من الروايات التي تخرق ذائقة القراءة لدى المتلقي رواية ندبة الهلالي لعبد الرزاق بوكبة، وهي رواية متميزة بخروقاتها السائدة في السردية الجزائرية من خلال كسر النمطية الجاهزة في التشكيل الروائي، والاعتماد على فقرات الفلاش باك في أغلبها والمتمثلة في المراسلات التي تقوم بتحريك عملية السرد، بالإضافة إلى التلاعب بالزمن وطمس معالم الشخصيات المتعددة، وإبراز تعددية الموضوعات التي تساهم في المسار السردي، وتلعب على تكثيفه وتشابكه من خلال تدفق هذه الأخيرة من السّراد نفسهم وذاكراتهم وخيالهم، ليمهد للتنوع اللفظي والصيغي الذي يشكل صورة اللغة في رواية "ندبة الهلالي" الذي يصاغ حواريا في خضم هذا التنوع واللغات المتنوعة التي تشكل صورة اللغة، وكذا في مفاصل الحكي بكسر ميثاق الرواية المتعارف عليه منذ بداية فصلها الأول المعنون بعتبة الوصول، حيث يُحيّد الروائي سارده من خلال سحبه من متن الحكاية" قلت لشخوص الرّواية: أين الراوي؟ قالوا إنه لمّ أغراضه وغادر إلى وجهة نجهلها"، كأنما يعلن عبد الرزاق بوكبة منذ البداية ميثاق الحرية في طريقة تشكيله أو في تعامله مع شخصيات روايته، فلكل صوت حق السرد وحق التعبير من خلال أسلوبية التعدد كأساس جوهري في تشكل بناء روايته حيث تستطيع الشخصيات المتعددة الكشف عن مصائرها في مدار الحكاية الرئيسية في الرواية، مثل منصور بن ذياب المثقف وهو السارد الرئيسي وعليلو أو علي بن مليود، وبوعلام نصر الدين (هبهابة) الذي يراسل صديقه الوناس الفنان التشكيلي ليخبره عن مذبحة الحافلة القادمة من قسنطينة التي راح ضحيتها شباب من الخدمة العسكرية ومنهم ناجي شقيق أحمد الدودة صديق منصور في ساحة البريد، وعن القنابل التي فقد من جرائها يده اليمنى التي يكتب بها، كما نجد أيضا من شخصيات ساحة البريد المركزي منصف البقلاجي حاكي النكت، وعلامة السجود ابن خالة الوناس الذي يعبر عن توجه سلفي، يبيع الكتب المستعملة في ساحة البريد، يطارد هو الآخر الجازية ويخطفها ليأخذها للجبل ملتحقا بالجماعات المسلحة، لخضر عبد الحميد المجاهد صاحب مقهى الحرمل الذي يغتال من طرف الجماعات المسلحة، أخته فاطمة، والزهور أم الوناس وجاك جون دوكال ونبيل أيت لعزيز وكاترين وايز، والجازية بنت خالة منصور بن ذياب والجازية بنت سعيد القوسطو، ولطيفة وأحمد الدودة، الكثير من الشخصيات التي حَفِلت بها الرّواية والتي تنطلق حكاياها من ساحة البريد المركزي أو من مقهى الحرمل أو القبو، عبر تلك الرسائل المتبادلة سواء العادية منها أو القصيرة أو الإيميلات عبر البريد الالكتروني. كما تُشكل رواية ندبة الهلالي عبر حكاية المخطوطة الأخرى "شهقة الناي" التي يحكيها دفنها ذياب منصور الحكواتي حكاية موازية مستلهمة من التراث وموظفة توظيفا جماليا يحفر في تاريخ ألجي أو مملكة الجزائر عبر حكاية رحمة بنت الدّاي مع أحمد بن يخلف التي يرويها ذياب بن منصور الحكواتي وعن أميراتها والخيانات التي تحدث بينهن وكأنك أمام مرآة عاكسة تكشف لك عن الترسبات التاريخية التي لا زال تأثيرها يمارس على شخصيات الحكاية الأساسية التي شكلتها رواية ندبة الهلالي، وهي في أساسها حكاية الجزائر كوطن، الذي تشير دلالة اسم "الجازية" التي كان الكل يطاردها ويتلوّع في عشقها حتى النهاية، كما يقول السارد منصور بن ذياب. الكاتب عبدالرزاق بوكبة، الذي التقى بشخصياته في زيتونة مرزوق والتقى أيضا بنفسه الممثلة في عبد الزاق بوكبة، الذي صار كائنا ورقيا وكأنه يعيد الحكاية للبداية أو يعلن على أن حكايته الأولى لم تنته بعد بل ستستمر في روايته التي استعصى عليه كتابتها وهي "محيض الزيتونة". «لقد كنا نبحث عن امرأة واحدة من غير أن ندري". إذن رواية ندبة الهلالي، هي في حقيقتها رواية الهلالي والجازية، رواية أي عاشق لهذا الوطن لهذا احتفت بالتعدد والحوارية، محاولة أن تحكي سيرة وطن أراد الروائي تخليده عبر سيرة معذبي الأرض من الفنانين كما يقول السارد وهو يخاطب نبع مرزوق "علاقتك بالأرض لا بالسماء وها قد جلبت لك معذّبيها من الفنانين ليخلدوك"، وهم الذين جمعتهم ظروف المعيشة كي يتغربوا في العاصمة الجزائرية (ألجي)، ويتخذوا ساحة البريد المركزي كمكان للاسترزاق وهنا تبدأ الرواية في الانتشار السردي أفقيا من خلال حكاية هؤلاء في لحظات طيشهم وغربتهم وعشقهم أيضا، وحلمهم في الحياة وفي العشق، وعموديا من خلال استدعاء التاريخ عبر رموزه من خلال قهوة الحرمل التي يديرها المجاهد عبد الحميد لخضر وكذا من خلال سيرة قرية أولاد جحيش التي تتقاطع فيها هي الأخرى مصائر الشخصيات والتاريخ عبر مركزها نبع مرزوق وزيتونة مرزوق مما يفتح المجال أمام تعددية في مستويات الخطاب في الرواية التي تدخل عن طريق تلك الأجناس المتخلِّلَة في الخطاب الروائي والتي سنحاول رصد جمالياتها كأحد الأشكال الأكثر جوهرية في إدخال وتنظيم التعدد اللغوي في الرواية عبر الصوغ الحواري الداخلي الذي تنتجه الصراعات والمواقف الإيديولوجية للكلمة، بين تلك الشخصيات التي تتداخل مصائرها حتى تشعرك وكأنك أمام كبّة خيط يصعب مسك بداية خيطها من نهايته، لهذا فإن انجاز رواية مغايرة بهذا الشكل الذي أراده الروائي عبد الرزاق بوكبة يقتضي "أن نُدخل إلى كيان (الرواية) جميع أنواع الأجناس التعبيرية، سواء كانت أدبية (قصص، وأشعار، وقصائد، ومقاطع كوميدية) أو خارج - أدبية (دراسات عن السّلوكات، ونصوص بلاغية وعلمية، ودينية، الخ). نظريا، فإن أي جنس تعبيري يمكنه أن يدخل إلى بنية الرواية، وليس من السهل العثور على جنس تعبيري واحد لم يسبق له، في يوم ما، أن أَلْحَقَهُ كاتب أو آخر بالرواية. وتحتفظ تلك الأجناس، عادة، بمرونتها واستقلالها وأصالتها اللسانية والأسلوبية. أكثر من ذلك، فإنه توجد فئة من الأجناس التعبيرية الخاصة التي تلعب دورا بناءً جد هام داخل الروايات، بل إنها، أحيانا، تحدد حتى بنية المجموع خالقة، بذلك، مغايرات للجنس الروائي. تلك الأجناس هي الاعتراف، والمذكرات الخاصة، ومحكي الأسفار، والبيوغرافيا، والرسائل، إلخ". والنكتة كما هو الحال في الكثير من المقاطع التي يتحدث فيها منصف البقلاجي مثل ما نجده في فصل بكاء نكتة وهي طريقة تدخل عبرها روح السخرية في الرواية التي قامت في جانب كبير منها على السخرية، التي تلعب دورا كبيرا في الاستحضار البارودي لمجموع مستويات اللغة المتحدث بها في المجتمع في تلك الفترة من المحنة، وهو استحضار للمحكي بطريقة بارودية" هذه الأسلبة البارودية عادة الخاصة بالأجناس التعبيرية وبالمهن وبطبقات أخرى من اللغة، تكون، أحيانا مفصولة بخطاب مباشر من الكاتب (لا يكون بصفة عامة مؤثرا عاطفيا، أو غزليا)، يترجم فيه مباشرة (ودون انكسار) رؤيته للعالم وأحكامه القيمية "كما أن هذه الأجناس المتخللة تحدد شكل الرواية برُمَّتِها (رواية واقعية، رواية نفسية، رواية رسائل) وكل واحد من تلك الأجناس يملك أشكاله اللفظية والدلالية التي تُمثل مختلف مظاهر الواقع، وهذا ما يجعل الرواية منَضدِّة تنضيدا تراتُبياً، ومعمقة بطريقة جديدة تنوع لغاتها، "ويمكن أن تكون هذه الأجناس المتخلِّلَّة مباشرة قصدية أو مُوضَّعة كلية أي متجردة تماما من نوايا الكاتب". في رواية "ندبه الهلالي" تحضر الأجناس بشكل كثيف متلفظا بها من طرف الشخصيات أو مرويا عنها أحيانا، حضورا يغني الرواية ببعد معرفي وثقافي غني ومتداخل يؤسس لكتابة رواية جامعة. يمكن أن نمثلها كذلك بجنس المراسلات التي أخذت حيزا كبيرا في معظم فصول الرواية من خلال عبارة نجدها تتكرر كثيرا في الرواية وهي عبارة كَتَبَ التي حاول من خلالها الروائي أن يبرز تعددا في التبئير وتعددا في الرواة الذين يستلمون خيط الحكي من أجل أن يُعبروا عن أنفسهم ويميطوا في الوقت نفسه الغموض عن مصائر الشخصيات المتعددة الأخرى والمتداخلة حتى في أسمائها أحيانا مثل ذياب بن منصور الحكواتي، ومنصور بن ذياب السارد في الرواية وليس المخطوطة، الجازية بنت خالة منصور، الجازية بنت سعيد القوسطو... الجازية عباس.. إلخ والتي يتحدث على لسانها في كثير من الأحيان البطل الرئيسي منصور بن ذياب". كتب علي بن ميلود صديقي منصور ابن ذياب: "لا تظن أنني سأكتب لك رواية سأتداعى فقط، كل كلامي منذ عرفت حجلة بات مجرد تداعٍ لا يحكمه خبث الحذر، هل أدركت الآن لماذا أشبه محرز قلب الفرخ؟ ولماذا ألححت عليك في أن تتمم الرواية؟ تكتب الرواية ولا تنتبه؟، الرواية بنت الانتباه يا صديقي النبع". تنفتح رواية ندبة الهلالي بهكذا مراسلات بين الشخوص والبطل الرئيسي منصور بن ذياب، الذي يبحث عن كتابة روايته المستعصية التي بطلها محرز قلب الفرخ، وهي في النهاية رواية داخل رواية يكتبها عبد الرزاق بوكبة على رغم المواراة التي يستعملها من خلال لسان السارد الرئيسي منصور بن ذياب وهي ندبة الهلالي التي يقول عنها بوكبة نفسه في مراسلة أرسلها لكاترين وايز "شُفي الجرح ياكاتي، وبقيت نديته، لذلك سأسمي روايتي الجديدة ندبة الهلالي" أو هي جزءها الآخر محيض الزيتونة الذي سيحكي فيه محزر قلب الفرخ عن مصائر بعض الشخصيات التي تركها منصور بن ذياب معلقة. في تداخل جمالي يحيل فيه عبد الرزاق بوكبة منصور بن ذياب إلى شخصية محورية تتقاطع حولها مصائر الشخصيات، وكأن الروائي الذي اشتغل منذ بداية السرد بتكسير ميثاق الرواية، من خلال إدخال شخصيته كإحدى الشخصيات الورقية، مع التخلص من سلطة الراوي الأوحد الذي يمثل سلطة الكاتب الخارج حكائي المتعارف عليه من خلال سحب الراوي من الحكاية حتى يعيد رسم الحكاية التي نعجز عن حكايتها وهي حكاية الجازية التي هي رمز للجزائر، بكل سيرة محنتها منذ عهد الدّايات إلى ثورة التحرير، ثم إلى زمن المحنة وما بعدها. وهذا ما تحيل عليه المخطوطة التي اطلع عليها منصور بن ذياب، التي ضاعت من الكاتب عبد الرزاق بوكبة الذي صار شخصية ورقية شبه غائبة في المتن لا تظهر إلا عند الضرورة. وكانت الضرورة هي نهاية رواية ندبة الهلالي في زيتونة مرزوق إعلانا عن بداية لرواية أخرى سيرويها محرز قلب الفرخ لعبد الرزاق بوكبة، الذي خاض تجريبا متميزا في هذه الرواية.