«فاهيد»...الباتريوت البوسني الذي قاد محاربي الصحراء لصنع ملحمة البرازيل ضرب وحيد حليلوزيتش عدة عصافير بحجر واحد بفضل الإنجاز التاريخي الذي حققه مع المنتخب الجزائري بضمان التأهل إلى ثمن النهائي، لأن التقني الفرانكو بوسني كان عرضة لإنتقادات لاذعة بعد الهزيمة الأولى أمام بلجيكا بسبب خياراته، لكنه بعد 10 أيام فقط من تلك «النكسة» تحول إلى بطل قومي في الجزائر، كيف لا و هو «مهندس « هذه الصفحة التاريخية، ليكون القائد المثالي الذي نجح في ضبط توازن « الفيلق «الجزائري في الأراضي البرازيلية، ليقطف أغلى ثمار في مسيرته سواء كحامل للسلاح في معركة الدفاع عن وطنه أو كتقني عانى التهميش و حرم من المونديال، فكانت الجزائر البوابة الواسعة التي دخل بها عهد «العالمية»، لأنه بفضل هذا الإنجاز تحصل على شهادة «دكتوراه « في «الهندسة الكروية « صانعا بذلك مجدا و فخرا لعائلته التي كانت قد عبرت عن خيبة أملها لما رفض مواصلة مشواره الدراسي في تخصص «الهندسة الميكانيكية» . إعداد : صالح فرطاس * تصوير شريف قليب و لعل من بين الأسباب التي جعلت عائلة حليلوزيتش تتحسر على قرار إبنها «فاهيد « بالتوقف عن الدراسة تلك الظروف الإجتماعية المزرية التي كانت تعيشها، لأنها كانت في أدنى درجات الفقر، و كانت تراهن على الدراسة لتمكين أبنائها من تجاوز هذه الظروف العصيبة، غير أن وحيد المولود بتاريخ 15 ماي 1952 كان من أبرز المولوعين بكرة القدم في منطقة جابلانيكا، حيث بدأ مداعبة كرة القدم و سنه لم يتجاوز 16 عاما، و من أكبر الصور التي بقي يحتفظ بها أن فقر عائلته حال دون توفره على حذاء رياضي لممارسة كرة القدم، و أنه ظل في كل مرة يلبس حذاء الملاكمة، لكن مؤهلاته كلاعب وارد لاحت في الأفق منذ الصغر، فإنتقل بعد سنتين إلى نادي موستار اليوغسلافي، رغم أن هذا القرار لقي معارضة شديد من طرف أفراد العائلة، لكن إستدعاءه لمنتخب يوغسلافيا خفف من حسرة عائلة حليلوزيتش، قبل أن يخوض تجربة إحترافية في نادي نانت الفرنسي دامت 6 مواسم، ليكون باريس سان جيرمان آخر محطة في مشواره كلاعب، حيث قرر تعليق الحذاء في سنة 1987. «فاهيد» من مدرب إلى قائد «باتريوت» حكم عليه بالإعدام في كرواتيا بعد ذلك حاول حليلوزيتش الإنتقال إلى التدريب فكان نادي موستار اليوغسلافي نقطة الإنطلاق لمسيرته التدريبية، لكن تمزق يوغوسلافيا سنة 1992 حول «فاهيد» من مدرب إلى «باتريوت» لقيادة المعارك، حيث حمل الرشاشات و شارك رفقة أفراد عائلته في الحرب الأهلية ضد «الكروات» و نجا من الموت بأعجوبة، لما أصيب برصاصة في إحدى المعارك بمنطقة موستار، إذ تم تحويله إلى المستشفى، كما حكم عليه غيابيا بالإعدام بعدما سقطت المدينة التي كان يقيم بها في يد القوات الكرواتية، الأمر الذي أجبره على الهروب إلى فرنسا ضمن قوافل «اللاجئين»، من أين حاول بعث مشواره التدريبي، على إعتبار أنه كان من أبرز نجوم نادي نانت، لكن مسؤولي هذا الفريق نكروا جميل حليلوزتش و ما قدمه للنادي طيلة المواسم الستة التي كان قد تقمص فيها ألوانه، حيث لم يجد يد العون للتأقلم مع نمط جديد للحياة، فعانى ويلات الفقر بسبب عدم حصوله على منصب عمل، قبل أن يتكفل بمهمة قيادة فريق بوفي من القسم الثاني الفرنسي، ليأخذ بعدها بنصيحة رفيق دربه هنري ميشال الذي طلب منه الإنتقال للعمل في المغرب، أين أشرف على تدريب الرجاء البيضاء، لكنه قرر العودة مجددا إلى فرنسا لظروف عائلية عبر بوابة نادي ليل الذي رسم معه أولى معالم التألق في مجال التدريب، بعدما نمال لقب أحسن مدرب في فرنسا سنة 2001. مارس الكرة بحذاء الملاكمة بسبب الفقر و عصبيته تتجاوز الحدود إلى ذلك فإن حليلوزيتش يشتهر منذ أن كان لاعبا بعدم القدرة على التحكم في أعصابه، بدليل أنه كان في الكثير من الأحيان يصل إلى حد الشجار الجسدي سواء مع زملائه او لاعب خصم أو حتى مناصر، و قد اقدم ذات مرة على رفع الطاولة داخل غرف تغيير الملابس و تحطيمها كلية أثناء تحضير اللاعبين لمقابلة رسمية، و أبرز إثبات لهذه «العصبية» الشديدة قضية رحيله من العارضة الفنية لباريس سان جيرمان، و التي كانت على خلفية تشاجره مع أحد اللاعبين . و في سياق ذي صلة فإن مسيرة «الكوتش فاهيد» تؤكد بأنه لا يحب العمل مع النجوم، و يفضل منح الفرصة للعناصر الشابة، و الثورة الكروية التي قام بها في نادي ليل الفرنسي تبقى شاهدة على هذه الميزة، حيث أنه حصل على تسمية «الكوتش فاهيد» بعد تلك المغامرة الناجحة، كما أنه يرفض كلية التدخل في صلاحياته من طرف مسؤولي النوادي أو المنتخبات، إذ أنه كان قد إستقال من تدريب دينامو زغرب الكرواتي و أعلن عن رحليه بين شوطي مباراة رسمية و غادر الملعب بعد إقدام رئيس النادي على التدخل في الجانب التقني. الجزائريون قبروا حلم حياته مع «الفيل» الإيفواري محطات حليلوزيتش في تدريب الأندية و إن تعددت فإنها لم تكن كافية لمنحه الفرصة في قيادة أي من المنتخبات، قبل أن يظفر بعرض من الإتحاد الإيفواري لقيادة «الفيلة « في أكتوبر 2008، و هي محطة كانت بمثابة منعرج هام في مشوار «الكوتش فاهيد»، لأن منتخب كوت ديفوار كان من أقوى المنتخبات في القارة السمراء، و رهان مسؤولي هذا البلد كان البحث عن لقب إفريقي و كذا التأهل بصفة منتظمة إلى المونديال، بعد مشاركة أولى في دورة 2006 بألمانيا، فتواصلت سلسلة النتائج الإيجابية بجيل ذهبي يقوده دروغبا، كللت بتأهل إلى مونديال 2010 عن جدارة و إستحقاق من دون تذوق مرارة الهزيمة، مع دخول «الكان» في ثوب ابرز المرشحين للتويج باللقب، لكن شاءت الأقدار أن تكون أول هزيمة لحليلوزيتش على رأس كوت ديفوار في لقاء رسمي من صنع جزائري خالص في ربع نهائي كأس أمم إفريقيا برأسيتين من بوقرة و عامر بوعزة، و هي الهزيمة التي عجلت بقرار إقالة المدرب، و بالتالي حرمانه مع تحقيق حلم حياته بالمشاركة كمدرب في نهائيات كاس العالم، و تتواصل بذلك الذكريات السيئة لحليلوزيتش مع المونديال، بعدما المشاركة المخيبة للآمال مع منتخب يوغوسلافيا كلاعب في مونديال إسبانيا 1982. صداقته لراوراوة كتبت صفحة جديدة للكرة الجزائرية هذا و قد أصبح حليلوزيتش مدربا للمنتخب الجزائري بداية من جويلية 2011، لما إستغل رئيس الفاف محمد روراوة العلاقة الحميمية التي تربطه بهذا المدرب لإقناعه بقيادة «الخضر» في فترة كان فيها المنتخب في حالة إنهيار كلي بعد الإقصاء من تصفيات «كان 2012 «، لكن «الباتريوت» البوسني وظف خبرته في الحروب للقيام بثورة في الكروية الجزائرية، و ذلك برسمه خارطة طريق مبنية على أسس تساير نظرته، مع إشهار سلاح التحدي في التغيير الذي أحدثه على التعداد، رغم أن الفاف كان قد إشترطت عليه التأهل إلى «الكان» و كذا إلى مونديال البرازيل، فوضح هذا المدرب بصمته على المنتخب من جميع الجوانب، بداية بالإنضباط وسط المجموعة، مرورا بنبذ «النجومية» من خلال إبعاد بعض الركائز تزامنا مع إعتزال عناصر أخرى، لكن بالمقابل كان الموعد مع ميلاد منتخب جزائري جديد بعناصر شابة، من بينها البعض من إكتشافات حليلوزيتش في صورة سليماني ، سوداني و بلكلام، لتكون المشاركة في «كان 2013» مخيبة للآمال بالإقصاء من أول الأدوار، غير أن ذلك لم يكن كافيا لتثبيط عزيمة «المارشال» البوسني الذي نجح في تجسيد هدف التأهل إلى البرازيل عن جدارة و إستحقاق. تحدى منتقديه بمعارك متعددة و يبقى جزائريا فوق العادة تجربة حليلوزيتش مع المنتخب الجزائري و التي ستطفئ بعد يومين شمعتها الثالثة كانت عبارة عن معركة من نوع آخر، فصولها متعددة، لكن المهم بالنسبة له خروجه منها منتصرا، بدليل أنه كان عرضة لإنتقادات لاذعة سواء من طرف التقنيين أو الإعلاميين بعد الهزيمة الأولى أمام بلجيكا، إلى درجة أن البعض حاول الإستثمار في تواجد غوركوف كضيف شرف للفاف بالبرازيل لإستفزاز التقني البونسي، إلا أن «الكوتش فاهيد» ظل في كل مرة يعتمد أسلوبه للرد على هذه الإستفازات، قلبال أن يختار الموعدج المناسب لتويجه ضربة قاضية لجميع المعارضين لسياسيته في العمل،إذ أرغم منتقديه على رفع « قبعة التحية» له، مع تحول الضجة الإعلامية للمطالبة بتغيير مواقفه و حتى رحيله الفوري إلى إشادة و تنويه بالبثمار العمل المنجز، كما أن الطريقة الهيستيرية التي عبر بها حليلوزيتش عن فرحته بعد مباراة روسيا أكدت على أنه «جزائري فوق العادة»، و ليس بحاجة إلى شهادة الجنسية لإثبات ذلك، لأنه يبقى بمثابة «الباتريوت» الذي تدرب في حرب البوسنة و وظف خبرته للقيام بثورة كروية في الجزائر، على إعتبار أنه شكل «كتيبة» من «المحاربين» زرع فيها الروح الوطنية و قادها لصنع «ملحمة» كروية في أكبر تظاهرة كروية عالمية، و قد أحسن إختيار المكان و الزمان لدخول التاريخ عبر أوسع الأبواب، لأنه لا توجد منافسة أهم من المونديال، و البرازيل تبقى مهد الكرة المستديرة التي عايش فيه «الجزائري» حليلوزيتش أغلى اللحظات في حياته الكروية بالتأهل إلى ثمن النهائي، الأمر الذي جعل الأصوات التي كانت تطالب برحيله تترجى روراوة لإقناعه القتني الفرانكو بوسني بالبقاء جزائريا أطول فترة ممكنة . إنجازه مع «الخضر» يخفف من صدمة البوسنيين بعد الإقصاء المبكر و لئن كان الإنجاز التاريخي لحليلوزيتش مع المنتخب الوطني قد فجر أجواء الفرحة في كل البلدان العربية و حتى كل شبر تتواجد فيه الجالية الجزائرية فإن الأكيد أن «الكوتش فاهيد» يكون قد خفف من «صدمة» أبناء بلده البونسة، لأن البوسنيين ودعوا مونديال البرازيل من أول الأدوار في أول مشاركة لهم، و كانوا قريبين من التأهل لولا مظالم التحكيم، لكن الإنجاز الذي حققه حليلوزيتش مع الجزائر ببلوغ ثمن النهائي جعل من هذا المدرب مفخرة الكرة البوسنية، سيما و أنه لم يتنازل عن أصوله، و قد بادر إلى تنظيم مقابلة ودية بين الجزائر و منتخب بلاده في نوفمبر 2012، كما أنه ناصر البوسنة في هذا المونديال، ليكون بذلك «فاهيد» حامل راية تثميل البوسنيين فيما تبقى من النسخة الحالية للعرس الكروي العالمي في أدواره المتقدمة. ص/ ف