الأنسنة مخرجا في جدلية العنف والمقدس والحقيقة كم نحن في حاجة ماسة لتكريس مشروع الأنسنة الذي نادى به أركون تتويجا لحفر فلسفي تاريخي للعقل الإسلامي والعربي قام به على مدى عقود وتزداد الحاجة في زمن" داعش" و" الطالبان" و" بوكو حرام" و "جبهة النصرة "و "القاعدة و أخواتها " من الجماعات التي تمارس العنف المقدس، وتتخذ من التدمير و كل أشكال انتهاكات حقوق الإنسان و كرامته وسيلة و منهجا لفرض حماقاتها و جنونها و قبحها، و شرعنة ممارساتها يعاد طرح مثلث العنف والحقيقة والتقديس بشكل قوي وهو مثلث نجده في كل الديانات والايديولوجيات الشمولية والفلسفات الدوغمائية، فكل من يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة فانه يسلبها عن غيره المختلف عنه و يميل إلى تقديسها وإهدار تاريخيتها فتتحول لديه إلى حقيقة حقيقية لا يجوز الطعن فيها ولا يقبل القول بنسبيتها، لأنها تتجاوز مشروطياتها الثقافية والسوسيولوجية وتعلو على آليات إنتاجها وتسويغها، و من هنا تصبح حقيقة مفارقة لا ترتبط بالوجود البشري، بالرغم أن الحقيقة عبر التاريخ ظلت ترتبط بالإنسان، و ظلت حقيقة سوسيولوجية، أي من نتاج المجتمع في تعامله مع المقدس أو في تعامله مع المدنس، فالحقائق في أغلب الأحيان تولد و تنمو و تموت لتولد مكانها حقائق أخرى، و لنا في تاريخ العلم أكبر الأمثلة على ذلك. فقد ظل العلم الأرسطو-طاليسي يقدم الحقائق لقرون طويلة و جاءت الفيزياء والفلك الحديثين لينقضا تلك الحقائق و يثبتا عكسها. والقول بالحقيقة الحقيقية الواحدة واحتكارها من طرف جماعة معينة، يمثل المدخل إلى التعصب بكل أشكاله الديني و الطائفي و العرقي ...واستعمال العنف من أجل نشر و فرض تلك الحقيقة يمثل الإرهاب وهو بعيد كل البعد عن الإيمان بمعناه الروحي المتعالي. و عليه فإن القول بالحقيقة الحقيقية يستتبع مباشرة الميل إلى تقديسها ومن تم العمل على نشرها بالعنف الذي يصبح مبررا بل محمودا حتى بين أبناء الملة الواحدة، حيث يجمعهم دين و احد تفرقهم جماعات وفرق ذلك الدين المتناحرة فيما بينها، و لعل الحروب الرهيبة التي عرفتها أرويا المسيحية و الفتن الكبرى التي وقعت بين فرق المسلمين ومذاهبهم في التاريخ أمر يدل على الطاقة التدميرية لمثلث الحقيقة العنف والتقديس. والمخرج من خطر هذا المثلث المرعب هو الأنسنة، لأنها وحدها التي تنظر الى الإنسان على أنه قيمة و معنى و مثال أعلى بعقله ووجدانه لا يحق انتهاكها، و هي الفكرة التي ارتبطت بمحمد أركون أكثر من غيره في الفكر العربي المعاصر، ففي تمثلاته للثقافة العربية الإسلامية توقف عند النزعة الإنسانية في القرن الرابع الهجري، مع مفكرين و فلاسفة أ مثال: الفارابي و ابن سينا وابن رشد والكندي و الرازي وأبو حيان التوحيدي. الأنسنة تقوم على الاعتراف بالعقل وتنمية الفضول العلمي والحس النقدي والأنسنة تقوم فيما تقوم عليه بضرورة الاعتراف بدور العقل وأهميته في البحث الحر، وزعزعة كل أشكال الأستاذية المعرفية والعقائدية والقيمية، فالأنسنة أو" الهيومانيزم تقر بأن الإنسان هو مصدر المعرفة وأن خلاصه من الجهل والفقر والظلم يكون بالقوى البشرية وحدها، بمعنى آخر فإن " الهيومانيزم " هي مركزية إنسانية متروية، تنطلق من معرفة الإنسان وموضوعها تقويم الإنسان وتقييمه ، واستبعاد كل ما من شأنه تغريبه عن ذاته، سواء بإخضاعه لحقائق و لقوى خارقة للطبيعة البشرية، آو بتشويهه من خلال استعماله استعمالا دونيا دون الطبيعة البشرية. و على هذا الأساس فإن "الهيومانيزم" أو الأنسنة ليست نزعة أدبية سطحية أو ترفا فكريا وإنما إلحاح على ضرورة الاعتناء بمصير الإنسان، اعتناء نقديا شاملا، من خلال التساؤل الفلسفي عن أفاق المعنى التي يقترحها العقل. و غياب الأنسنة وتراجعها في الثقافة العربية حسب أركون يمثل سببا رئيسيا لواقع متخلف ومرتبك، وعليه يجب استئناف مشروع الأنسنة لأنها نزعة منفتحة لا تحكمها أوليات دوغمائية وأسبقيات لاهوتية، كما أن الموقف الإنساني يعترف بالتعددية المذهبية و الثقافية واللغوية، فالجاحظ كان عربيا مسلما منفتحا على رياح الثقافات والأفكار الآتية من بعيد والتوحيدي كان عربيا يونانيا إيرانيا كأن كل شيء اجتمع فيه كل عصره. كما أن الأنسنة تقوم على ضرورة عقلنة الظواهر الدينية عن طريق ضبطها ومراقبتها، وإفساح المجال للتأويل العلمي والسببي للظواهر، و عليه فإن العقلانية هي جوهر الأنسنة العقلانية التي تقوم على تنزيل العقل منزلة السلطة المرجعية المعرفية الوحيدة في إدراك العالم الطبيعي والاجتماعي، و تجعل الإنسان هدفها الأول والأخير. كما تتميز الأنسنة بتنمية الفضول العلمي والحس النقدي، و لو نلخص الموقف الإنساني نقول انه موقف مفعم بالعقلانية النقدية وروح البحث العلمي وإرادة الانفتاح على الثقافات و الحضارات، و الرغبة في مد الجسور مع كل إبداعات العقل البشري ورفض التقوقع على الذات. فالأنسنة تبحث في إمكانية مصالحة الإنسان مع نفسه بطريقة علمية ملموسة ويمكن تجسيدها سياسيا في نظام أخلاقي معاش على أرض الواقع وفي نظام اقتصادي تسوده العدالة والحرية والمساواة، بمعنى أخر الأنسنة الحقيقية هي القائمة على احترام الإنسان و اعتباره أغلى و أعز شيء في الوجود. و مشروع الأنسنة لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال صعود العقل الفلسفي النقدي على حساب العقل المذهبي الفقهي، و صعود مجتمع مدني حر يتمتع باستقلالية عن السلطة، و انتشار الثقافة العلمية في فضاء حر يكفل حوار الذوات المستقلة فيما بينها لأن الحقيقة تولد بيننا و ليست ملكا لطرف دون طرف. أنسنة القراءة _النص بمقياس الإنسان_ أول مداخل مشروع الأنسنة الأركوني وأول ما يجب أنسنته هو القراءة لأن الحقيقة الدينية المقدسة التي تكرس العنف إنما تستند بالدرجة الأولى إلى قراءة دوغمائية أحادية مغلقة تماهي نفسها بالحقيقة وتقدم خطابها على أنه خطاب المرسِل وليس خطاب المرسَل إليه، أي أنها قراءة المصدر وليست قراءة المتلقي، و بمعنى آخر الأنسنة تتطلب بعث فكر تأويلي جديد للظاهرة الدينية والفكر الإسلامي بالدرجة الأولى، بالاعتماد على كل المفاهيم والمناهج والتصورات التي أنتجتها علوم الإنسان والمجتمع وكل ما ترتب عن الطفرات المعرفية الكبرى، وتجاوز كل أشكال التخلف المعرفي والمنهجي والابتعاد عن الخط التبجيلي والموقف الإمتثالي، و مقارعة التحديات الكبرى التي تواجه مثل هكذا مشروع كتحدي رفع المسلمين لراية حقوق الإيمان التي لا يجب أن تمس، إلى جانب عائق الضغط السوسيولوجي والتجييش السياسي الذي يمارسه المناضلون من أجل حقوق الله. ولعل الأسئلة من نوع: كيف يمكن القبض على المعنى ؟ و هل يوجد معنى نهائي ومطلق في النص المقدس ؟ و هل بإمكان العقل البشري بمحدوديته ونقصه بلوغ القصد الإلهي في كماله و إطلاقه ؟ ومن ثمة ما هو دور الذات المؤولة في عملية التأويل ؟ و هل يمكن تجاهل المؤول في تعاطيه مع النص ؟ و هل للنص معنى موضوعي مستقل عن تدخل الذات المؤولة ؟ وهل يتطابق القصد الإلهي في النص مع ما يثيره من معاني و دلالات ؟ و ما هي حدود تدخل الذات في بناء المعنى ؟ يمكنها أن تساهم في تحرير الوعي من الكثير من التصورات الثقافية التي تقدم على أنها حقائق. خاصة و نحن نعرف كيف أن النص القرآني قد ألهم و ما زال يلهم الكثير من التأويلات المختلفة و المتغيرة باختلاف الزمان والمكان وبحسب تطور المعرفة . أي أن الإنسان ظل مقياس النص في كل العصور، الإنسان بمحدوديته و قصوره، بنزواته و رغباته، بحبه للمعرفة ولكن للسلطة أيضا، باتجاهه نحو المقدس و بانجذابه نحو المدنس أيضا، بحكمته وبحماقاته أيضا. إن مثلث الحقيقة والعنف والمقدس هو نتاج تصور للقراءة لا تراعي الأسئلة السابقة وتتجاهلها، قراءة لا تهتم بمنتجها ولا سياقات إنتاجها وما يهمها فقط هو إرادتها للهيمنة على المتلقي واستعماله و تجييشه وتحويله إلى مطيع وتابع ،لأنها تجمع كما يقول محمد أركون بين الجهل المؤسس من حيث أنها معزولة عن إنجازات العقل الحداثية، و الجهل المقدس وهو الجهل الذي تعاني منه فئات واسعة من المجتمعات الإسلامية، الجهل الذي يجعلها لا تنتبه إلى أن القرآن نص مفتوح على جميع المعاني ولا يمكن لآي تفسير آو تأويل أن يغلقه آو يستنفذه بشكل نهائي، عكس الجماعات والمذاهب الإسلامية التي هي في الواقع عبارة عن حركات إيديولوجية مهمتها دعم و تسويغ إرادات القوة للفئات الاجتماعية المتنافسة على السلطة والثروة، و ذلك بشعارات مختلفة من مثل شعار الحاكمية و شعار الجاهلية وشعار الخلافة ...و غيرها من الشعارات التي ترفعها تلك الجماعات لتفرض فهما أحاديا ومنقوصا للدين بالقوة والعنف والتمكين لمشروعها الإيديولوجي الذي تحكمه المصالح و المنافع. و مشروع محمد أركون في كليته يندرج في هذا السياق الذي تقره العقائد والديانات بما في ذلك الإسلام وهو تكريس قراءة تحفظ قيمة الإنسان وتحفظ حريته وكرامته وتضمن ترقية الذرى المادية والروحية لوجوده . ما نلاحظه أن العنف في المجتمعات العربية الإسلامية يشكل عائقا كبيرا أمام تجسيد مشروع الأنسنة، سواء لبس لباس الجهاد كما تسوقه وتمارسه " داعش " اليوم و" القاعدة "آو لباس الحرب العادلة كما يسوقه الغرب عندما يهاجم الشعوب العربية الإسلامية بأسلحته المدمرة لحماية مصالحه الحيوية والإستراتيجية ، ولا سبيل إلى تجاوز هذا الواقع إلا بوجود دولة حق وقانون تضمن الحصانة المتساوية، أي الدولة التي تقر وتحافظ على حرية التفكير وحرية التعبير وحرية التدين وحرية النشر ...ووجود مجتمع مدني متماسك ومتقدم ومشبع إلى حد الكفاية بالثقافة الفلسفية والقانونية المتسامحة، حتى يراقب انحرافات الدولة، لأنه يمثل شريكا حرا للدولة.