هل انكتبت الثورة الجزائرية روائيا؟ كيف هي الثورة الجزائرية في الروايات الجزائرية؟، هل ما كُتب حتى الآن يعكس الثورة فنيا وأدبيا الفني الثورة. هل هناك روايات جسدت بعض الشحنات الدرامية للثورة بامتيازات فنية ملحوظة؟.. هذا ما سنعرفه في ملف "الثورة التحريرية في الرواية الجزائرية"، الذي ساهم فيه كُتاب وأساتذة من خلال شهاداتهم ومقارباتهم في هذا الموضوع، وما إذا كانت هذه الثورة كُتبت إبداعيا وجماليا في الرواية أم لا؟. استطلاع/ نوّارة لحرش سعيد بوطاجين/ كاتب وناقد ومترجم وأستاذ بجامعة مستغانم نصوص روائية محدودة راهنت على موضوع الثورة وهي بسيطة مقارنة بالشعر يستدعي الحديث عن علاقة الرواية بالثورة الجزائرية أن نأخذ في الحسبان عدة قضايا متشابكة: معرفة التاريخ ومعرفة آليات الكتابة السردية وجماليات القول. أما المشكلة الأولى فتكمن في مدى إحاطتنا بالثورة وقيمها، خاصة مع ما يلفها من إبهام وقصور في التعريف بها، وهذا أمر يخص المؤرخين والذين عاشوا هذه الوقائع المرة. إننا لم نعرف من هذه الملحمة سوى بعض الحقائق، المتضاربة أحيانا. ربما كان الرعيل الأول من الكُتاب أكثر قربا من الموضوع بالنظر إلى المعايشة، لذلك تم التبئير على بعض أجزائها بشيء من المعرفة، وببعض التعاطف. ويجب التذكير في هذا السياق أننا خرجنا من حرب مدمرة على كل الأصعدة، ولم نكن نملك سوى عدد محدود من الكُتاب. وكان ذلك العدد المجهري، مقارنة بحجم الثورة، غير مؤهل لاستثمارها، وهو أمر منطقي. ربما كنا بحاجة إلى مئات الكُتاب الموهوبين للكتابة عن موضوع بهذا الحجم. لقد كنا قليلي الحظ من هذه الناحية، رغم المجهودات التي بُذلت. بيد أنها تظل مقاربات قليلة، دون الحديث عن مستويات التمثل وما تعلق بالنواحي الجمالية والفنية. هناك، في حقيقة الأمر، نصوص محدودة جدا راهنت على الموضوع، وهي بسيطة مقارنة بالشعر. لقد كانت الرواية في بداياتها الأولى، لذا لم يتسن لها الذهاب بعيدا في نقل جزء مهم من ذاكرتنا ومن الألم الذي تسبب فيه مستعمر متوحش قام بتخريب الإنسان والكيان والأسس والمرجعيات. لم يستطع الكُتاب القلائل الإحاطة بالثورة. كان ذلك أمرا مستحيلا. أما الكُتاب الذين جاءوا لاحقا فقد عنوا بموضوعات أخرى. كان الساسة والمسؤولون قد عاثوا فسادا باسم الشرعية التي تم تشويهها بكل بساطة. لم تعد الثورة في قناعة بعضهم سوى شكل من أشكال المتاجرة والظلم واقتسام السلطة والريع، وبذلك فقدت بعض ألقها. لقد تصدعت تلك الصورة المثالية التي وردت في الكتب والشهادات والحكايات. وهذه خسارة أخرى تنضاف إلى التقصير الكبير في التعريف بتضحيات الأجداد. سواء عن قصد أو عن غير قصد. سيلاحظ القارىء أن الكُتاب الجدد ركزوا على قضايا الحرية والقهر والديمقراطية والسكن، وغيرها من الموضوعات النفعية، ما عادت الثورة تعنيهم لأنها نُقلت إليهم مشوهة، منقوصة من عوالمها المثالية التي سمعوا عنها. وسيتحمل قسم من المسؤولين نتائج ذلك المسخ الفظيع الذي كاد أن يجعل من ثورة كبيرة عدوا كبيرا. لا أتصور أن الكِتابات الجديدة ستعود إلى الوراء، يبدو الأمر سرياليا. قد تظهر كتابات استثنائية تعالج الموضوع، لكنها لن تكون كافية أبدا. لقد خسرنا الرهان في مطلع الستينيات عندما قدمنا إلى الواجهة بشرا لا يمثلون جمال الجزائر وشهدائها وخساراتها. ولست أرى أي إصلاح في الأفق، ما عدا إن حصلت معجزة. لقد خلقت الرواية لنفسها عوالم أخرى، وهي منفصلة عن إرثها لأسباب كثيرة. أما الثورة فكانت تنأى مع السنين، وقد تصبح مجرد ذكرى قديمة تتداولها الألسن والخرافات، وليس الرواية الجديدة، مع استثناءات يصعب ضبط ملامحها القادمة إن حصل ذلك بطبيعة الحال. قد تعود الثورة إلى السينما وإلى المسرح المناسباتي عند الطلب، أي لغايات معينة، لكن عودتها إلى الرواية ستكون حلما، ولن تعود إلا في أعمال قليلة ومتباعدة بالنظر إلى العوامل المذكورة. لقد نجحنا جيدا في تخريب الذاكرة. بوداود عميّر / كاتب ومترجم تجسدت الثورة التحريرية في السينما الجزائرية وفشلت عن تحقيق ذلك في الرواية يتفق الكُتاب الجزائريون في معظمهم، على أن ما كُتب عن الثورة الجزائرية، لاسيما الرواية والمنجز السردي عموما، خلال الخمسين سنة من عمر الاستقلال، لا يرقى كمًا وكيفًا إلى مستوى عظمة الثورة التحريرية في التعبير عن وهجها وترسيخها لقيم النضال والكرامة الإنسانية. ولكن لماذا استطاعت السينما الجزائرية مثلا أن تحقق بشكل أو بآخر ما فشل في تحقيقه الأدب الجزائري؟ أو بصيغة أخرى، لماذا نالت الأفلام الجزائرية التي تناولت موضوعاتها ثورة التحرير نجاحا وطنيا وعالميا، من خلال حصدها جوائز مختلف المهرجانات السينمائية أهمها على الإطلاق جائزة السعفة الذهبية التي نالها محمد الأخضر حامينة عن فيلمه "وقائع سنوات الجمر"؟، كيف استطاعت السينما الجزائرية أن تؤسس مدرسة سينمائية حقيقية، أطلق عليها اسم السينما الثورية، في حين لم تحقق الرواية الجزائرية الحد الأدنى من الاهتمام وطنيا، فضلا عن الاهتمام العالمي، لماذا تجسدت عظمة الثورة التحريرية المباركة باعتبارها أعظم الثورات في العالم تضحيات، كفاحا وصمودا في السينما الجزائرية، وفشلت عن تحقيق ذلك في الرواية الجزائرية باللغتين، لولا بعض الاستثناءات يقف على رأسها بعض الأسماء مثل محمد ديب، كاتب ياسين، بوجدرة، والطاهر وطار باللغة العربية في بعض الأعمال. أعتقد أن ثمة جملة من الأسباب حالت دون نجاح الرواية الجزائرية في تحقيق الاحتفاء بالثورة التحريرية المباركة، أهمها أن عددا معتبرا من الأعمال الروائية تناولت ثورة التحرير تناولا سطحيا، لا يمت بصلة أحيانا إلى الفن القصصي والروائي، حيث اعتنت جوهريا بالفكرة المحددة سلفا والموقف الآني، مُهملة الجانب الفني الذي يمنح العمل الإبداعي قيمته الحقيقية. علاوة على أن العديد من الروايات أفرطت في تضخيم البطولات والانتصارات، غافلة الشق الإنساني المهم في الحبكة الروائية وفي نسيج البناء السردي، الأمر الآخر المهم في اعتقادي، أن التعامل مع ثورة عظيمة كثورة التحرير المباركة تاريخيا وأدبيا، تكتنفه بعض الشوائب في التطرق بحرية مطلقة للموضوع، بحكم حساسيته من جهة، وفي ظل حضور جيل الثورة ونفوذه من جهة أخرى، خاصة أثناء الحزب الواحد الذي حكم البلاد لأزيد من ثلاثة عقود، وهي الفترة التي شهدت من بعض الكُتاب تبرير سقف معين من الحرية، اقتضتها اكراهات تاريخية، سياسية وثقافية كانت تعيشها الجزائر. من هنا يبدو لي أن مواكبة الأدب الجزائري لثورة التحرير في وهجها وعنفوانها، يحتاج إلى مسافة أكبر لطرح الأسئلة الحقيقية والخروج من دائرة الانبهار وإعادة القراءة والتأمل. محمد تحريشي/ كاتب ودكتور في النقد الأدبي وعميد كلية الآداب للغات بجامعة بشار الثورة التحريرية في الرواية هي سند تاريخي ومدونة تسجيل لأحداث وتوظيف لوقائع الثورة التحريرية في الرواية هي سند تاريخي ومدونة تسجيل لأحداث وتوظيف لوقائع، وهي في مقام آخر مصدر إلهام لنصوص روائية مميزة أرخت لهذه الثورة ورسمت قيما جمالية ومضامين فنية كانت نموذجا للكتابة الروائية في الجزائر مثل العصا والعفيون لمولود معمري ونجمة لكاتب ياسين. إن ثلاثية محمد ديب كانت المهاد لهذا النمط من الكتابة الملتزمة بقضايا الشعب، وكانت بمثابة "الإرهاص" لثورة قادمة تحرر البلاد والعباد. إن كثير من الأعمال الروائية رافقت الثورة، في حين أن أعمالا روائية كتبت عن الثورة من موقع ما بعد الاستقلال، هي نصوص وجدت نفسها أنها لا تستطيع الكتابة عن الواقع فارتحلت إلى زمن مضى، وحاولت أن تقرأ الواقع من خلال حديثها عن الماضي، فكانت اللاز وبطلها زيدان، وكانت صوت الكهف. إن هذه النصوص سعت إلى الكتابة عن الثورة التحريرية ليس في خضم أحداثها وإنما بالاعتماد على الذاكرة والفلاش باك، وكأنها توظف هذه الأحداث لقراءة المستقبل أو لتبرير أفعال أو لإدانة أشخاص أو تصرفات، ومن ثم أنتجت معجما خاصا بها نهل من معجم الثورة التحريرية فهناك المجاهد والحركي والفدائي والخائن والمسبل والمتعاون، وهناك الخاوة وهناك الفلاقة. لماذا لجأ الكُتاب إلى الثورة التحريرية لتكون منبعا لا ينضب، وهل كان بالإمكان أن يتحولوا إلى مضامين أخرى؟، شكلت الكتابة عن هذه الثورة ملاذا آمنا للكُتاب فيها العوض عن كل طموح نحو كتابة أخرى، وكانت بمثابة الدرجة والنموذج والمثال، وكل من كَتب عن الثورة كان باب الوفاء للشهداء والاعتراف بفضلهم ومن باب العناية بمن تبقى من المجاهدين، ثم في موقع آخر ليسلم من الرقابة غير المعلنة التي كانت ترسم حدودا لما يُكتب وما يُنشر. ويتفق الكثير من الدارسين على أن الرواية الجزائرية لم تستطع أن تُوجِد اتجاها فنيا بل كانت كتابة عن مضامين وإشكالات اجتماعية. إن الثورة التحريرية مصدر إلهام ومرجع في الكتابة الروائية الجزائرية. قلولي بن ساعد/قاص وناقد تيمة ثورة التحرير الكبرى في الرواية الجزائرية لا زالت غائمة ويكتنفها الكثير من الغموض أتصور أن ثورة التحرير الكبرى كتيمة وقضية ومعطى إبداعي بالرغم من حضورها بهذا الشكل أو ذاك في الرواية الجزائرية فهي لا زالت غائمة ولم تتحول إلى بؤرة استقطاب جمالي ورؤيوي، وقد توقفت على الصعيد الموضوعاتي التيماتي عند الطاهر وطار في "اللاز" والأعرج واسيني في "ضمير الغائب الشاهد الأخير على اغتيال مدن البحر" عند لحظة مفصلية من تاريخ النضال الجزائري المحموم وهو مأساة تصفية القيادات الشيوعية في الثورة من طرف جيش التحرير، فيما هي أي الرواية لم تبرح عند محمد ديب في ثلاثيته الواقعية "الدار الكبيرة - النول - الحريق" مرحلة الاستشراف والتنبؤ والإعداد للكفاح المسلح والآية على ما نزعم أن رواية "الربوة المنسية" لمولود معمري عندما نشرت سنوات المد الثوري، أثارت جدلا واسعا آنذاك، وقد أدانها المؤرخ محفوظ قداش، مثلما تحدث عن ذلك عبد الكبير الخطيبي في كتابه "في الكتابة والتجربة" وقال محفوظ قداش بالحرف الواحد: "مادامت هذه الرواية قد حظيت بالقبول والاستحسان لدى الإعلام الفرنسي فمعنى ذلك أنها سيئة بالنسبة لنا"، وكان يعني بذلك الإعلام الفرنسي المحسوب على تيار اليمين المتطرف، لأن لليسار الفرنسي رأي آخر يمثله كل من جان بول سارتر وفرانس جيزون وسيمون دي بوفوار، خاصة بعد أن اكتشف سارتر ومن معه من مثقفي اليسار الفرنسي، مثلما يرى الروائي حميد عبد القادر "موضوعا جديدا للتاريخ أكثر راديكالية من الطبقة البروليتارية هو المستعمرات الفرنسية، وقد استفادت الثورة الجزائرية كثيرا من هذا الانزلاق فتحصلت على دعم جبهة ثقافية واسعة في فرنسا"، وليس محفوظ قداش وحده من أدان رواية مولود معمري بل نجد مصطفى الأشرف أيضا حسب عبد الكبير الخطيبي يصبغ عليها ما يسميه "بالوعي المتخلف عن العصر" الأمر الذي دفع مولود معمري إلى نشر رواية ثانية هي "سبات العادل" أدان فيها الظلم المسلط على الجزائريين كنوع من التكفير عن الذنب، وقد أحدثت رواية "طيور في الظهيرة" لمرزاق بقطاش بدايات تحول الثورة من الريف إلى المدينة باعتبارها أول رواية جزائرية تركز على مساهمة المدينة في ثورة التحرير الكبرى بعدما كانت الثورة في الرواية الجزائرية تدور في فضاءات ريفية لنشأة الروائيين الريفية حتى ولو أقاموا في المدينة، وفي تصوري تبقى رواية "نجمة" لكاتب ياسين من الأعمال الروائية التي لا زالت تستعصي على التصنيف وتشكل الاستثناء الإبداعي لكونها كما يرى الخطيبي "مليئة بالإشارات إلى أعماله الأخرى وتتخذ من الباروك أو الباروكية كفن تجسيدي لموضوعات مضمرة أو موحى بها تتعدد صورها بشكل فوضوي"، متجاوزة بذلك الرؤية التسجيلية الواقعية التي انطوت عليها التجربة الروائية لمولود فرعون.