تتعدد الأفكار في الثقافة والسياسة والاقتصاد..ويسعى حامل كل فكرة إلى نشرها والدفاع عنها، متجاهلا الفكرة التي تناقض فكرته أو تختلف معها. ويغيب النقاش في ثقافتنا بين معتنقي مختلف الأفكار، فباستثناء النقاش الذي دار في سبعينيات القرن الماضي حول التعريب بين المفكرين مصطفى الأشرف وعبد الله شريط، والمناظرة التي صدرت، قبل أقل من سنة، في كتاب بعنوان "مأزق التنوير" للكاتبين أحمد دلباني وإبراهيم صحراوي، لا وجود لحوار بين أنصار: الدولة المدنية / الدولة الدينية، الأصالة / العاصرة، الأسلمة / العلمنة، الاشتراكية / الليبرالية، الأمازيغية / التعريب.. على سبيل المثال. ما تفسير غياب الحوار بين أتباع مختلف الأفكار رغم توفر وتنوع وسائل الإعلام والاتصال ؟ وهل هناك احترام للاختلاف والرأي الآخر في مجتمعنا ؟ وفيم تتمثل العوائق التي تقف في وجه حوار الأفكار ؟ استطلاع: نورالدين برقادي أحمد دلباني ( كاتب، باحث) المسؤول الأول عن غياب النقاش الفكري حول القضايا المطروحة في الساحة هو المُثقفُ نفسه أعتقدُ أنَّ المشهد الثقافيّ الجزائري يُعاني، فعلا، من الغياب شبه التام للنقاش الفكري، أو لما يُمكنُ أن نلمح فيه امتدادًا لتقاليد المناظرة التي كان يعجُ بها الموروث الثقافي العربي – الإسلامي، والتي كانت سِمة عظيمة على دينامية حضارتنا الكلاسيكية في أزهى مراحلها. وربما كان هذا الأمرُ مؤشرًا بائسا ودليلا على فقر حياتنا الثقافية قياسا إلى بعض البلدان العربية الأخرى التي لا تعدمُ حضورًا لافتا – في بعض الأحيان – للمثقفين ونقاشاتهم في الشأن العام. هذا ما يدفعُ بنا دفعا إلى محاولة تلمس الأسباب التي تقفُ وراء هذا الغياب والتي نعتقدُ، بداية، أنها على صلة بعلاقة المؤسسة الثقافية والعلمية في بلادنا بالفضاء السوسيو- سياسي من جهة، وبحضور المثقفين النقديين وما يطرحهُ من إشكالات حول دورهم ووظائفهم في المجتمع من جهة أخرى. بداية أقولُ إنَّ الأنتلجنسيا يتحدَّدُ مفهومها من خلال النظر في دورها السياسي باعتبارها كتلة تاريخية ونخبة تمتلكُ هيبة الموقع الرمزي وسلطة الحديث باسم الحقيقة والدفاع عن المعنى المشروع لكينونة تاريخية تجنحُ نحو التقدم وطرح البدائل للخروج من المآزق التاريخية. بهذا المعنى ليس لدينا أنتلجنسيا في الجزائر منذ عشريتين على الأقل. لدينا مثقفون وباحثون وكتابٌ لا يشكلون كتلة مُتجانسة ترتبط بلحظتها التاريخية ورهاناتها. لدينا – إذا شئنا تحري الدقة أكثر - مُتسوِّلون وباحثون عن المجد الشخصيّ في عصر اضمحلت فيه قيم الدفاع عن الإنسان والحقيقة والعدالة والتقدم، وتحطمت فيه بوصلة التوجه الإبداعي الطليعيّ. ومن الضروريّ أن نُشيرَ، أيضا، إلى أنَّ النظامَ السياسيّ الحالي عمل جاهدًا، وبصورة لافتة، على احتواء الأصوات الفكرية والإبداعية وتدجينها واستخدامها ديكورًا يمنحُ المشروعية وكلابَ حراسةٍ لقلعة عرفت هشاشة كبيرة على كل المستويات. أصبحنا نعيشُ عهد شحوب وجه المُثقف الذي فضل الاستسلام – في أغلب الأحيان - لرمال السلطة المُتحركة مقابل الامتيازات والتكريس الإعلامي. فكيف لوضع مُماثل أن تنتعشَ فيه الحياة الثقافية ويزدهر الإبداع ومُغامرة الفكر؟ كيف لوضع مُماثل أن يشكل أرضية تتفتحُ فيها النقاشاتُ الفكرية المُختلفة؟ كيف لوضع نجحَ - إلى حدّ بعيد – في قتل الجامعة وتحويلها من مركز لإنتاج المعرفة ومرتع للوعي النقدي إلى مؤسسة تكرسُ الرداءة وتساهمُ في الفشل التنموي العام أن يكونَ معينا لإنتاج النخب الفاعلة في المجتمع؟ أعتقدُ، بالتالي، أنَّ المسؤول الأول عن غياب النقاش الفكري والمناظرات الثقافية الكبرى حول القضايا المطروحة في الساحة هو المُثقفُ نفسه. لقد فضل الانسحابَ من المشهد والتخلي عن وظيفته النقدية منكفئا على نفسه داخل زنزانة الوظيفة، أو مُقدما الولاءَ لسلطة أصبحت تتمتعُ بسخاءٍ كبير في شراء الذمم وتدجين الفكر واحتكار الفضاء العام ونشر اليأس من العمل الثقافي الباحث عن استقلاليته ووظيفته النقدية. بهذا نكون قد قدمنا طبعة جزائرية من "خيانة المُثقفين" كما يقال. لقد حاولنا من جهتنا مع بعض الأصدقاء المُثقفين – وأخص بالذكر الأستاذين إبراهيم صحراوي وعبد القادر رابحي - أن نرُجَّ هذه البركة الآسنة من خلال فتح النقاش الفكري والفلسفي والحضاري حول أمهات القضايا التي شغلت العقل العربي منذ عقود؛ أعني بذلك النقاشَ المفتوح حول الحداثة ومآزقها وحول اللحظة العولمية ومشكلات الخصوصية والكونية وما يتعلقُ بذلك من قضايا فكرية وسياسية وحضارية. ولكننا ظللنا نشعرُ، دائما، أننا نحاول أن نطعن الهواءَ بالسيف. لقد نجح الوضعُ المتردّي في جعل المثقف الحقيقيّ يبدو كأنه دون كيشوت يثيرُ السخرية ويعيشُ خارج إيقاع الزمن، أو يبدو كأنهُ ذلك الغريبُ الذي لم يسعد بالاندماج في دائرة قيم المصلحة ووظائف الزبانية الجدد ممن فضلوا حراسة الجحيم السياسي على حراسة الحقيقة والعدالة أو مسح الصدأ عن وجه الأنتروبوس. د. فارح مسرحي( باحث، أستاذ بجامعة باتنة) دون إصغاء للآخر لا يمكن الحديث عن الحوار يعد مفهوم الحوار بمختلف أشكاله وأنماطه، وما يحفها من دلالات التواصل والتبادل الفكري والتثاقف والمثاقفة الإيجابية منهجا فعالا في نقل الأفكار ونقدها وتمييز غثها من سمينها بالمقارنة والمقارعة، وقد وظف الحوار عبر التاريخ كمنهج للتعبير والتغيير، فالفيلسوف اليوناني سقراط تبنى الحوار المباشر كأداة منهجية للقيام بعمليتي هدم الأفكار الخاطئة وبناء الصحيحة في عقول محاوريه وهو ما دونه تلميذه أفلاطون في محاوراته الخالدة، وفي العصر الذهبي للفكر الإسلامي إبان القرون الوسطى كانت المناظرة والمناقشة رائجتين فيما بين المسلمين أو مع غير المشاركين لهم في الملة سواء في علم الكلام للدفاع عن العقائد أو فيما عرف بمجالس الفكر والأدب التي كان يقيمها الأمراء والوزراء لجمع الأدباء – المثقفين بلغة عصرنا- ومناقشة مختلف الأفكار والقضايا على شاكلة ما أورده أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، كما انتشرت المراسلات أو الرسائل كلون غير مباشر للحوار الفكري والإقناع بالحجة والبيان لاسيما في الفترة الحديثة على غرار رسائل ديكارت أو سبينوزا أو غيرهما، وبالنظر لأهمية الحوار كمنهج لنقل الأفكار والرؤى فقد حاول بعض الفلاسفة المعاصرين - وأبرزهم الألماني مارتان بيبر- التنظير لمنطق الحوار أو فلسفة الحوار سواء تعلق الأمر بالحوار الأفقي بين الأفراد أو الحوار العمودي بين الفرد والخالق، ومع نهاية القرن العشرين كثرت الدعوات إلى حوار الحضارات، الثقافات والأديان لعل أشهرها مشروع الراحل مؤخرا روجيه غارودي. وبالنظر لهذه المكانة التاريخية للحوار من جهة وبالنظر للاختلافات والتباين في الآراء والمواقف بين الأمم، الطبقات، الإيديولوجيات والأفراد من جهة أخرى، فإنه يبدو من الضروري تفعيل الحوار والتبادل الفكري في شتى المجالات وبين مختلف الأطراف؛ الحوار في الأسرة بين الأولياء والأبناء، الحوار في المؤسسة التربوية بين المعلم والمتعلم بتفعيل الطريقة الحوارية في التدريس، فتح الحوار حول مختلف القضايا والمستجدات المتعلقة بالدين في المجتمع، فتح النقاش والحوار الحقيقي بين السلطة والمعارضة فيما يرتبط بالممارسة السياسية..الخ، تدعيم الحوار الأخوي الجواري ومقتضياته إقليميا، والحوار المبني على المنزع الإنساني السلمي دوليا لاسيما قضايا العنف والجريمة المنظمة، قضايا البيئة، التنمية، حقوق الإنسان..الخ، لأن الحوار يبقى السبيل الأنجع لتسيير الخلافات والنأي بها بعيدا عن ساحة الصراع والعنف وما يترتب عنهما من مآسي، كما أنه السبيل الأمثل لتأسيس معالم المستقبل، وما دام هذا الأخير يهم الجميع، فمن حقهم أن يسهموا ويستشاروا ويحاوروا في رسم معالمه والتخطيط له. غير أن الارتقاء بالممارسة الحوارية يتطلب العديد من الشروط القاعدية كالوعي، المسؤولية، احترام الآخر، الحرية...، ومن دون هذه القاعدة لا يمكن الحديث أصلا عن الحوار، كما أن توفرها – بصورة نسبية طبعا- لا يكفي، لأن الهدف ليس إقامة الحوار في حد ذاته، فهو في النهاية ليس أكثر من منهج أو طريق نتبعها للوصول لهدف معين، فهناك ما يوصف بحوار الطرشان الذي ينتهي بعودة المتحاورين إلى معسكراتهم – إن صح التعبير- دون أي تبدل في المواقف، مثلما هو حاصل في أغلب الحوارات بين الأديان ومساعي التقريب بين المذاهب، ومن ثم لابد من توفر آليات تحقيق الحوار الفكري لمراميه، وترقية الكفاءة الحوارية تتطلب أولا: ضرورة تحديد المفاهيم والأهداف، وتمييز الأفكار المشتركة بين المتحاورين عن غيرها، وهو ما يسمح بتوسيع دائرة المشترك ومن ثم تقليص المختلف حوله من القضايا، ثانيا: ضرورة تجنب المواقف العدائية وردود الأفعال الانفعالية، وهذا من خلال التركيز على أفكار وانتقادات الآخرين بدل التركيز على قائليها وفق مبدأ "أشداء على الأفكار رحماء بالأشخاص"، ثالثا: والأهم في هذا كله - في اعتقادي- هو ترقية ثقافة الاستماع، فالغالب على الحوارات التي قد نكون أطرافا فيها أو التي تبثها وسائل الإعلام المختلفة – خاصة إذا تعلق الأمر بالحقل السياسي- أنها سجالات وجدالات تتم بلغة مسلحة، الهدف منها استراتيجي أيديولوجي بعيد عن المعرفي تماما، فكل طرف يعتقد أنه يحسن الكلام ويملك الصواب ومهمته هي إفحام خصمه والانتصار عليه - ولو بالباطل- وقلّ من يحسن الإصغاء، ومن دون إصغاء للآخر لا يمكن الحديث عن حوار معه، وهنا يضيع الحقيقة ويندثر الهدف الأسمى للحوار. حميد زناز( كاتب، باحث في الفلسفة) لا يمكن التفكير والنقاش والجدل وسيف التكفير مسلط على الرؤوس لا يمكن أن تتم مناظرات حقيقية في غياب جو هادئ آمن .. الصراع الفكري له شروطه وضماناته..كيف يمكن أن يكشف كاتب عن آرائه و معتقداته وهو يعلم مسبقا أنه يعيش في مجتمع منغلق على نفسه وفي دولة لا تحمل من معنى الدولة سوى الاسم .. في غياب الفصل بين السلطات أي دولة القانون، يبقى كل إجهار عن عقيدة فلسفية مخالفة مجازفة حقيقية. يجب أن نعترف بأن هناك جو محبط ومثبط للعزائم عندنا.. لا شيء يسير سيرا طبيعيا .. والنقاش الفكري والفلسفي هو بهجة و متعة.. وليس مناطحة كالحوار السياسي.. فالجدل الفكري الخالص لا ينبع من فراغ وإنما هو نتيجة لحراك ثقافي عام: مجلات، نوادي أدبية وفكرية، دور نشر، حياة فنية، حياة ليلية .. كيف يمكن التفكير والنقاش والجدل وسيف التكفير مسلط على الرؤوس .. كائنات قروسطية تفرض منطقها الإقصائي وتخرج من الملة الكتاب والمفكرين والناشطين السياسيين والسلطة تتفرج ! وليس صحيحا كما جاء في كلمتك أن هناك منابر تفتح صفحاتها لكل الأصوات .. هي مؤدلجة في أغلبها ومعادية لفكر الأنوار ومحاربة للفكر العلماني .. محمد الفاتح حرامي: كاتب، قاص كيف تنشأ ثقافة الحوار إذا كان الانتاج الأدبي لا يستفز العقل ؟ ليس غريبا أن يكون حوار الأفكار غائبا في مجتمعنا، لأن الحوار هو المرحلة التي تلي إنتاج الأفكار، ونحن لا ننتجها، بمعنى أن المتضادات المطروحة في مقدمة الاستطلاع - أسلمة/علمانية، رأسمالية/إشتراكية ... ألخ - لم تتحول إلى أفكار بعد، بقدر ما هي عناوين لم تجد نخبا تتبناها وتثريها وتؤصلها بطروحات أكاديمية منهجية، فالنخب المنوط بها ذلك، لا تلعب دورها كما ينبغي، هذه النخب هي طلبة الجامعات وأساتذتها والأحزاب السياسية، و سائر المثقفين والمبدعين. هذه الفئات هي التي ينتظر منها أن تقود المجتمع في ولادة الأفكار ومناقشتها، وتبني الأسئلة الجوهرية التي تؤرق العقل الجمعي وتشغله، شرط أن يكون كل واحد جديرا باللقب الذي يحمله، فالأستاذ الجامعي الذي لا يؤلف كتبا، والطالب الذي لا يقرأ - بل أن من الطلبة من لا يشتري كتابا طيلة حياته - والأحزاب السياسية التي لا تملك تصورات واضحة حول مجمل القضايا الكبرى والمصيرية، فيما يتعلق بشكل الدولة وأسلوب الحكم وتسيير الموارد واقتسام الثروة وتنظيم الإنتاج والتحكم في العلاقات الخارجية وغير ذلك، لا يمكنها أن تكون قاطرة تجر المجتمع في الاتجاه الصحيح وأن تكرس ثقافة الحوار، بل أن تعيد تكييف العقول وأن تخلق لدى العامة والخاصة، الحاجة للتأمل والتفكير والسؤال والاعتراض فضلا عن ذلك، نحن نعيش في مجتمع غير متسامح، لا يقبل الآخر، والمغاير والمختلف، و لا يسعى للإنفتاح على ثقافات الغير والتعايش و القبول، هذا من جهة، ومن جهة ثانية هناك طابوهات تقيد المجتمع الذي تمت تربيته على التقديس، خصوصا فيما يتعلق بالدين والتاريخ، فمناقشة فكرة حول التاريخ - وحول الثورة بالتحديد - غالبا ما تقابل بالإستهجان و الإستغراب، كأن المجتمع ألف أن يرى نفسه في مرآة الكمال الزائفة، و لا يريد أن يستفيق من الحلم / الوهم، الذي شربناه مع حليب "لحظة"، وهم العظمة والتفوق والبطولة والمجد. وأخيرا إذا كان الأدباء يتعمدون تخدير القراء بمنتوجات أدبية لا تستفز العقل ولا تحفزه، ويتعمدون الصمت والغياب ولا يحملون هموم المجتمع ولا يصغون لنبضه، فكيف يمكن أن تنشأ ثقافة الحوار ومن الذي سيتولى طرحها و الدفاع عنها، لقد نقلتنا الرأسمالية إلى مرحلة القارئ المستهلك والكاتب السلعة، و أصبحت الروايات تباع مع العطور والملابس الداخلية وحمالات المفاتيح، أصبحت سلعة لا يهم محتواها بقدر ما يهم شكلها. أختم مداخلتي بنقطتين: في المدارس الإبتدائية في الولاياتالمتحدة، يتم تصميم حجرات الدراسة بشكل يتسع لطاولات دائرية الشكل يتحلق التلاميذ حولها لتزرع فيهم منذ الصغر ثقافة المناقشة و المحاورة، محاورة بعضهم ومحاورة الأستاذ، بدل الطوابير التي يصطف فيها التلامذة عندنا ليتم تلقينهم، وفي نفس البلد، أي الولاياتالمتحدة، يقود الأمة حاليا، رجل تخرج من جامعة هارفرد، فمن أي جامعة يتخرج ساستنا ؟