أكتب عن الحياة التي أعرفها وعشتها وأعيدتركيبها وتخييلها من جديد الكتابة الروائية ليست وثيقة تاريخية بل رؤية لواقع يتحدث الروائي بشير مفتي في هذا الحوار عن «غرفة الذكريات»، روايته الجديدة، التي صدرت أواخر نوفمبر 2014، عن منشورات الإختلاف بالجزائر، ومنشورات ضفاف بلبنان. رواية تقع في 231 صفحة، تتطرق لفترة الإرهاب وما بعدها، ولمرحلة سياسية حساسة، وأيضا لمرحلة التطلعات والأحلام الأدبية والآمال التي كانت في فترة التسعينات ثم سرعان ما أدمتها فزاعة الموت والقتل المجاني والعنف التراجيدي والعشرية السوداء، ومن جهة أخرى تتواصل أحداثها بعد هذه المرحلة بين فكي الأمل واليأس، تحكي عن جيل مطعون في حياته وأحلامه، جيل أنهكته عبثيته وهواجسه وخيباته، وأسئلته الوجودية القلقة المربكة. «غرفة الذكريات» هي الرواية التاسعة للروائي بشير مفتي، بعد روايات: «المراسيم والجنائز»،»أرخبيل الذباب»، «شاهد العتمة»، «بخور السراب»، «أشجار القيامة»، «خرائط لشهوة الليل»،»دمية النار»التي وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2012، و»أشباح المدينة المقتولة». و صدر له أيضا هذا العام، كتاب بعنوان «سيرة طائر الليل»، عن منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، وهو عبارة عن مجموعة نصوص/ شهادات ومقالات وقراءات وتأملات، كتبها ونشرها في فترات مختلفة وفي منابر متعددة/ جرائد ومجلات جزائرية وعربية، وهي في ذات الوقت نصوص تتناول سيرته الأدبية. «غرفة الذكريات»، روايتك الجديدة التي صدرت مؤخرا، رواية النوستالجيا السوداوية والمعاناة والتيه والضياع، رواية متعددة الأسئلة والشخصيات، ما قولك؟ بشير مفتي:ربما هي كل هذا، وأشياء أخرى كثيرة، لا أحب أن يُنظر للرواية من زاوية نظر أحادية أو أن توضع في قالب منمط كما جرت العادة عندنا فنحن نكتفي دائما بوضع النصوص داخل خانات ونغلق عليها الأبواب والنوافذ بينما كل ما يريده النص هو أن ينفتح على أكثر من باب ونافذة للدخول إليه ومحاورته. هي صحيح استعادة لذاكرة ألم ولكن لأفراح كثيرة وزمن مفقود لم يبق منه إلا القليل وهذا القليل هو الذي يشجع/يُحفز الراوي «عزيز مالك» على كتابة روايته الوحيدة بحثا عن هذا الذي ضاع منه في سنوات الحياة المجنونة والوحشية والأليمة والسعيدة كذلك. بطل الرواية مثقف آخر يحلم بالكتابة ويراها ملاذا وتعويضا وخلاصا، هذا البطل يتساءل «ما جدوى الحياة إن كنتُ لا أستطيع كتابة ذلك الذي أحلم به». الكتابة هنا كفعل موازٍ للحياة، بل هي الحياة ذاتها، والرواية بشكل ما تنتصر للكتابة، الكتابة المُنقذة، المُخّلِصة، ككاتب هل تؤمن حقا بأن للكتابة كل هذا الفعل وهذا السحر؟ بشير مفتي:الكاتب هو الشخصية الثانية لي في الرواية، وهذا لا يعني هو أناي الحقيقية، أي الرواية لا ترغب أن تكون سيرة للكاتب الحقيقي بل سيرة للكاتب السؤال، والكاتب القلق، والكاتب الذي يواجه وحشية واقع عنيف ومدمر والذي يطمح عبر الكتابة لاستعادة التوازن، وتملك الحياة والتعايش مع الهزائم وبناء الأحلام من جديد، أي أنه يحقق لي ما أرغبه منه الذهاب إلى أبعد نقطة في المأساة كما إلى أبعد نقطة في الحلم ومن غير شخصية الكاتب الذي يستطيع أن يحقق مثل هذه المغامرة بوعي نقدي كبير. الملاحظ أيضا أن رواياتك تتخذ من المثقف بطلا أبديا، ومن منطلقه ومحوره تدور أحداث وحيوات وحكايات رواياتك، هناك من يتساءل «لماذا روايات مفتي لم تخرج من عباءة البطل المثقف»؟ بشير مفتي:لا يوجد بطل في روايتي توجد شخصيات متعددة، فيها الروائي وفيها الشاعر وفيها الصديق البسيط الذي ينتقل من تجارة الممنوعات إلى أن يصبح مفتش شرطة وفيها الأب الحمّال والأم البسيطة وسائق سيارة الأجرة الشعبي وعدة مومسات وحبيبات وشخصيات كثيرة، لكن من يرصد كل هذه الدينامية هو الراوي الكاتب الذي يعيش قلقه وحيرته وتأزمه وهو يرصد واقعه المتنوع والمتعدد والمتألم والمزيف، ويحاول أن يتفهمه أو أن يشرحه لنفسه وليس لغيره. لا أفهم لماذا يوجد دائما هذا الاعتراض السلبي على شخصية المثقف والكاتب في الرواية، هذه خصوصيتي ومن يرغب أن يكتب عن شخصيات أخرى من الواقع ويجعلها بطلة هذا من حقه ولكن عليه فقط أن لا يجعل لنا من الفلاح أو الترابنديست مثلا أبطالا يفكرون ويتكلمون بلغة متعالية. كأنك تصر على اتخاذ صورة المثقف السلبي، كنموذج شبه دائم في أعمالك؟ بشير مفتي:ليس هنالك مثقف في روايتي، أنا أتحدث عن الشاعر والروائي والفنان وهي لا علاقة لها بالمثقف، أنا لا أتحدث عن غرامشي أي شخصية مثقف محارب في الواقع، أنا أتحدث عن شخصيات فنية هي بالضرورة هشة من الداخل وحساسة وتتفاعل مع الواقع برهافة وألم، وهي ترفض وتنتقد، لكن لا تقوم بدور ثقافي، هي تريد أن تعيش في واقع يحبطها، واقع يرفضها تمام الرفض وينظر لها ربما على كونها زائدة دودية، شخصياتي مثقفة بمعنى تملك ثقافة واسعة وعميقة وهي لهذا تعاني من الاغتراب في واقع مسطح وتافه ولا يهتم بإشباع عطش الروح والعقل بل كل ما يهمه هو إشباع البطن..الخ. أما ما تعتبرينه سلبية فهذا حكم قيمة على شخصية الفنان فهل هو سلبي موقف فان جوخ عندما أقدم على قطع أذنه وتقديمها لامرأة يحبها. هل نقول عن جوزيف ك أنه سلبي وهو يُقدم للمحاكمة من دون سبب ثم يشتق كالكلب، لنترك كل هذه التوصيفات الخارجية التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولننظر إلى الشخصية من داخل عمقها ونتأمل جراحها وأسئلتها ونحاول أن ننظر إلى الحياة التي تتحدث عنها. إنها سلبية الواقع وتفاهته وليس سلبية هؤلاء الفنانين الذين يقاومون من خلال الفن وليس بأدوار خارجية لا يصلحون لها على الإطلاق. «عزيز مالك»، بطل الرواية، يدور في دوامة من المعاناة والتشاؤم والخيبات والخرابات الداخلية التي لا تنتهي وتفضي به في الأخير إلى الإكتئاب، الإكتئاب كمصير لجيل بأكمله ومآل مرحلة بأكملها؟ بشير مفتي:قصة «عزيز مالك» هي قصة العديد من أبناء الأحياء الشعبية والعائلات الفقيرة، أي معاناته الأولى كانت مع الفقر وهذا كان يجعل حياته من البداية صعبة وقاسية، ومعاناته الواقعية كبيرة ومؤلمة. أردت أن أتحدث عن الفقر الذي عانته الطبقة الشعبية في مجتمعنا سنوات السبعينيات والثمانينيات أو ما بعد الاستقلال، هو ابن حمال في المرسى الكبير من عائلة فقيرة ومحافظة وكان عليه أن يشق طريقه في تلك الظروف القاسية وأن يتعلم ويدرس وينجح وينخرط في الحياة ويحب ويتألم شأنه شأن من تعرف عليهم في طريقه. وركزت طبعا على فترة عودة الحلم، والأمل السياسي مع عودة بوضياف وانغلاق هذا الحلم مع مقتله. حاولت أن ألعب بالزمن وأترك للزمن أن يلعب هو أيضا بشخصياتي، فالرواية مضغوطة في زمن الحانة/الحانات وزمن الذاكرة المتوحشة ثم زمن الحاضر 2010 وهو زمن التذكر والاستعادة، هو زمن مشوش بذاكرة الموت والقتل والحلم والحب، إن الاكتئاب يأتي بعدها ويغلق على الراوي الأفق لأن الحياة التي رغب فيها ضاعت منه. «عزيز مالك»، هو أيضا البطل والراوي في ذات الوقت، لماذا اخترت أن يكون الراوي هو نفسه البطل؟ بشير مفتي:تعودت على الكتابة بضمير المتكلم، هي طريقة من طرق كثيرة لسرد رواية لكن اعتبرها الأكثر قدرة على استغوار الشخصية من الداخل والأقرب إلى وجدان القارئ، فهو يتفاعل معها أكثر، وهو خيار ربما تفرضه موضوعة الرواية لا أقل ولا أكثر. الرواية تتطرق لمرحلة سياسية، وتتواصل أحداثها بين فكي الأمل واليأس، لكن اليأس هو الذي يقود كل تفاصيلها إلى النهاية، ما رأيك؟ بشير مفتي:أحيلك على الواقع الذي عشنا فيه، ونعيشه حتى الآن، ماذا تريدوننا أن نكتب عن واقع آخر، ربما هنالك من يقدر على اختراع «واقع مزيف» بديل للواقع الحياتي الذي عشناه وقاسينا منه، أنا لا أعرف كيف؟ أكتب هكذا، هذه هي رؤيتي للأشياء والحياة والوقائع. لا أفرض عليها يأسًا مصطنعا بل اليأس هو الذي يفرض نفسه، أما الأمل فهو أنني أكتب دائما وأقاوم عبرها كل ذلك. تراجيدية متواصلة، تحكي عن جيل بأكمله وعن مرحلة حساسة ومفصلية في تاريخه وفي حياته وأحلامه وخيباته، حتى الإهداء كان إلى هذا الجيل، ترى ما الذي بقيّ من هذا الجيل، وهل «غرفة ذكريات» الرواية، ألمت به واحتوته وعبرت عنه، أم يحتاج الأمر، إلى روايات أخرى لتنصف هذا الجيل المنهوك والمطعون؟ بشير مفتي:ربما يحتاج إلى روايات كثيرة من كُتاب آخرين، ولكن نحن تعودنا على القفز على المراحل بسرعة وطي الصفحة، إننا نرفض التأريخ الروحي لذاكرتنا. عندما نتحدث عن الرواية التاريخية كأنها فقط تلك التي تتحدث عن الأمير عبد القادر أو الحقبة العثمانية أو الثورة، التاريخ هو التاريخ الحاضر أيضا القريب من اللحم والعظم وهو أيضا تاريخ الأفراد وليس الجماعات فقط. أنا أكتب عن الحياة التي أعرفها وعشتها وأعيد تركيبها وتخييلها من جديد، فالكتابة الروائية ليست وثيقة تاريخية بل رؤية لواقع مضى أو لم يمضِ. أحيانا أقول لا شيء يمضي لأن الكتابة تستطيع أن تستحضر كل شيء وخاصة تلك التي يريد الجميع نسيانها وطي صفحتها بسرعة. يوجد الكثير من المرتزقة والقتلة والمزيفون من جيلي وأنا أتحدث عن علامات الضوء التي عانت لأنها تمسكت بخيوط النور في جبهة الظلام الواسعة التي أغرقت أرواحنا وأنهكتها ذات سنوات سوداء. رواية تنبش في الذاكرة، تستلهم منها وتتكيء عليها، هل التنقيب في ذاكرة شخصياتك وأبطالك يغريك إلى الحد الذي تتواصل فيه رواية كاملة في كنف أجواء الذكريات وذاكرة منهالة لا تتوقف عن ذر الماضي بكل حالاته وأحداثه وارباكاته؟ بشير مفتي:كل لحظة تمر من حياتك سرعان ما تدخل في سجل الذكريات وزمن الماضي، لو نتأمل الحياة جيدا لقلنا إنها عبارة عن وداع للحياة في كل لحظة، يصبح الماضي هو الأكثر حضورا في ذاكرة متعبة ومتألمة لأن ما يذهب لا يمكن تصحيحه أو تغييره ولا يمكن إلا استعادته عن طريقة تنشيط الذاكرة والخيال، أحب لعبة الغوص في السنوات التي كانت مشعة وقاتمة، أي التي زاوجت بين الأحلام والكوابيس، هو خط روائي مستمر. نزعة الموت والسوداوية حاضرة أيضا في «غرفة الذكريات»، هي نزعة متواصلة ولا تفارق رواياتك، لماذا؟ بشير مفتي:لنقل عندي رؤية سوداوية للحياة، أنا أتساءل دائما لماذا خُلقنا؟ ولماذا نعيش؟ ولماذا نموت؟ لماذا الحياة قصيرة مثل لحظات الفرح في حياتنا وحتى في حياة الشعوب كم هي قليلة وقصيرة، وتبرق بسرعة وتختفي بسرعة. الحياة معضلة وجودية وفلسفية والموت هو لغزها الأكبر، كل الكُتاب العالميين الكِبار يطرحون سؤال الموت، سؤال الحياة العابرة. هي أسئلة من صميم الحياة نفسها التي لا تَعِدنا في الحقيقة منذ أن نولد إلا بنهاية واحدة هي الموت. في روايتك هذه، كما في معظم رواياتك تشتغل على العشرية الدموية، وتحفر في سياقاتها وأحداثها وتنهل منها روائيا، لماذا هذا الارتباط وهذا الالتصاق بهذه الفترة السوداء، أليس من الضروري مثلا طرق موضوعات أخرى؟ بشير مفتي: أفضل أن أقول أشتغل على تاريخ ما بعد الاستقلال والحقبة السوداء هي الفترة التي يمر عبرها هذا التاريخ ويتوقف لينشد معزوفته المأساوية، معزوفة أليمة لم نتوقف عندها كثيرا، إنها لحظة مكثفة عنيفة شديدة القساوة وتطرح علينا أسئلة كثيرة، لقد كتبت مرة في شهادة روائية أن ما يهمني أكثر ليس الخارج أي تحديد تلك الفترة بقدر ما يهمني هو سؤال «الشر» لماذا الشر؟ لأننا زعمنا دائما أننا مجتمعات فاضلة أخلاقيا ودينيا وو.. ثم فاجأنا الشر في صورته القاتمة وهو يخرج من جلباب المُثل المتعالية التي ترفض حقيقتها الواقعية، إن في خلفية كل رواياتي توجد أسئلة فلسفية، قلة من ينتبه لها، لأن قلة من تقرأ بعُمق. ماذا بعد «غرفة الذكريات»؟ بشير مفتي:لا يوجد حاليا إلا مخططات لم تكتمل بعد ولا أدري إن كانت ستكتمل في القريب أم لا. س: ماذا عن كتابك الجديد والذي صدر أيضا هذا العام «سيرة طائر الليل»؟ بشير مفتي: «سيرة طائر الليل»كتاب قدمت فيه مقالات وكتابات نشرتها في الملحق الثقافي لجريدة «النهار» اللبنانية حيث كتبت لمدة سنة تقريبا بدعوة كريمة من الشاعر اللباني عقل عويط، وبعض المقالات الأخرى التي نشرتها في جريدة «الحياة» اللندنية ومقالات وشهادات شاركت بها في ملتقيات عربية ونصوص تنشر لأول مرة.إنه كتاب سيرة فكرية وثقافية ولا أخفيك أحاول أن أحضر لجزء آخر من هذا النوع لأنني نشرت مقالات كثيرة أعتقد أن بعضها يستحق أن ينشر في كُتب.