تتنازعُ ولاء الجزائري سلطتان هما سلطة القبيلة وسلطة الدولة يشرحّ الباحث بفرع تيارت للمركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ وفى علم الإنسان والتاريخ، الأستاذ المعتز بالله بن غالية، ظاهرة العروشية؛ حيث يرى بأن القبيلة لازالت تحتفظ بسلطة كبيرة في الجزائر. ويثمّن ما قام به، الملك ماسينيسا، من خلال توحيد القبائل وحملها على الاستقرار عن طريق حثها على ممارسة الزراعة، ولا يعتمد حسبه الوصول إلى تسيير شؤون القبيلة على معايير واضحة ولا على آليات ديمقراطية. حاوره: نورالدين برقادي بعد مرور 51 سنة على استرجاع السيادة الوطنية وأكثر من 2000 سنة على تأسيس مملكة نوميديا، كيف هو واقع سلطة القبيلة في الجزائر ؟ في الحقيقة، إن الملاحظ والمتابع للواقع الاجتماعي للجزائر، بإمكانه أن يكتشف حضورا لافتا لتداخل وتعايش بعض الأنماط والنماذج اللامتجانسة، أو بتعبير آخر حضورا لبعض الجدلّيات إن لم نقل المتناقضات في مجالات السياسة، الاقتصاد، الثقافة والمجتمع، فإمكانك أن تلمس استمرارية لما هو تقليدي في الحداثي وكذا القديم في العصري. فعلى الصعيد السوسيو- ثقافي نجد أن هناك تواصلا لبعض الأبنية التّقليدية في مجتمع يسعى لأن يكون معاصرا وحداثياَ، ومن بين هذه البُنى نجد النّظام القبلي الذي لا يزال فاعلا على الساحة الاجتماعية ومحركا للأحداث. وقبل أن ألج للإجابة على هذا السؤال أرى أنه من الضروري أن نحدَّد المصطلحات التي سنستعملها في هذا الحوار، إذ أن عملية تحديد المفاهيم تساعد القارئ أو المتابع على الوقوف معنا على أرضية مشتركة للفهم. فمفهوم القبيلة من المفاهيم المتعسّرة الضبط على الباحث في السوسيولوجيا نظرا لعدم الاتفاق على دلالته ومعناه، بسبب ظهور هذا الأخير في سياق التجربة الغربية لدراسة المجتمعات المحلية، بالإضافة إلى أن المفهوم قد تم تناوله في سياقات عديدة في العلوم الإنسانية والاجتماعية وكثيرا ما يستعمل مصطلح القبيلة للدلالة على مفاهيم كالإثْنيّة أو العرقيّة، أو الطائفة الدينية أو حتى الحزب السياسي، ولعل هذا الأمر الذي أدى إلى تسلّله حتى إلى الخطاب الإعلامي والسياسي للدلالة على أي جماعة منغلقة ومنكفئة على ذاتها سواء كانت دينية أو حرفية أو سياسية. ولعلي أجد في التعريف التالي مرجعا تستند إليه بقية الإجابات، ف «القبيلة من بين أقدم صور النظام الاجتماعي الدائم الذي عرفته الإنسانية، يقوم على أساس القرابة بالدم أو المصاهرة، وأساطير الجد المشترك بين أفرادها وعادة ما يكون هذا الجد المشترك وليا صالحا وتصبح زيارة ضريحه من المواسم الدينية للقبيلة وهو الأمر الذي يعزز الروابط بين أبنائها، وتقطن القبيلة عادة إقليما مشتركا، ويكتنفها شعور قوي بالتضامن والوحدة يستند إلى مجموعة من العواطف، كما يتحدث أفرادها لهجة تميزهم عن غيرهم من القبائل والمجموعات، وتتشكل في المتوسط من 3 إلى 12 فرقة (fractions)». أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال أو المفهوم الثاني الذي يجب توضيحه هو الدولة، فهذه الأخيرة كما نفهمها اليوم أو كما اصطلح عليها علماء السياسة والاجتماع تعتبر أرقى التنظيمات السياسية، الاجتماعية والاقتصادية التي توصّل لها البشر لتنظيم حياتهم الجماعية. وبالرجوع لبداية كلامي من هنا يتبين لنا أن الفرد في بعض المناطق في الجزائر كمنطقة الأوراس تتنازعُ ولاءه سلطتان وهما سلطة القبيلة وسلطة الدولة، وفي هذا المقام أود القول أنّه مع الفترة الأولى للاستقلال وجدت الدولة القَطرية نفسها – ليس فقط في الجزائر- في بداية نشأتها في حالة مواجهة مع القبائل كهياكل اجتماعية وكثقافة وانتماء، فاعتبرت القبيلة عنصر إقلاق وعدم استقرار بل عنصر خطر وانشقاق، يمنع سيادة الدولة من التحقق على كل الأفراد، ويمنع تحقق سيطرتها كقوة غالبة قاهرة على جميع القوى. كما وجدت الدولة في بداية نشأتها أن الانتماءات القَبَليّة تمنع تطور الهوية القطرية (القومية) الوليدة القائمة على أساس المواطنة والحياة المدنية، وليس فقط كعقبة أمام سيطرة النظام والقانون، وأمام قيام حكومة مركزية. وبسبب هذه الرؤية، اعتبر الصدام بين الدولة والقبيلة أمراً حتمياً، كما اعتبر التعايش معها دليلاً على ضعف الدولة، لهذا عملت الدولة الجزائرية على أن تفكك مرتكزات المجتمع التقليدي، وأن تقيم مجتمعا عصريا عبر تشييد القرى الاشتراكية وتوطين الساكنة غير المستقرة أو المعزولة، وغيرها من السياسات التي تهدف إلى بناء مجتمع متجانس وعصري. لكن لا يمكن للباحث الموضوعي أن يقر بأننا وصلنا لهذه النتائج، فالدولة الوطنية مازالت تُنازع سلطتها وولاء مواطنيها لحساب القَبيلة في بعض المناطق ذات التقاليد القبلية، ومن هنا يمكن أن نقر بحقيقة أن القبيلة لازالت تحتفظ بسلطة كبيرة فتحليلنا لعديد الأحداث التي تجري في الساحة السياسية الاقتصادية والاجتماعية نجد أن النظام القبلي يقف وراءها كمحرك فاعل ونشيط. هل يختلف تأثير القبيلة في السياسة، بين مختلف جهات الوطن (شرق، غرب، شمال وجنوب) ؟ لعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا أن الجزائر تمنح مشهدا سيوسيو- ثقافيا شديد التعقيد، فقبل أن نعطي إجابات جاهزة أو تعميمات حول الواقع الاجتماعي الجزائري لابد لنا من نظرة فاحصة على هذا المشهد السوسيو-ثقافي. فالقبيلة حددت تاريخ الجزائر وارتسمت على جغرافيتها، فمنذ تأسيس المملكة الأمازيغية لنوميديا كان من أهم أهداف «الأغليد» ماسينيسا هو توحيد القبائل وحملها على الاستقرار عن طريق حثها على ممارسة الزراعة، ومن هذا تتبين لنا عبقرية هذا الملك الذي تنبه منذ عشرات القرون إلى أهمية الاستقرار والتمدن في بناء الدولة وانضواء القبائل تحت لوائها، وإذا رجعنا لأدبيات ابن خلدون وأعماله الرائدة في دراسة النظام القبلي نجده يربط بين هذا النظام أو المفهوم الذي صاغه وهو مفهوم العصبية، فنجده يربط بين هذا الأخير ومفهوم البداوة، والبداوة حسب رأيه تستند إلى نظام اقتصادي يعتمد على الرعي وتربية الحيوان، إلا أن الاختفاء النسبي لهذا النشاط لا يؤدي بالضرورة للاختفاء الفوري للبناء الثقافي للبداوة وكذا للنظام القبلي. وفي الجزائر يمكن أن نقر أن هناك مناطق ذات تقاليد بدوية أكثر من مناطق أخرى لها في المقابل تقاليد في الاستقرار والتّمدّن وكذا مزاولة نشاطات اقتصادية أخرى. فمع الاستقلال ظهرت العديد من المدن وبدأت الساكنة في الاستقرار التدريجي وتغيير أنشطتها الاقتصادية لتتلاءم مع حياتها الجديدة، إلا أن التخلص التام من ثقافتها السابقة أمر لا يحدث بسرعة وفي هذا المقام يمكن أن أحيلك لأحد المفاهيم التي نحتها أو صاغها عالم الاجتماع العراقي علي الوردي وهو مفهوم التناشز الاجتماعي ونقصد به التناقض الاجتماعي بين العاملين المادي والمعنوي أو بين البُنية التّحتيّة والبنية الفوقيّة في المجتمع، تناقض من حيث طبيعة المسار والأسلوب والهدف، وبالعامل المادي نعني الظروف والمعطيات والتحولات المادية والاقتصادية وطرق استثمارها، والمهنة التي يمارسها الأفراد وطراز الحياة وأساليب المعيشة، أما العامل الروحي أو المعنوي ونعني به الأخلاق والقيم والمثل التي يتمسكون بها وعاداتهم وتقاليدهم وأديانهم وفلسفاتهم، فغالبا ما يحدث التناشز بين العامل المادي والروحي، لاسيما عندما يتحول المجتمع من نمط معيشي إلى نمط آخر. فعندما يتحول المجتمع حضاريا نلاحظ أن سرعة تقدم العامل المادي تكون أكبر وأكثر زخما من سرعة تقدم العامل الروحي، وذلك أن الإنسان يتقبل بسهولة تحول المظاهر الاقتصادية في مجتمعه، لكنه يجد صعوبة في تقبل المظاهر القيمية والأخلاقية إلا بعد فترة طويلة يتخللها جهد مضني في التربية والإرشاد والتوجيه وإعادة عملية التنشئة الاجتماعية. لذلك يمكن أن نقول بأن سلطة النظام القبلي تختلف من منطقة لأخرى في الجزائر بالنظر لتقبل الأفراد في مختلف المناطق للتغير الذي طرأ على حياتهم وكذا مواءمتهم لثقافتهم مع بيئتهم الجديدة، وهذه العملية أيضا مرتبطة ارتباطا شديدا مع درجة البداوة الأصلية للساكنة، فكلما كانت هذه الأخيرة أظعن في البداوة كلما كان التناشز الاجتماعي أوضح وأطول. ومن هنا فإننا نرى بسهولة أن المناطق التي لها ماض عريق في التمدن والاستقرار نجد أن تأثير القبيلة فيها لا نكاد نعثر له على أثر واضح، عكس المناطق التي عرفت نظام البداوة والظعن نجده أن تأثير القبيلة لازال واضحا. النظام القبلي يعرقل أي تعددية حزبية أو نقابية أدى استخدام القبيلة في السياسة خاصة الانتخابات إلى تفكّكها إلى فرق، هل هي العودة إلى مرحلة ما قبل ظهور القبيلة ؟ إن الدارس للنظام القبلي في الجزائر يقف على حقيقة إجماع جل المدارس والمقاربات النظرية لهذا الموضوع حول مفهوم الطبيعة الانقسامية segmentaire لهذا النظام، فمنذ ابن خلدون ثم الأنثروبولوجيا الكولولونيالية والمدرسة الانقسامية وحتى الماركسية تركز على هذه الطبيعة في النظام القبلي، فالعلاقات الاجتماعية في الكيان القبلي خاضعة لوضعيتين تنتقل من الانشطار في مرحلتها الأولى عندما تنحصر هذه العلاقات بين الفاعلين الاجتماعيين في وسط الكيان الواحد لمجتمعهم القبلي، لتنتقل في مرحلة ثانية لتنصهر عندما يكون هناك إحساس بتهديد لمصالح القبيلة، وهو ما يدل عليه المثل القائل: « أنا ضد أخي، أنا وأخي ضد ابن عمي، أنا وأخي وابن عمي ضد الغريب''. هذا ما يؤدي لمشكلة في عملية الانتماء الاجتماعي للفرد داخل المنظومة القبلية. وهذا المفهوم أي الانقسامية مرتبط بمفهوم (الآخر)، أي الأنا والنّحن بمواجهة الآخر وقد تتراوح المسافة بين هذين المفهومين كما يوضحه المثل السابق (الأنا والآخر) بين العدو الأجنبي إلى الأخ والفاصل هنا أو المحدّد هو من يهدد مصلحتي (أنا). فالفرد في القبيلة يجب عليه أن يتعلم من جديد كيف يقول «نحن»! تماماً كما يستطيع أن يقول «أنا» فعندما أنتمي إلى نفسي، يجب أن نكون قادرين على قول «نحن» ونحن ندرك انتماءنا المشترك. وبالرجوع للتعريف الأول الذي حددناه للقبيلة نجد أنّها تتكون من فرق fractions، وما إن تتعارض المصالح بين الفرق حتى تجد الناس ينكفئون أو ينكصون إلى الأُولُى، فالأُولُى من انتماءاتهم، وهذه الّلعبة يجيدها الفاعلون في مجال السياسة، خاصة في منطقة الأوراس، فقد لاحظنا هذا الأمر في العديد من الاستحقاقات والانتخابات، فما إن يكون هناك أكثر من مترشح من نفس القبيلة حتى تنقسم هذه الأخيرة عن نفسها لعدة فرق، وبالرجوع مرة أخرى للعالم علي الوردي ونظريته في المد البدوي والجزر الحضري، فنجده يؤكد على أن أهم فرق بين البداوة والحضارة هو السلطة الحكومية، فهذه الأخيرة حسب رأيه محور الحضارة وركيزتها، فكلما ضعفت سلطة الدولة أو السلطة نكص الناس لانتماءاتهم البدائّية (ما قبل الدولة وحتى ما قبل القبيلة) . النظام القبلي يعرقل أي تعددية حزبية أو نقابية تسّير القبيلة جماعيا من طرف ما يعرف بالأعيان، كيف يتم الوصول إلى مرتبة الحل والربط في القبيلة ؟ يمكن القول أن طبقة الأعيان في المجتمع القبلي، هي الطبقة المنوط بها تسيير شؤون الجماعة أو ما يصطلح عليه بعملية الحل والعقد في شؤون القبيلة، ولا يمكن أن نتصوّر أن الوصول لهذه الطبقة في نظام تقليدي يتم عن طريق معايير وآليات ديمقراطية كما نفهما اليوم، بل هذا الأمر يتم على أساس جدّ تقليدي، فالنّظام القبلي كما هو معروف من بين الأنظمة الاجتماعية العقيمة بسبب محاربته للمبادرة الفردية وميله للمساواة بين أفراده ورفضه لتميز أحد الأفراد عن بقية أقرانه داخل النظام ويقوم أيضا على توقير وتبجيل الشيوخ والعجائز ذلك لأن هؤلاء هم حرّاس المعبد، فهم يمتلكون المعرفة بسبب صقلهم بتجارب الحياة، وأيضا يحافظون على الذاكرة الجمعية ويسهرون على حفظ التقاليد، وانطلاقا من هذا المبدأ، فإن العجائز أو الشيوخ هم من يتولّى هذه المهمة بالإضافة إلى الأغنياء الذين تخولهم ثروتهم من المساهمة في دفع الدّيّات والفصل في النزاعات، وفي هذا الصدد أريد أن أوضح مسألة للقارئ الذي قد يحس في الوهلة الأولى تحاملا مني على النظام القبلي، أننا لابدّ لنا من ذكر الإيجابيات والسلبيات، فالانتقاد بهدف الهدم أمر سهل، ولكن التفكير من أجل البناء أمر صعب المنال، ولعلّ من أهم النقاط التي يتغافل عنها الباحثون في النّظم السياسية التقليدية أن هناك جذورا للثقافة المدنية والديمقراطية كان المجتمع الأمازيغي سباقا لاكتشافها، ففي القبيلة الأمازيغية نلاحظ أنّ هناك فصلا بين السلطة الدّينية والسّلطة السيّاسية في النّظام القبلي إذ أن رجال الدين عادة لا يمثلون رأيا أكبر من رأي الآخرين نظرا لمرجعيتهم الدّينية، فقرارات مجالس القبيلة أو «تاجماعت» تؤخذ على أساس المصلحة الدنيوية لا على أساس ديني مقدّس وهنا يتوضح لنا أن المجتمع الأمازيغي كان سبّاقا في الوصول لأنظمة جد راقية في تسيير شؤونه وهذه الأنظمة لها نفس روح الأنظمة الحديثة. منطقة ميزاب (غرداية) تسيّر من طرف «مجلس العزابة»، ومنطقة القبائل تشرف عليها ما يعرف ب «تاجماعت»، كيف تفسّر صمود هذين النظامين عبر الزمن ومقاومتهما لمختلف الأنظمة السائدة، وطنية كانت أو استعمارية ؟ بالنسبة لمنطقة القبائل ومنطقة ميزاب تعتبران من بين المناطق النّادرة في الجزائر التي استطاعت أن توفّق بين أنظمتها الاجتماعية التّقليدية وبين الأنظمة الحديثة، وهذا الأمر أشار له العديد من الباحثين في الفترة الكولونيالية من أمثالhanouteau ، يمكن أن نرجع سبب صمود «تاجماعت» و»مجلس العزّابة» إلى أن هذين المجتمعين لهما تقاليد راسخة في التحضّر والتمدّن، فقد عرفا نظام الدّولة المركزية منذ عدة قرون، وهذا الأمر الذي أدى إلى رسوخ ثقافة مدنية بسبب الاستقرار وكذا ممارسة نشاطين اقتصاديين (زراعة الأشجار والتجارة) يتطلبان - بالمصطلح الدوركهايمي- تقسيما للعمل أكثر تعقيدا ودقّة، ومن المعروف أن تعقد الحياة الاجتماعية يؤدي إلى تنظيم أكثر بل إنه يؤدي إلى الحفاظ على الثقافة واللغة كأحد أجزائها والملاحظة أن اللغة الأمازيغية تنتعش في المناطق التي ساكنتها مستقرة منذ زمن طويل الأمر الذي يساعد على تبلور هوية متميزة ووعي قوي بالخصوصية. وفي المقابل نجد Masqueray يشير إلى الفرق بين طبيعة المجلس في منطقة القبائل ومنطقة الأوراس؛ حيث يشير إلى أن «تاجماعت» في الأوراس لا تتمتع بنفس النّجاعة ونفس الصلاحيات كنظيرتها في منطقة القبائل بسبب أن المجتمع الأوراسي كان يزاول حياة نصف بدوية لذا فالاجتماعات الدورية لهذا المجلس تعقد لمرات أقل بكثير من المجتمع القبائلي بسبب استقراره. بحثت في رسالة الماجستير في نظام القبيلة في الأوراس، ويتميز هذا النظام بالثنائية القطبية، ففي باتنة الصراع «شليحي / جبايلي» وفي خنشلة «لموشي / عماري'' وفي أم البواقي ‘'سقني / حركاتي»، هل للسلطة علاقة بهذا الصراع؟ إن البحث في علاقة السلطة باستمرار الانقسامية داخل المجتمع الأوراسي يقودنا للحديث عن مسؤوليتها في استمرار الصراعات داخل المجتمع الأوراسي، وهي بطبيعة الحال تتحمّل جانبا كبيرا من المسؤولية، فعلى الرغم أن الدولة الوطنية ورثت إرثا ثقيلا من الفترة الاستعمارية، فالنظام الكولونيالي عمل على تخريب الأنظمة الاجتماعية الجزائرية عن طريق تفكيك واسع لنسيج المجتمع الجزائري وأنظمته، خاصة النظام القبلي حيث سعت السلطات الاستعمارية إلى تقسيم الملكيات القبلية والعائلية كوسيلة لإضعاف القبائل المتمردة، وثانيا كسبيل وحيد لنقل ملكية الأراضي في وقت لاحق من أيدي «الأهالي» إلى أيدي المُعمّرين الأوروبيين، هذا بالإضافة إلى عملية التهجير التي تعرضت لها عدة قبائل بسبب مقاومتها للاستعمار وقطع ارتباطها بمواطنها وأراضيها وتعويض أنظمتها التي سادت لقرون بأنظمة بديلة لا تتلاءم مع روح ومقومات المجتمع الجزائري. فعلى الرغم من هذا الإرث الكارثي إلا أن السلطة القائمة لم ترسم خارطة طريق للخروج من هذا الوضع، فقد رفعت شعارات الحداثة والعصرنة لكن في مقابل هذه الشعارات لم تكن معها إرادة جادّة وأرضية علمية من أجل تطبيق هذه الشعارات. تطبيق يستدعي إعادة نظر في عملية التنشئة الاجتماعية وجميع المؤسسات المساهمة فيها، خاصة عن طريق النظام التّعليمي الذي يجب أن يستهدف إنتاج المواطن الحر المستقل الفاعل الذي ينتج في محصّلته مع بقية المواطنين المجتمع المدني الحر المفكّر، مواطن له ولاء لدولته على أساس الحقوق والواجبات لا على أساس شعارات جوفاء، بالإضافة إلى ترسيخ العدالة الاجتماعية ودولة القانون وأن الفرد بإمكانه الوصول لغاياته عن طريق كفاءاته الشخصية لا على أسس أخرى. الواقع الاجتماعي الجزائري يتميز بتعايش انماط غير متجانسة متى تتوسع سلطة القبيلة ومتى تنحصر؟ سلطة القبيلة تخضع للمدّ والجزر، فكلما انحصرت سلطة الدولة كبرت سلطة القبيلة والعكس صحيح، فهذا النظام كما أشرنا يمنع سيادة الدولة من التحقق على كل الأفراد، ويمكن أن نذكر هنا بقول برهان غليون : «أن الشعوب المسلمة عاشت منذ الفتح الإسلامي في إطار إمبراطورية أو سلطة كبرى تضم شعوبا متعددة يربط بينها الولاء للإسلام أكثر من الولاء للدولة»، ويضيف بعد أن يفسّر عدم قدرة الدولة على فرض استقطاب الجماهير حولها: «في حين أن الانتماء إلى الجماعة المحلية أو العائلية أو الطائفية هو التعويض الرئيسي عن سطحية التماهي مع الدولة وعموميتها». ومن هنا يمكن القول أن سلطة القبيلة تتغوّل كلما أحست ضعفا من جانب الدولة في إشباع الجوع الاجتماعي لمواطنيها في عملية الانتماء، وصار من الواضح أيضا أن الفرد في النظام القبلي لا يشبع جوعه الاجتماعي في قضية الجوار والسكن إلا في إطار القرابة والرابطة الدموية، فهو يفضل دائما مجاورة أقاربه، ولأبناء عشيرته وقبيلته، لذا يجد صعوبة كبيرة أثناء عملية تغيير السكن بالهجرة للمدينة، وما الأحياء القصديرية في المدن الجزائرية إلا دليل على ذلك إذ وجدنا أنه مع عملية النزوح الريفي والذي تزايدت وتيرته مع العشرية السوداء أو الأزمة الأمنية، وجدنا أحياء سكنية - غالبا ما تكون فوضوية – جل ساكنيها من أبناء نفس العرش ونفس العائلة. القبيلة حاضرة بقوة في بعض جامعاتنا من خلال التوظيف والنجاح في مسابقات الماجستير وبعض الأساتذة يشكّلون تكتلات على أسس قبلية، كيف ننتظر العلاج إذا أصيب الطبيب بالمرض ؟ الجامعة كمؤسسة من بين عديد المؤسسات داخل الدولة التي لم تكن بمنأى عن التّناقضات الصارخة بين الشعار والمضمون، فالشعارات المرفوعة هي الكفاءة والأولوية لصاحب الخبرة، لكن في المقابل نجد المحسوبية والمفاضلة على أساس القرابة والمعارف الشّخصية، إلا أنّ التماس الدواء من الطّبيب المريض يعتبر ضربا من ضروب الجنون، فالجامعة لا توجد خارج النسيج الاجتماعي لحقبة ما، بل هي في داخله، مثلها مثل المؤسسات الإنسانية الأخرى كالمؤسسة الدينية أو الحكومات أو المنظمات الخيرية. وما الجامعة إلا تعبير عن العصر وعامل مؤثر في الحاضر والمستقبل. هكذا عرفها أبراهام فليكسنر Abraham Flexner، وبالرجوع للجزائر فإن الجامعة موجودة ضمن نسيج اجتماعي مازال يبني علاقاته على أساس القرابة الدموية أو العصبية القبلية التي يعرفها ابن خلدون بقوله أن «بنعرة كل أحد على نسبه وعصبيته...وما جعل الله في قلوب عباده من الشّفعة والنّعرة على ذوي أرحامهم وقرباهم موجودة في أتباع البشرية، وبها يكون التعاضد والتناصر» وهذه النظرة لابد أن تختفي كلما تدرّجت المجتمعات في سلم الحضارة الإنسانية وتطورت مداركها وفلسفاتها، فتضمحل هذه النظرة تدريجيا فاسحة المجال لاعتبارات الكفاءة والمفاضلة على أساس المردودية، وهذا من صلب واجب الجامعة أن تصل بالمجتمع لهذه الدرجة من التحضر، لكننا نأسف لوضعيتها في بعض المناطق لأنها تخلت عن وظيفتها كقاطرة للمجتمع وكمركز إشعاع علمي وحضاري. لما ظهرت التعددية السياسية والنقابية في الجزائر، كيف تعاملت معهما القبيلة ؟ في الحقيقة يشير مفهوم التعددية السياسية إلى مشروعية تعدد القوى والآراء السياسية، وحقها في التعايش، والتعبير عن نفسها والمشاركة في التأثير على القرار السياسي في مجتمعها، والتعددية السياسية بهذا المعنى، هي إقرار واعتراف بوجود التنوع في القيم والممارسات والمؤسسات في الدولة والمجتمع. وفي المقابل القرابة الضيقة لا تزال مسيطرة على العلاقات الاجتماعية في هذه المنطقة على غرار مناطق الجزائر، إن الإنسان لا يستطيع العيش خارج الجماعة أو الخروج على تعاليمها، إنه مقيد بهذه التعاليم، وأي خروج عنها يؤدي به إلى الإقصاء والتهميش. ففي المجتمع القروي يملي على أعضائه تصرفا خاصا. فقد صورت عدة دراسات لعدد من الباحثين الأجانب، الإنسان الجزائري على أنه قاصر في اتخاذ القرارات، و ليست لديه روح المبادرة داخل هذه المجتمعات المتصلبة والمنغلقة على نفسها...فالزيجات كانت كلها داخلية "endogamiques " داخل الجماعة، مما يدعم روح التكافل القرابي داخل هذه الجماعات. ولذا فإن العمل على تغيير هذه الذهنيات والعمل على إنتاج المواطن الفعّال المبادر الذي لا يذوب في الجماعة وتقاليدها هو أولى الأولويات، ووحدها هذه التنشئة تساعد الساحة السياسية على الانتعاش والعمل الديمقراطي. فالنظام القبلي كبناء ثقافي يشكل حجر عثرة في وجه أي تعددية حزبية أو نقابية بالمعنى الحقيقي، لأن الفرد يكون ولائه لأبناء القبيلة لا لبرنامج أو إيديولوجيا أو فكر معين. إلى أيدي المُعمّرين الأوروبيين، هذا بالإضافة إلى عملية التهجير التي تعرضت لها عدة قبائل بسبب مقاومتها للاستعمار وقطع ارتباطها بمواطنها وأراضيها وتعويض أنظمتها التي سادت لقرون بأنظمة بديلة لا تتلاءم مع روح ومقومات المجتمع الجزائري. فعلى الرغم من هذا الإرث الكارثي إلا أن السلطة القائمة لم ترسم خارطة طريق للخروج من هذا الوضع، فقد رفعت شعارات الحداثة والعصرنة لكن في مقابل هذه الشعارات لم تكن معها إرادة جادّة وأرضية علمية من أجل تطبيق هذه الشعارات. تطبيق يستدعي إعادة نظر في عملية التنشئة الاجتماعية وجميع المؤسسات المساهمة فيها، خاصة عن طريق النظام التّعليمي الذي يجب أن يستهدف إنتاج المواطن الحر المستقل الفاعل الذي ينتج في محصّلته مع بقية المواطنين المجتمع المدني الحر المفكّر، مواطن له ولاء لدولته على أساس الحقوق والواجبات لا على أساس شعارات جوفاء، بالإضافة إلى ترسيخ العدالة الاجتماعية ودولة القانون وأن الفرد بإمكانه الوصول لغاياته عن طريق كفاءاته الشخصية لا على أسس أخرى. متى تتوسع سلطة القبيلة ومتى تنحصر؟ سلطة القبيلة تخضع للمدّ والجزر، فكلما انحصرت سلطة الدولة كبرت سلطة القبيلة والعكس صحيح، فهذا النظام كما أشرنا يمنع سيادة الدولة من التحقق على كل الأفراد، ويمكن أن نذكر هنا بقول برهان غليون : «أن الشعوب المسلمة عاشت منذ الفتح الإسلامي في إطار إمبراطورية أو سلطة كبرى تضم شعوبا متعددة يربط بينها الولاء للإسلام أكثر من الولاء للدولة»، ويضيف بعد أن يفسّر عدم قدرة الدولة على فرض استقطاب الجماهير حولها: «في حين أن الانتماء إلى الجماعة المحلية أو العائلية أو الطائفية هو التعويض الرئيسي عن سطحية التماهي مع الدولة وعموميتها». ومن هنا يمكن القول أن سلطة القبيلة تتغوّل كلما أحست ضعفا من جانب الدولة في إشباع الجوع الاجتماعي لمواطنيها في عملية الانتماء، وصار من الواضح أيضا أن الفرد في النظام القبلي لا يشبع جوعه الاجتماعي في قضية الجوار والسكن إلا في إطار القرابة والرابطة الدموية، فهو يفضل دائما مجاورة أقاربه، ولأبناء عشيرته وقبيلته، لذا يجد صعوبة كبيرة أثناء عملية تغيير السكن بالهجرة للمدينة، وما الأحياء القصديرية في المدن الجزائرية إلا دليل على ذلك إذ وجدنا أنه مع عملية النزوح الريفي والذي تزايدت وتيرته مع العشرية السوداء أو الأزمة الأمنية، وجدنا أحياء سكنية - غالبا ما تكون فوضوية – جل ساكنيها من أبناء نفس العرش ونفس العائلة. القبيلة حاضرة بقوة في بعض جامعاتنا من خلال التوظيف والنجاح في مسابقات الماجستير وبعض الأساتذة يشكّلون تكتلات على أسس قبلية، كيف ننتظر العلاج إذا أصيب الطبيب بالمرض ؟ الجامعة كمؤسسة من بين عديد المؤسسات داخل الدولة التي لم تكن بمنأى عن التّناقضات الصارخة بين الشعار والمضمون، فالشعارات المرفوعة هي الكفاءة والأولوية لصاحب الخبرة، لكن في المقابل نجد المحسوبية والمفاضلة على أساس القرابة والمعارف الشّخصية، إلا أنّ التماس الدواء من الطّبيب المريض يعتبر ضربا من ضروب الجنون، فالجامعة لا توجد خارج النسيج الاجتماعي لحقبة ما، بل هي في داخله، مثلها مثل المؤسسات الإنسانية الأخرى كالمؤسسة الدينية أو الحكومات أو المنظمات الخيرية. وما الجامعة إلا تعبير عن العصر وعامل مؤثر في الحاضر والمستقبل. هكذا عرفها أبراهام فليكسنر Abraham Flexner، وبالرجوع للجزائر فإن الجامعة موجودة ضمن نسيج اجتماعي مازال يبني علاقاته على أساس القرابة الدموية أو العصبية القبلية التي يعرفها ابن خلدون بقوله أن «بنعرة كل أحد على نسبه وعصبيته...وما جعل الله في قلوب عباده من الشّفعة والنّعرة على ذوي أرحامهم وقرباهم موجودة في أتباع البشرية، وبها يكون التعاضد والتناصر» وهذه النظرة لابد أن تختفي كلما تدرّجت المجتمعات في سلم الحضارة الإنسانية وتطورت مداركها وفلسفاتها، فتضمحل هذه النظرة تدريجيا فاسحة المجال لاعتبارات الكفاءة والمفاضلة على أساس المردودية، وهذا من صلب واجب الجامعة أن تصل بالمجتمع لهذه الدرجة من التحضر، لكننا نأسف لوضعيتها في بعض المناطق لأنها تخلت عن وظيفتها كقاطرة للمجتمع وكمركز إشعاع علمي وحضاري. لما ظهرت التعددية السياسية والنقابية في الجزائر، كيف تعاملت معهما القبيلة ؟ في الحقيقة يشير مفهوم التعددية السياسية إلى مشروعية تعدد القوى والآراء السياسية، وحقها في التعايش، والتعبير عن نفسها والمشاركة في التأثير على القرار السياسي في مجتمعها، والتعددية السياسية بهذا المعنى، هي إقرار واعتراف بوجود التنوع في القيم والممارسات والمؤسسات في الدولة والمجتمع. وفي المقابل القرابة الضيقة لا تزال مسيطرة على العلاقات الاجتماعية في هذه المنطقة على غرار مناطق الجزائر، إن الإنسان لا يستطيع العيش خارج الجماعة أو الخروج على تعاليمها، إنه مقيد بهذه التعاليم، وأي خروج عنها يؤدي به إلى الإقصاء والتهميش. ففي المجتمع القروي يملي على أعضائه تصرفا خاصا. فقد صورت عدة دراسات لعدد من الباحثين الأجانب، الإنسان الجزائري على أنه قاصر في اتخاذ القرارات، و ليست لديه روح المبادرة داخل هذه المجتمعات المتصلبة والمنغلقة على نفسها...فالزيجات كانت كلها داخلية "endogamiques " داخل الجماعة، مما يدعم روح التكافل القرابي داخل هذه الجماعات. ولذا فإن العمل على تغيير هذه الذهنيات والعمل على إنتاج المواطن الفعّال المبادر الذي لا يذوب في الجماعة وتقاليدها هو أولى الأولويات، ووحدها هذه التنشئة تساعد الساحة السياسية على الانتعاش والعمل الديمقراطي. فالنظام القبلي كبناء ثقافي يشكل حجر عثرة في وجه أي تعددية حزبية أو نقابية بالمعنى الحقيقي، لأن الفرد يكون ولائه لأبناء القبيلة لا لبرنامج أو إيديولوجيا أو فكر معين.