إنّ الرواية باعتبارها شكلا أدبيا يقوم على السرد، هو الآخر دخل إلى معارك البحث عن الجديد-كالشعر تماما- سواء على مستوى الشكل أو على مستوى المضامين، ومثلها مثل الشعر أيضا نجد فيها الجديد المغاير والمختلف، والمقلَّد المكرور والمجترّ. وبين هذا وذاك يخوض الروائي هو الآخر رحلة البحث عن طريقته الخاصة في الكتابة التي قد تحفُّها الكثير من المزالق سواء الأسلوبية من حيث تكرار الأنموذج النمطي في كتابة الرواية، أو من حيث طرح الموضوعات أيضا. ويُصبح عمل الروائيُّ بكل هذه الأشياء، قائما على الظفر بالمغايرة والاختلاف في كل مستويات الكتابة وإذا لم يحقق هذا فإنه سيُتَّهم بالتخلف والرجعية ورواية ''جلدة الظل: من قال للشمعة أف'' للناص والكاتب الجزائري عبد الرزاق بوكبة الصادرة هذه السنة يتجلى فيها كثير مما قلناه، لأنَّ جهد الكاتب ظاهر من حيث البحث عن المختلف المختلفِ عن الروايات التي تُكتب في هذا الوقت. ولعلي في قراءتي هذه سأحيط بالدراسة جزءًا مهمًّا قامتْ عليه الرواية وهو الاشتغال على الرمز فيما يتعلق بالأشخاص وبالمكان، ولا أغفل الإشارة إلى ما يوجد من جهد لتحقيق شكل سردي لا يُغلق أبواب التأثر بينه وبين الأجناس الأدبية الأخرى. وحين نتحدث عن عبد الرزاق فإنه لا يزال منذ باكورة أعماله ''من دسَّ خفَّ سيبويه في الرمل'' يستحضر كل ما له علاقة بالطفولة وبالقرية داخل أجواء العاصمة، فكأني به يُحاول التأسيس لنوع من الكتابة غير المسالمة التي بقدر ما تطرح نوعا من الحنين إلى الماضي بقدر ما تنقضُّ عليه دون رحمة ناقدة له ومصححة لكثير من مساراته المنحنية. وهذه الرواية لا تخرج عن مشروع عبد الرزاق الكتابيِّ الذي يجمع في النص الواحد والكتاب الواحد بين الأصالة والمعاصرة، بين رتابة القرية وبساطة حياتها وتعقّد المدينة/العاصمة وتناقضاتها الكثيرة. وقبل الولوج أيضا إلى الحديث عن رمزيات المكان والشخوص، أُشير إلى استراتيجية ظهور الراوي على مستوى الشكل، عن طريق تقنية''الزوم'' التي اسطنعها الكاتبُ والتي تسلط الضوء عليه في حوارياته مع الشخصية المختلقة''بلميلود''، ولهذه التقنية جماليات أخرجتْ الأسلوب من الرتابة التي قد تلمّ به، وهي تحقق التداخل بين شخصية الكاتب والراوي من جهة على مستوى الكتابة، والتداخل بين زمن الكتابة وزمن السرد وزمن القراءة على مستوى النص والقارئ، مع العلم أن الرواية ترتبط أحداثها بالتاريخ المحدد في بدايتها: الزمان: صيف 1847 . المكان: شجرة الخرّوب العليا، حيث تجتمع جماعة العقلاء، في أولاد جحيش، ويحفظ الذراري القرآن العظيم.'' وتلعب هذه ''الزومات'' دورا رئيسا في فتح زمن الحكاية على زمن الكتابة، ثم زمن القراءة الذي لنْ يشعر فيه القارئ بالغربة عن أجواء الرواية لأنها على رغم تحديد أحداثها بتاريخ قديم إلا أنها تطرح أفكارا حداثية جدا ملتحفة بزي تاريخي عتيق، ولعل هذا الاشتغال يذكرنا نوعا ما برواية''حدَّث أبو هريرة قال'' لمحمود المسعدي الذي وإنْ اختار شخصية أسماها أبا هريرة وألبسها صفات دينية وكتبَ الرواية بأسلوب تراثي إلا أنه على مستوى المضمون يقوم بانقلاب خطير يهدم كل الوهم الظاهر، وعبد الرزاق وإنْ أوهمنا بذلك التاريخ القديم(1847) أنه يتحدث عن زمن قديم، إلا أنّ أفكاره ورؤاه تناقش الواقع الجزائري أو حتى العربيِّ الذي يلتحف بالتقاليد ويتقنع بالدين من أجل ممارسة ضغوطاته وتزمته، والدين بريء من ممارساته. تتعدد أصناف الرمز في الرواية، وعليه سنخوض رحلة البحث عن دلالات تلك الرموز الموظفة التي يتصل بعضها بحياة الناس الاجتماعية ، وبعضها يوضح علاقة الإنسان بالمكان وعلاقة الرجل بالأنثى، وبعضها الآخر يسعى لتناول فكرة الجدِّ أو النسب الشريف. إنّ أول رمز يسترعي انتباه القارئ في الرواية هو ''جماعة العقلاء'':(حلفانة ، فالح ، زكري ..إلخ) الذي يرمز إلى سلطة العرف والعادات والتقاليد على حياة الناس، لأنّ هذه الجماعة في حقيقة الأمر ما هي إلا جماعة مجانين، وجنونها هو تعبير عن سفه الكثير من التقاليد التي تمارس على الفرد ضغطا كبيرا بمجرد أنه قرر أنْ يختار سبيل حياته ، كما شاء وكما أراد ، وتتمظهر الحرية الفردية في اختيار المصير من خلال شخصية ''ذياب'' الذي يرمز إلى الخروج والتمرّد عن طاعة أحكام القبيلة/المجتمع التي تتخذ من الدين (مصحف الجد) وسيلة لممارسة دكتاتوريتها على الناس -التي في حقيقتها لا يقبلها الدين- ، ورفْض ''ذياب'' للقسم على المصحف من أجل البقاء في القرية هو في حدِّ ذاته رفض للخنوع وعدم قبول بالواقع الكائن ، فهو الثورة التي تسعى لخلق واقع آخر لا يزال في حال من احتمال الوقوع أو عدم ذلك ، ورفض ذياب الاعتذار عن العصيان هو أيضا تأكيد على جور هاته السلطة التي تلتحف بعباءة الحكيم وهي في حقيقة الأمر سلطة غبية جاهلة تقضي مصالحها من خلال ثقة الناس فيها. فذياب بمخيْه الكبير والصغير (مخ شجاع، وجبان) يرمز إلى الوعي التقدمي داخل المجتمع الرجعي، فهو وعي رافض لكل ما هو رتيب وروتيني ومنغلق. جاء على لسان المخ الكبير: ''المخ الكبير للمخ الصغير: الأرض ملك الله، ونحن عباده، ولنا حق فيما يملك، بل لذلك خلقنا، فلماذا نحرم أنفسنا، من أماكنَ أخرى، يُتاح لنا أن نقيم فيها؟، الوطن ليس الترابَ الذي نولد عليه، بل هو ذاكرة التراب التي ترافقنا، إلى كل مكان نذهب إليه، نعرف وجوها جديدة، نفوسا جديدة، عقولا جديدة، جبالا جديدة، وحين نحنّ، نجلس في زاوية من زوايا الليل، ونبكي في صمت لذيذ.'' أمّا عن رمزية المكان فهي تتمظهر على مستويين اثنين: مستوى فتيان القرية الذين لم يجد العقلاء صعوبة في إقناعهم بالمكوث حتى الموت في القرية، أو بتعبير آخر الموت الأول داخل القرية وفوق ترابها إلى انتظار الموت الثاني للعيش تحت ترابها. والمستوى الثاني هو مستوى ذياب الذي رفض القسم وعصى جماعة العقلاء وتحمَّل تجربة العقاب والأسر في قمة الجبل، وهو على رغم ثورته على المكان/القرية إلا أنّه في آخر المطاف أكَّد على علاقته الوطيدة بالقرية على رغم رفضه البقاء فيها، إذ استطاع إنقاد القرية عن طريق استرجاع مصحف الجدِّ المبارك الذي كتبه بخطِّه، وقفل راجعا مع سي شريف منتصرا غانما باتجاه القرية من جديد: زقال ذياب منزعجا من سي الشريف، وهو يذرع الغرفة: لو كنت قطعت هذه الخطوات في الهرب، لكنت وصلت الآن إلى أولاد جحيش. لن أهرب ومصحف الشيخ، مأسور عند واعز. كان سيبقى مأسورا عنده، لو لم أحرّره. ورمى يده إلى ما تحت الفراش، فأخرجه. شعر سي الشريف، بدبيب خاطف يسري في كيانه، جثا على الأرض، وراح يدمع، ثم مدّ يده إلى المصحف العزيز، وراح يقبله.'' أمَّا فيما يتعلق برمزية العلاقة بين الرجل والأنثى فيظهر لنا ذلك من خلال شخصيات متعددة، سنتدرج في الحديث عنها من أكثرها أهمية إلى ما دون ذلك. وأقوى علاقة في الرواية قائمة بين ذياب والجازية وقد كان لها البعد الأكثر تأثيرا حيث أنها علاقة حبٍّ تدرّجت في سلم ارتقائها منذ الطفولة التي عاشاها معا ، وتتجلى جيدا قوة العلاقة بينهما من خلال إقدام الجازية على فك قيوده ، ومن خلال رمزية الصرخات المتبادلة بينهما إيذانا بالحياة واتصال حبائل المودة في غياب أي نوع من أنواع الاتصال الجسدي. وتظهر العلاقة بيت الرجل والمرأة أيضا من خلال ظمأ العاقل حلفانة إلى ولد من زوجه سعدية وظمأها إلى رجل ولود كالعاقل زكري، وبهذا تحدث الخيانة ويُحسن إحكام الكذبة بكون حلفانة رُزق بولد. وفيما يتعلق بالحوّاس فإنّ علاقته قائمة على نفور من علاقة واقعة مع نجية التي لا رغبة له فيها ، والحلم بالجازية التي يتمناها ولا يستطيع البلوغ إليها ، والتي كانت السبب في خروجه من القرية بحثا عن ذياب لا لشيء إلا ليثبت نفسه أمامها ، لعلها إليه تلتفت، وبشجاعته تشعر. أيضا تتمظهر العلاقة في ولهَ زوجة واعز بذياب واستغلاله إياها في إنقاذ المصحف والظفر بالهرب. هذا ملخص العلاقات القائمة بين الرجال والنساء، لكن إذا تفحصنا في كل علاقة على حدة وفي العلاقات مجتمعة فإننا سنجد الكثير من الرموز التي تحوي في داخلها دلالات خفية عن المجتمع وما فيه يحدث من أمور تسْلحُ فوق العادات الحمقاء التي تدَّعي القداسة. أول هذه العلاقات -عدا علاقة ذياب بالجازية-هو خيانة العاقل زكري للعاقل حلفانه، وهذا الأمر يرمز في نظري إلى خيانة العُرْف والعادات لذاتها ومناقضتها لبعضها بعض، باعتبار أنْ العقلاء يرمزون للتقاليد العمياء. أمَّا علاقة الحوَّاس المضطربة مع نجية وتوقه الكبير إلى الجازية فيرمز إلى النفاق الذي تورثه قوانين القرية التي لا تزال تسيطر على كثرة من مدننا للناس، فتجد الرجل يعيش مع امرأة لا يُحبها ولا تُحبه، ويجبنُ في أنْ يُصرِّحَ بحبه لغيرها. أما وَلَهُ زوجة واعز بذياب فهو يرمز إلى ضعف زعامة واعز بن كلمان داخل منزله إذ الاستمرار في قراءة الرواية يبيِّن مدى افتقار هذا الجِلْف إلى الرجولة، مما يوضح سبب الكثير من الخيانات المشابهة في مجتمعاتنا. وتبقى في الأخير الصراعات بين العقلاء وانتشار الدسائس بين زكري وحلفانة من خيانته إلى إرسال ولده مسعود الجيلالي لقتله ترمز إلى تهلل سلطة العقلاء داخل القرية والتي قلنا أنها ترمز إلى العادات القائمة على مغالطات كثيرة أحاطها خوف الناس وترددهم بالتقديس. إنّ رواية ''جلدة الظل: من قال للشمعة: أف'' للكاتب والناص عبد الرزاق بوكبة في نظري هي نتيجة لاشتغال سابق على ''النص'' الذي يكون في غالبه مختزلا ولا منتمي إلى أي شكل بعينه، ولذلك جاءتْ في بنيتها اللغوية وفي أسلوبها قائمة على الرمز ومكتفية في كثرة من المواقف بالإشارة والإيحاء، فهي رواية بقدر ما تحدثتْ عن أمور كثيرة يتوهَّم القارئ البسيط أنها حاصلة في زمن قديم، إلاَّ أنَّ المسكوت عنه فيها كثير يندس بين سطورها ويكمُن في بنيتها العميقة، وهويدلُّ على واقعنا الحالي دون شك. ومن ثمة كانتْ قراءتنا هذه تستنطق الرمزية التي ألبسها الروائي لشخوصه في علاقتهم مع بعضهم بعض، وفي ارتباطهم بالمكان. لأنها-الرواية- تخفي في طيَّاتها كثيرا من الإيحاءات والمعاني الكامنة التي ليستْ مسالمةً على أيِّ حال. إنَّ هذه الرواية بقدر ما حققتْ المغايرة على مستوى الشكل، حققتها على مستوى المضمون، فجاءتْ أفكارها جديدة تسعى إلى هدم سلطة العُرْف المترهلة التي تتقنع بالدين من أجل تحقيق الشرعية، فالرواية إذن هي رواية التمرّد والخروج عن العاديِّ الروتيني من حيث الشكل والمضامين. محمد الأمين سعيدي مدينة المشرية يوم:2009/11/10