الرواية الجزائرية تاهت في الشعرية و الذاتية بعد الأدلجة في هذا الحوار، يتحدث الكاتب سعيد خطيبي عن عمله الروائي الأول "كتاب الخطايا"، الذي صدر شهر أكتوبر 2013 عن المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار (ANEP). خطيبي الذي بدأ شاعرا، عرج في خطوة جديدة إلى فن السرد، إذ خاض مغامرة الكتابة الروائية لأول مرة في مسار تجربته الأدبية الموزعة والمتنوعة بين الشعر والتوثيق والترجمة. رواية خطيبي الأولى لاقت ترحيبا لافتا من خلال قراءات ومقالات عديدة احتفت ب "كتاب الخطايا"، في الصحافة الجزائرية والعربية على حد سواء. "كتاب الخطايا"، رواية عن الراهن وتناقضات المجتمع والتباساته ومفارقاته وإحباطات أفراده، عن الهويات المختلطة وضرورة التشارك فيما بينها، وعن إرباكات وصراعات الذات، والعلاقات الملتبسة بين الرجل والمرأة، وأخرى غير سوية في سياقات أحداث الرواية، وعن الكتابة والأدب، وأيضا عن طابوهات كثيرة طرقها وقاربها الكاتب بكل جرأة ووضوح. كان هذا الحوار. حاورته/ نوّارة لحرش في "كتاب الخطايا" اعتمدت تقنية الرواية داخل الرواية، والحكاية داخل الحكاية، لماذا لجأت إلى هذه التقنية في روايتك الأولى؟ سعيد خطيبي: هي ليست تقنية جديدة، نجدها بكثرة خصوصا في الرواية الفرنسية (عند ناتالي ساروت مثلا)، وفي بعض الروايات الجزائرية (مالك حداد). وهي تقنية فرضت نفسها، ورأيت أنها الأنسب لشكل النص السردي في رواية "كتاب الخطايا". كان يمكن أن تتخذ الرواية أو اتخاذ مواقف شكلا آخر، وأن أعتمد تقنية أخرى، لكني آثرت الخيار السابق. بعض الروايات المعربة تحولت إلى تعليق على قضايا رواية تنتقد الصمت الذي يلف المجتمع وهو صمت يكاد يكون تيمة حياة ويوميات وكأن في هذا الصمت نجاة الفرد بالأساس، ومن جهة، الرواية تقدم مضادا لهذا الصمت وهو الحكي وهتك المستور والمحجوب من خلال السرد، ما رأيك؟ سعيد خطيبي: أفضل تعبير الكبت عن الصمت. كبت مكتسب ينمو ويكبر مع تزايد مساحة الخوف، التي تعتبر عنصرا أساسيا في التنشئة الاجتماعية في الجزائر، وعنصرا ثابتا في نفسية الفرد. خوف من النظر إلى ذواتنا وخوف من التعبير عما يعجبنا وما لا يعجبنا. خوف من نقد الآخر، خوف من محاورة الآخر، خوف من المقدس، خوف من الماضي، خوف من القادم، وخوف من التجريب أيضا. الكبت هي صفة مكتسبة وليست وراثية تعشش بشكل واسع في يومياتنا، تتفرع عنها صفات أخرى مثل الصمت والخجل (المرضي) والتعصب، وهي المحرك الأساسي لغالبية المشاعر النفسية السلبية التي تسكن الفرد. والحكي ليس بالضرورة مضادا للكبت، ولا علاجا منه، بل فقط هروبا لحظيًا من الحقيقة، تخفيًا من الواقع، مع أنه يمكن أن يصير محررا، شريطة أن يتصف بالمسؤولية، ويتجاوز الرقابة الذاتية. رواية طارحة للأسئلة، إنها تدين العالم وتدين المجتمع بالأسئلة، الأسئلة التي لا تهدأ ولا توارب ولا تخجل، كأنها جاءت للثأر بالأسئلة من صمت مغلق ومنغلق على الكثير من الأمور والقضايا؟ سعيد خطيبي: وظيفة الكاتب هي طرح السؤال، والبحث، قدر المستطاع، عن مقترحات إجابة له، وليس إجابات مطلقة. الإجابة عن الأسئلة المجتمعاتية الأساسية هي قضية مشتركة، تخص شرائح المجتمع المختلفة، والكاتب لا يتبنى سوى دور المحرض على التفكير فيها، ومحاولة تفكيكها والخوض فيها، ثم إيجاد حلول لها. أحيانا يبدو السؤال أهم من الإجابة، وطرح الأسئلة الحقيقية، في سياقاتها الموضوعية، هي عتبة أولية للخروج من الكبت الجماعي، كما ذكرنا سلفا. الراويّة و الساردة و البطلة هي "كهينة" المتعددة في سياقات المعاناة والحياة المطعونة بالتهميش الذي يصل حد التأثيم. هل يمكن القول أن كهينة هي فقط صورة مصغرة من ألبوم زاخر بعينات مثلها وأكثر في مجتمع منغلق على ذاته وهويته والمفتوح على مآسيه وعذاباته؟ سعيد خطيبي: كهينة هي نسخة مصغرة من مجتمع جزائري معاصر سادي ومازوشي في آن. هي عينة من جيل كامل من نساء جزائريات، ولدن بين فترتي ما بعد الاستقلال وما قبل 5 أكتوبر 1988، تحت سطوة الذكورية، والنظرة الدونية للمرأة، مع الربط غالبا بينها وبين المُحرم بمعناه المطلق، الممنوع، ووضعها غالبا في خانة: الحشمة. كما لو أن المرأة ليست سوى صورة عاكسة للعار، خصوصا لما تكون في سن الشباب وغير متزوجة. و لكن، منذ لحظة ارتباطها شرعا بزوج، ستستعيد شيئا من هويتها الضائعة، والتي ستكتمل في حال وصولها مرتبة الأم، وكل شيء سيعود إلى نقطة الصفر في حال ما صارت مطلقة. هكذا إذا فإن المرأة تتدرج في المراتب الاجتماعية بحسب فقط تدرج علاقتها بالرجل. كهينة، مثل شابات أخريات في مثل سنها، غير قادرة على التخلص من الكليشيهات التي فُرضت عليها، وتُصر، في الوقت نفسه، على هدم المحرمات الذاتية المبتذلة، التي ابتكرها المجتمع وفرض عليها العيش فيها، رغبة منه في مواصلة إلغاء المرأة عموما من المشاركة في القضايا السياسية والاجتماعية الكبرى. رواية تغوص في المجتمع الجزائري وتستظهر تناقضاته وتفاصيله وتحولاته المربكة على صعيد الفرد، الفرد الضحية، الناقم، الممزق، الحالم والمحلوم به، لكن هذا الفرد الأكثر تأذيا هو "المرأة، الأنثى" ككيان وكجسد، ما رأيك؟ سعيد خطيبي: المرأة هي ضحية التصورات التي صنعها المجتمع عنها. هي ضحية الصورة النمطية التي يشترك كثير من الجزائريين فيها. صورة تبتعد عن الواقع وتقترب من المتخيل. في المجتمع الجزائري، حيث يفرض المعتقد الميتافيزي بكل أبعاده، نفسه أمام المنطق والعقل التنويري، فمن الطبيعي أن تجد المرأة نفسها ضمن إطار جد ضيق، يحد من حريتها وحركتها. وهذه الصورة القمعية المتداولة عنها ليست جديدة، فقد برزت سابقا أيام ثورة التحرير، وسبق لفرانز فانون أن تعرض لبعض المعاملات الدونية التي كان يفرضها مجاهدون في صفوف جيش التحرير الوطني على مجاهدات، لكن الوضع ازداد تعمقا في السنوات الأخيرة الماضية. والتحرر من الأحكام الدونية التي تعيق تطور المرأة لن يتأتى من الانتظار، أو مجرد التفاؤل بتغير بعض القوانين (مثل قانون الأسرة)، بل سيتأتى من رغبة فعلية في هدم المنطق السائد، وإعادة صياغة التشريعات الاجتماعية وفق الأحكام والمعطيات الراهنة. الخوف عنصر أساسي في التنشئة الاجتماعية بالجزائر الرواية من جهة ما تنتصر للمرأة رغم الخطايا والآثام التي حدثت في حياتها، هل لأنها ضحية مجتمع ذكوري متسلط ومستبد بذكورته وبطريركيته وجب الانتصار لها؟ سعيد خطيبي: ليس انتصارا للمرأة بحد ذاتها، بل هو انتصار للمنطق وللعقل. المرأة ليست وحدها ضحية (كل من يختلف مع أيديولوجيا الغالبية، وكل متمرد عليها أو رافض لها فهو معرض للاضطهاد). المرأة هي فرد مكتمل، ناضج، وليست قاصرا كما يريد البعض أن يصورها وأن يختصر وجودها، وليس عيبا في أن ترتكب خطايا، وأن تكرر فعلتها، هو حقها في ممارسة حريتها، لتتعلم منها، وبالتالي تواصل طريقها، وليس من حق الرجل أن يحاكمها ويحكم عليها بالخطأ، فقط لأنها امرأة، مستندا في أحكامه على نصوص ومعتقدات فُهمت خارج سياقاتها التاريخية. مسألة الهوية من القضايا الحساسة التي لم تُطرح ضمن سياقاتها الموضوعية في الجزائر أيضا في "كتاب الخطايا" تم طرح أسئلة الهوية المختلطة "العربية/ الأمازيغية"، فهل هذه الأسئلة استوجبت أن تكون البطلة الرئيسية هي شابة أمازيغية؟ سعيد خطيبي: لم أضع مخططا مسبقا للرواية. لم أقرر أن تكون البطلة الراوية أمازيغية. إنما جاءت من تلقاء نفسها. ومسألة الهوية هي واحدة من القضايا الحساسة جدا والتي لم تُطرح ضمن سياقاتها الموضوعية في الجزائر، وظلت في حدود نقاشات طغت عليها الحماسة وشمولية الطرح، دونما تدقيق في الجزئيات. بقيت قضية معلقة ولم تُناقش كما يجب. وصلنا اليوم إلى مرحلة حيث الحديث عن الهوية صار يفرض وجهتي نظر متطرفتين: التعصب للجماعة والتخوين. وما يحصل في غرداية اليوم نموذجا عن تغييب الحوار الهادئ في مناقشة الهوية، الإثنية والعقائدية. الهوية الجزائرية هي هوية متعددة وليست واحدة. هوية متعددة ثقافيا ودينيا، وبدل الخوض في التفرقة بين الهويات، على أساس الانتماء، يتوجب خلق صلة بينها جميعا، فهي تتعدد لكنها تشترك كلها في كونها هوية شعب واحد. هي تعتبر ثراءً ثقافيا وليس العكس. شاهدنا مؤخرا أوكرانيا وهي تقسم جزأين على أساس لغوي، بحكم أن شبه جزيرة القرم هي شبه جزيرة روسوفونية الثقافة واللغة. أعتقد أن الدفاع عن الهوية ثقافيا أمر طبيعي، ولكن التعصب لها، أو توظيفها سياسيا لتصفية حسابات معينة فلن يزيد الوضع سوى تأزما. رواية مشحوذة بالسرد، السرد الحقيقي الذي تخففت منه الكثير من الروايات الجديدة، هل كنت تريد لروايتك الأولى أن تكون حافلة بكل هذا السرد؟ سعيد خطيبي: هناك سؤال يُطرح دائما: هل الرواية نتاج تجربة إنسانية أم هي نتاج تراكم معرفي؟ أراها محصلة الاثنين معا. الرواية هي أن تسرد بحسب – غونكور- تاريخا كان يمكن أن يحصل فعلا، هي قصة وسرد إذا، ليست مجرد تعليق عن قضية ما أو تبني أو دفاع عن أيديولوجية معينة، كما نراه اليوم في بعض الروايات الجزائرية المعربة. ألفونس دودي كان دائما يقول: "الرواية هي أن تحكي قصص أناس عاديين، والتاريخ هو أن تكتب سير المشاهير". نحن إذا في الرواية، في حكايات أناس بسطاء، متعلمون وغير متعلمين، أناس يحبذون العيش في الهامش، بالكاد نراهم أو نسمع صوتهم. أناس مقموعون، مغيبون، مرفوضون ومنفيون في وطنهم. رواية الحكايات والحكي المستطرد، هذا ما لاحظناه في "الخطايا"، أنت القادم من الشعر إلى الرواية، كيف أمكنك التخفف من لغة الشعر؟ سعيد خطيبي: صراحة، كتبت وأعدت كتابة الرواية نفسها ثلاث مرات متتالية. أعتقد أن الكاتب يمتلك القدرة في التحكم في لغة الكتابة، بل هو مطالب بالتحكم في لغة الكتابة. صحيح أن الرواية الجزائرية تاهت، في السنوات الماضية، وبعد أدلجتها سنوات الحزب الواحد، تاهت في لغة شعرية، أقرب إلى الكتابة الذاتية منها إلى الكتابة السردية. كان يكفي أن تكتب روائية مغتربة رواية واحدة، وتنجح تجاريا وليس نقديا في المشرق العربي، ليبرز فجأة جيل كامل من الكُتاب محاولا تقليدها، نصا ولغة. هي الروائية وحدها من نجح ومن حاول تقليدها فشل، والخاسر الأكبر هي طاقات روائية شبابية كان يمكن أن تستثمر خصوصيتها وتتخذ طريقا آخر وتقدم شيئا أجمل للرواية الجزائرية. كما لعبت جائزة أدبية استحدثت بداية الألفية الجديدة ثم اختفت فجأة دورا سلبيا في الترويج لنصوص روائية، تعبر عن حساسية ضيقة النطاق، ولا تمثل النص الروائي الجزائري الحقيقي. في الرواية، بطل يتماهى مع كاتب ياسين، يعترف بتأثره به وبما سمعه عنه من قصص وأحاديث ويقرأ مقاطع من روايته "نجمة"، هل يمكن القول أنها رواية تحتفي أيضا بالكبلوتي ونجمته؟ سعيد خطيبي: كاتب ياسين هو الحاضر دائما في اللاوعي الأدبي الجزائري، نصا وروحا. هو ظلٌ يتبعنا وطريقة تفكير نتشارك فيها. هو الطفرة والمؤسس وأحد أباء الأدب الجزائري المعاصر. هو تراث أدبي مشترك، نحتفي به ونعود إليه باستمرار. هو ربما ليس بحاجة إلينا، ولكننا نحن بحاجة إليه لنعرف دائما وجهتنا. رواية تعالج بالأدب وتنتصر للكتابة وتقر بجدواها وجدوى الأدب في المداواة والمواساة والتخفيف من وطأة المعاناة. هل تؤمن بأن للأدب وظيفة في هذا العصر المتسم بالتوتر وانهيار قيم الفرد والجماعة على حد سواء؟ سعيد خطيبي: الأدب هو طريق الفرد المضيء نحو الجمال، نحو إعادة اكتشاف الذات. هو المعبر الوحيد لمحاورة الآخر، وتجاوز نقاط الاختلاف وتحديد النقاط المشتركة بيننا. الأدب كان وما يزال مخلصا، ورمزا من رموز المقاومة الفكرية. يقف باستمرار في مواجهة الانهيار السياسي والأخلاقي للمجتمعات. لما نقول أدبا نقول بالضرورة أدباء واجهوا بأدبهم انهيار القيم: أذكر أنطوان دو سانت ايكزوبيري، آرنست هيمنغواي، فاتسليف هافيل، بابلو نيرودا، ماريو فارغاس يوسا، محمد ديب، محمد شكري، أحمدو كوروما، والقائمة طويلة. كلهم كُتاب واجهوا الاستبداد بالأدب، ووضعوا نصوصهم في سياقات صناعة الجمال ومواجهة السقطات الأخلاقية والسياسية. قلت مرة أنه كان على الجيل الطلائعي في الرواية بالعربية أن يستفيد من تجربة من سبقه في الكتابة بالفرنسية، في حين هناك شبه قطيعة بينهما، ألا ترى أن هذه القطيعة تجعل من هذه الاستفادة شبه مستحيلة؟ سعيد خطيبي: القطيعة لا توجد سوى في عقول من أراد القطيعة، على أرض الواقع الأمر يختلف، والشاذ لا يقاس عليه. أن يتهجم روائي بالعربية على روائي آخر مثله يكتب بالفرنسية، يقاسمه الوطن نفسه والهم نفسه، رغم أن الثاني راح ضحية رصاص الجماعات الإسلامية، وبعدها بعشرين سنة يصرح روائي معرب آخر قائلا: "بالجزائر لوبي ثقافي فرانكفوني يعتم على الرواية بالعربية"، مستدلا بحالة رواية له تُرجمت إلى الفرنسية في الجزائر ولم تُقرأ –في الجزائر حيث مستويات المطالعة في تراجع كبير- فذلك أمر يبعث الغثيان في نفسية القارئ، وسلوكيات مثل هذين الروائيين ستبعده حتما عن الأدب. اللوبيات الأدبية ومن يصنعها ومن يفكر فيها ويدور في فلكها هم بالضرورة أشخاص متطفلون على عالم الأدب، ليسوا أدباء. في الجزائر يوجد أدب متعدد اللغات، بالعربية والفرنسية والأمازيغية، ويوجد تواصل بين كُتاب مختلف اللغات المستعملة في الكتابة، ولا يحق لأي كان أن يقول مثلا أن الكُتاب باللغة العربية أفضل من نظرائهم باللغة الفرنسية أو الأمازيغية أو العكس، لكل فئة خصوصياتها وجمهورها. القطيعة المتداولة اليوم، والتي يحاول البعض الترويج لها، إنما هي قطيعة ذات طبيعة سياسية، فرضتها خيارات أيديولوجية، وليست قطيعة أدبية محضة.