئ كثيرا من التركيز والانتباه. ويمكن تسمية هذه الاشتغالات تحت مسمّى التجريب، خاصة وأنّ الروائيّ خاض تجارب شعرية عديدة(فصيحة وزجلية)، واستثمر في نصوصه السابقة لغة ينحتها بكثير من الخصوصية الجزائرية حين ينزع بالتركيب النحوي المهادن صوب تشكلاتٍ أخرى، ويشبع لغته السردية بكثير من طرائق التفكير والتعبير المحلية في الجزائر التي تمنح للنص عمقا يشبه دواخل الإنسان الجزائريّ التي أثّثها التاريخُ وسياقاتُ الحياة المختلفة فوق هذه الأرض ذات التنوّع المثمر والاختلاف البديع. وإذْ نسمي هذا "تجريبا" على مستوى البناء، سنحاول فيما يأتي من هذا المقال أنْ نتتبع ذلك على مستويات مختلفة تبرز قيمة الرواية، وبالأخصّ قيمة بنائها. 1."ندبة الهلالي":قراءة في العنوان تدلّ لفظتا العنوان الرئيس على الماضي، أولا؛ من حيث ما للندبة من معاني القدم، إذ هي جرح تماثل للشفاء فلم يبق منه غير أثره ذكرى جسدية، أو بقيَ منه ذاكرةٌ شاهدة على ما جرى. وثانيا؛ من حيث ما تحيل عليه لفظة الهلاليّ، وما تحمله من تاريخ محدد معروف، حين تشير إلى قبائل بني هلال الذين وصلوا الجزائر عن طريق الفتوحات الإسلامية واستقروا في كثير من المناطق. والمقصود بالهلالي هنا هو منصور، ما دامت الندبة المقصودة هي ما بقي على جبينه يوم قاد موكب الجازية فانهار عليه الكوخ فشجه عود حاد في رأسه. لكنّ هذه الدلالة، من جهة أخرى، تنفتح على زمنيْن متعارضين تماما؛ الماضي من جهة الأصول العرقية التي تعود إلى بني هلال وأثر الجرح القديم، وتمظهراته الجسدية وما يترتّبُ عنها كذلك من آثارٍ نفسيّة مختلفة، لكنها أيضا-الدلالة-تستمر في الحاضر، وبالضبط في آلجي(العاصمة)، من جهة تواصل أحداث الماضي القديم من خلال حكايات ذياب بن منصور الحكواتي، وأيضا من خلال ذكريات الطفولة في قرية أولاد جحيش، واستمرارها عبر شخصية منصور الذي يبيع الكتب في ساحة البريد المركزي ممتلئا بكثير من العواطف، لعلّ على رأسها الانجذاب إلى القرية حيث الطفولة وصدر الجازية وشجر الزيتون. كما تستمر حكايات قديمة أخرى على مستوى آخر من خلال شخصيته، وقد حملها وعبّر عنها المخطوط العتيق الذي سرق منه، واستمر في البحث عنه، وكأنه بطريقة رمزية يبحث عن ذاته وهويته وتاريخه، ويحفر عميقا، وهذا ما يرمز له المخطوط، في تمثلات حياة تتكرر بعض أشكالها السابقة في زمن العاصمة الحاضر؛ أي في بعض من زمن الرواية. 2:"عتبة الوصول": ديمقراطية الشخصيات افتتح الروائيّ عمله بحوار دار بين شخصيات الرواية بصورة استثنائية، وهي ربما غير مألوفة في كثيرٍ من الروايات التي تحاول أنْ تبدو كأنها حاصلة في واقع الحياة. لهذا أسفر الحوار عن إقرار الشخصيات للكاتب بأنّ الراوية غضب كثيرا وهرب تاركا الحكاية بلا لسان. ثم إذ تتضارب أقوالهم أمام صاحب الشأن، وهو الكاتب، تقترح أنْ يروي كل واحد منهم حكايته دون حاجة إلى راوية واحد شرط أنْ يروي الكاتب-بوكبة-هو الآخر حكايته لوحده، وهذا في الحقيقة ما يسوّغ دخوله فيما بعد كشخصية تتراسل مع أحد شخوصه. هذا الحوار يفسر الحكايات المتداخلة في النص، والتي لا تكاد تنهي منها واحدة حتى تندهش بانتقالك إلى حكاية أخرى، وإلى راوية جديد، وكأنّك داخل حلقات لا نهاية لها تعيدك إلى البداية وإلى ما قبلها أو بعدها في أوقاتٍ متقاربة، ولعلّ في هذا استثمارا لبنية السرد في ألف ليلة وليلة، وتطويرا لهذه التقنية. ومهما تعددتْ هذه الحكايات جميعا فهي تعبّر عن جرح واحد ذي وجهيْن؛ الواقع المرّ في بداية التسعينيات، أي في المرحلة الدموية التي تحوّلت فيها البلاد إلى مشهد لوليمة ذبح أليم اقتات فيها الوحوش على الشعب الجزائريّ، هذا الواقع الذي ستستمر مرارته في بداية الألفية الجديدة مع اختلاف أشكالِه من الذبح الحاصل حقيقة إلى أنواع أخرى منه ذات تفسيرات مجازية. والوجه الثاني هو الأنثى المفقودة، إذ لكلّ واحد من هؤلاء الشخوص حبيبته:لمنصور الجازية، للوناس لوزيزة، للولهي عزيزة، ولعلي بلميلود، وهو شخصية بوكبة المتخيلة، حجلة...إلخ. وإذ يعبِّر هذا عن ولع غامر بالأنثى، يرسّخ في الآن ذاته فهما عميقا لطبيعة العلاقة بها يستثمر مقولة محيي الدين بن عربي:"مكان لا يؤنث لا يعوّلُ عليه". ويجعل من الحبيبة الوطن المفقود، في ظلّ أنواع متعددة وقاسية من النفي والإلغاء. إنّ هذا الحوار الذي افتتح العملَ يحيل من جهة أخرى على دلالتين جديدتين؛ يوجّه إحداهما إلى خارج النصّ، أي إلى الواقع. والثانية إلى عالم النص، الذي سيوحّد بشكل ما بين الوجهتيْن. أما الدلالة الأولى فهي التعبير الذي ورد في حوار الشخوص، والذي ينتقد اكتفاء الجزائريين بالراوية الأوحد، ويدعو إلى تعديد الرواة؛ ويعبّر عنه النص الآتي من الرواية: "فلتعدّدِ الرّواة يا سي بن ذياب، أما آن للجزائريين أن يعدّدوا الرّواة؟ أما آن لهم أن يدركوا أنهم ذهبوا ضحية الرّاوي الأوحد؟". وإذ لا يخفى ما يعتمل في هذا التصريح من نقد واضح لكثير من السياسات التي سيطرتْ على موارد الرواية/التاريخ، واكتفتْ باعتماد بعضها، وهو الرسميّ اليوم، إلا أنّ فيه دعوة عميقة إلى الانفتاح بواسطة التعدد، وربما إحالة بشكلٍ ما إلى مرحلة التعددية الحزبية التي عاشتها الجزائر في نهاية الثمانينيات، وانتهتْ بخيبة جارحة؛ على مستوى التعدد بإجهاض المشروع حتى صارتْ كثير من التيارات السياسية مجرد تنويع على وجه واحد، وعلى مستوى حياتيّ بجعل الجبال تضجّ بعطش إلى دمنا ورقابنا، وبرائحة أحادية قاتلة. من جهة أخرى يحيل المقطع أعلاه على داخل النّص، وعلى بنية هذه الرواية التي ليس لها راوٍ واحد، وإنما رواة كثر، بل هي في الحقيقة ليستْ رواية واحدة، وإنما "رسميا" ثلاث روايات:رواية ذياب بن منصور الحكواتي الآتية من زمن ماضٍ مستمر في الحضور داخل السرد، وضمن شخصيتيْ منصور والجازية، ورواية ندبة الهلاليّ وهي الأفق الذي اجتمعتْ فيه كل تلك الحكايا، ورواية المخطوط المفقود. وكأننا بالكاتب هنا، وبخبث، أراد أنْ أن يحقق التعدد الذي أشار إليه شخوصه ولم يترسخ في الواقعي السياسي والاجتماعي الجزائري بصورة تمنحه قوته وحضوره، فراح يحقق ذلك في نصه؛ على مستوى بناء الرواية أولا، وعلى مستوى الأفكار والتوجّهات والرؤى ثانيا. 3.رمزية المكان الواحد والاتجاهات المتفرقة المكان في هذه الرواية واحد، بالخصوص المتصل منه بزمن حديث، والمقصود به هنا ساحة البريد المركزيّ التي اجتمع في باحتها شباب عديدون يبيعون كتبا متفرقة؛ مثلا حسين علامة السجود بكتبه الدينية، وما يحمله من أفكارٍ منغلقة تحاكم الآخر وتبني أمامه جدار الحظر والإقصاء. تلك الكتب التي لمْ تلبثْ أنْ رسمتْ له طريقه مباشرة إلى الجبل؛ إلى التحوّل إلى مصاص دماء بطريقة عنيفة جدا، وكان لتلك الكتب المجرمة دور كبير في تحويله إلى هذا الكائن إضافة إلى ظروف أخرى. من جهة مغايرة نجد هبهابة وهو بائع المجلات الجنسية بامتياز، يختفي ليظهر في صفوف الجيش يقاتل التطرّف. وسينتبه القارئ إلى الونّاس، وهو الفنان الذي شق طريقه من الساحة إلى القبو مباشرة لينتقل إلى عالم آخر يشبه فجيعته، وليعبّر بالانسحاب عن روح ملحمية حين يغادر الفن رصيف حياة لا يؤمن بالعطر في أجساد العابرات. ولهذا يمكن القول بأنّ المكان يمثل في هذه الرواية ركيزة مهمة في البناء، بل إنّ الخطوط العامة للسرد انطلقت منه. خاصة حين ارتبط برمزية الكتب، وما تحمله من أفكار، وبرمزية البريد المركزيّ، والتي تدلّ على البعد والفرقة، وهذا ما سيحصل لهذا الشبابِ المسجون داخل أقفاص من لهيب. 4.التفاصيل المؤلمة: جدلية الواقع والحلم ترتكز رواية "ندبة الهلالي" على التفاصيل اليومية، وهذا سبيل أغلب الروايات، لكنّ ما يميّزها هو كونها تفاصيل موغلة في الألم وفي جرح صارخ، ومتشكّلة بطريقة معقدة على جدارية بناء الرواية المعقّد. ويتجلّى هذا الألم من خلال مسارات الشخوص التي امتازتْ بالانسداد، وانغلاق الآفاق أمامها، لدرجة تجعل الحياة، بهذا الشكل، موتا متجددا. وإذْ ترسم الرواية بوضوح عمق جيل بكامله نخره الوجع كثيرا وهو الذي استفاق أمام أحلام سرعان ما ذبحتْ بخناجر لا ترحم، حتى صار في كل بيت جزائريّ قتيل وقاتل، وتحوّل الواقع إلى دغلٍ تجاوز في سلّم الوحشية كل الحدود، بل إنه صار مجرّد خرابة لماض ذهب بلا رجعة، ولمستقبل غامض لا تكشف مرايا مقدماته إلا عن أنهار أخرى من الجراح. إنّ الكل متألم في هذه الرواية، الحياة ذاتها كذلك، هذا ليس خيالا بل هو سبر لجراحاتٍ كثيرة، لكنّ ما ميّز العمل هاهنا أنه برغم انطلاقه من مآسٍ عرفها الناس، إلا أنه لم يقع فريسة للواقعية، ولتمجيد الحدث أو السقوط في هجائه، وإنّما ركّز على الإنسان، على أحلامه البسيطة التي قد لا تتجاوز أحيانا حشيشا أو سريرا أو قبلة من فتاة عابرة. 5.خلاصة:ماذا عن هذا البناء؟؟ لابدّ من الإقرار هنا بأنّ لكل عمل أدبيّ حقيقيّ ميزة تمنحه قيمته ونجاحه، وتجعلُ منه بصمة فريدة تحافظ على ملامحها برغم تعدد الكتابات. وإذا كانَ لنا أنْ نركّز على الميزة التي اقترحتها رواية"ندبة الهلالي" لعبد الرزاق بوكبة فإنّ البناء السرديّ المغاير هو ركيزة هذا العمل الذي تشكّلتْ أحداثه على حكاياتٍ متفرّقة صدرتْ من ألسنة متعددة، ووحّد بينها الجرح، والانتماء، وخصوصية الجزائر. ولعلَّ هذا ما يضيء سرّ العودة المتكررة إلى ذياب بن منصور الحكواتي، فالحياة التي هي اليوم نتيجة لتراكمات كثيرة سابقة، والإنسان الجزائريّ مهما تكن العيشة التي يحياها حاضرا لكنه لن يرى وجهه مكتملا إلا أمام مرآة ماضيه المتعدد، وحاضره المؤمن بإمكانية الاختلاف بعيدا عن العصبية التي أنتجتْ سنواتٍ حمراء، وفرّقتْ هذا النسيج البشري الرائع من الجزائريين. إنّ بناء الرواية كما تحدثنا عنه أخذ ملامحه من تشكّلات عديدة كان أهمّها الزمن، وهذا ما فصّلناه سابقا، وأيضا اللغة التي تنهل من معجم خاص ورؤية إبداعية مولعة بخصوصية الجملة؛ جزائريا من خلال التركيب المعبّر عن عقلية الجزائري المختلفة، وأيضا من خلال اللسان الدارج الذي اندرج في لغة الرواية لا كضيف ثقيل أو توظيف محتشم كالذي رأيناه في كثير من النصوص، ولكنْ باعتباره لسانا متصالحا مع اللغة الفصحى، لأنه منها، بل لأنه أحيانا يعبِّر عن المعاني بصورة لا تشبه إلا حرارة الصدق وهو يتدفق عبر حكايات بن ذياب وبقية الشخوص الأخرى. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته