روح الملح ومبيدات الفئران... الوسيلة المفضلة للمنتحرين الجدد يبدو أن جسور قسنطينة لم تعد وسيلة "التنفيذ" المفضلة لدى الذين يريدون إنهاء حياتهم إراديا، حيث أن مصلحتي الإنعاش الطبي والاستعجالات الطبية بالمستشفى الجامعي بن باديس تسجل أعدادا متزايدة من محاولات الانتحار بتناول مواد التنظيف وفي مقدمتها "النظاف" وروح الملح وكذا مبيدات الفئران، مما جعل رئيس أطباء مصلحة الانعاش يصف الظاهرة ب "الوباء" نظرا لانتشارها السريع والمفزع. أما رئيس أطباء مصلحة الاستعجالات الطبية، فقد استند إلى دراسة أجريت بالمصلحة، تفيد بأن حوالي 1350 من حالات التسمم بمواد التنظيف التي تنقل إليها سنويا، إرادية، أي محالات انتحار وتتعلق معظمها بشبان وشابات تتراوح أعمارهم بين 15 و25 عاما. حالات عن مراهقين تناولوا "السم" فتاة في ربيعها العشرين، اجتماعية متفتحة على الحياة والناس. كانت تعتبر الحب من أول نظرة، مجرد وهم تروج له الأفلام والروايات والأغنيات، إلى أن التقت بذلك الشاب الوسيم، المرح والمثقف صدفة بمعرض للكتب. لم تستطع أن تقاوم ذلك الزخم من الأفكار والمشاعر التي اجتاحتها عندما تحدث إليها بحماس عن كل شيء وأي شيء... وعيناه تخترقان أعماق أعماقها... وبدأت أول سطور قصة حبهما التي تطورت بسرعة الى الاتفاق على الخطوبة والزواج فقد وجد كل منهما في الآخر مواصفات نصفه المفقود. ومضت الأسابيع والشهور وازدادت الفتاة تعلقا بفتى أحلامها وتصميما على الارتباط به بمجرد أن يحصل على قرار التثبيت والترسيم في وظيفته الجديدة. في مساء خريفي ماطر عاصف، حدد لها موعد لقاء مفاجئ... فهرعت إليه وهي تحلم بفستان الزفاف وعش الزوجية الهادئ الجميل، واذا به يخبرها بأنه قرر انهاء علاقتهما لأنه لم يعد يتحمل وجود شبان آخرين في حياتها... شرحت له بأنه الوحيد الذي يهيمن على قلبها ووجدانها وحياتها.. أما باقي الشبان الذين يتصلون بها هاتفيا أو تلتقي بهم من حين لآخر في الشارع أو الجامعة، مجرد أقارب أو زملاء في الدراسة أو جيران. لكنه صمم على الانفصال والفراق دون رجعة، ولم يبال بدموعها وتوسلاتها. كانت الصدمة جد عنيفة على العاشقة لدرجة أنها قررت توديع الحياة لأنها لم تتصورها دون فتاها... استجمعت شجاعتها، وفجرت كل أحزانها وخيبتها في لحظات جنونية أفلتت من سلطان العقل والمنطق وقوة الإيمان وشربت كوب قهوة غير عادي...لقد مزجت داخله كمية من السم المخصص لإبادة الفئران، ونقلها أهلها إلى مصلحة الإستعجالات الطبية وهي شبه ميتة، وعندما استيقظت من غيبوبة طويلة، وجدت نفسها في مصلحة الإنعاش الطبي وأول صورة قفزت إلى ذهنها صورة أخيها الصغير المعاق الذي تكفلت برعايته منذ وفاة والدتهما وهو يستنجد بها، فحمدت الله على نجاتها من موت مؤكد من أجله. *تلميذة في التعليم المتوسط في ال 15 من عمرها تنتمي إلى عائلة محافظة متعددة الأفراد...عانت منذ طفولتها على غرار أخواتها من تشدد وتعنت أخيها البكر، لكنها لم تكن مثلهن تذعن لأوامره وتستسلم بسهولة ودون نقاش أو احتجاج لكل ما يقوله أو يفعله...مما جعله يشدد عليها الحصار، ويتلذذ بإزعاجها واستفزازها دون أي تدخل من والدتها المغلوبة على أمرها ووالدها المنشغل دوما بتوفير لقمة العيش لنجدتها من عقده وأحقاده، وفي أحد الأيام حضر الأخ الشاب إلى البيت وهو في قمة الغضب، والشرر يتطاير من عينيه، وتوجه مباشرة إلى الغرفة التي كانت تراجع فيها دروسها، ليبدأ في سبها وإهانتها ثم ينهال عليها بالضرب المبرح وهي تصرخ وتستنجد دون جدوى...لقد إتهمها بالإنحراف هذه المرة وربط علاقة غرامية مع أحد الشبان، مؤكدا بأن أحد أصدقائه ضبطها مع عشيقها المزعوم! انهارت الصغيرة بسرعة واغتنمت فرصة انهماكه في الرد على اتصال هاتفي لكي تركض نحو المطبخ، وتشرب كمية محلول روح الملح، تم إنقاذها من الموت بأعجوبة على يد الأطباء، لكنها لا تزال تعاني من مضاعفات والتهابات شديدة على مستوى البلعوم والمعدة. *إطار جامعي في الثلاثينات من العمر، يملك كل خصائص الحياة المستقرة والمريحة المعروفة والمتداولة، السكن الأنيق، الوظيفة المرموقة، السيارة الفارهة والزوجة الجميلة...لكنه لم يستطع قط تجاوز الإكتئاب الذي حاصره في سن المراهقة عندما عاش مأساة تخلي والده عن والدته وأخوته وهم صغار، ليتزوج من إمرأة أخرى في سن بناته، عندما تزوج من فتاة أحلامه اعتقد بأنه عثر على السعادة المفقودة، لكنه سرعان ما صدم بالواقع، اكتشف تدريجيا الوجه الحقيقي لزوجته التي نزعت ثوب الرومانسية والهدوء، وظهرت كإمرأة مادية، غيورة متسلطة وأنانية، سليطة اللسان وعصبية لا يرضيها أي شيء...والطامة الكبرى أنها لا تستطيع كتم أي سر...فتنشر أسرار وأخبار حياتها الزوجية بين أفراد عائلتها وعائلته، وتسمح لهم بالتدخل في شؤونها نبهها لأخطار ذلك، وحذرها، وبخها، تشاجر معها، قاطعها، هجرها...لكن دون جدوى ولأنه لم يكف عن حبها، رغم كل شيء سقط في بؤر اليأس والإكتئاب والإنطواء والأمراض النفسية وانتهى به المطاف إلى محاولة الإنتحار بمزيج من المواد التي وجدها في البيت من ماء الجافيل، والنظاف، و"القريزيل". النفسانيون يحذرون الآباء من غلق أبواب الحوال ربط الإخصائي النفساني مسعود حشيش، من وحدة المساعدة النفسية بمستشفى بن باديس محاولات الانتحار التي زادت بمجتمعنا بالعديد من العوامل الأسرية والتربوية والاجتماعية التي تؤدي الى هشاشة وضعف الشخصية وقابليتها الى تدمير الذات والانتقام من النفس ومن المحيط تحت وطأة العقد والاضطرابات النفسية.. والعامل الأكثر تأثيرا والذي يشكل أرضية الشخصية غير السوية الهشة، هو اضطراب العلاقة بين الأب الذي يشكل المثل الأعلى والقدوة والإبن.. فالكثير من الآباء لا يعاملون أبناءهم على أساس العدل والمساواة بينهم، ويتفننون في تجريحهم وإهانتهم وتعنيفهم، ويغلقون أبواب الحوار والاتصال معهم وكأنهم بذلك ينفسون عن أنفسهم من مشاكل الحياة اليومية والارهاق ويشعرون بالأهمية والسلطة الأبوية. وهذا "الخلل" في العلاقة بين الأب والإبن يرسخ الرغبة في التمرد والانتقام ولو لجذب الانتباه والاستعراض. ومن تلقى تربية أسرية سليمة ونهل من حبّ الأب والأم لا يمكن أن يفكر في الانتحار شدد النفساني، وركزت بدورها زميلته نورة قرين على أن الاضطرابات العلائقية في كنف الأسرة هي في مقدمة الدوافع التي قد تؤدي الى محاولة الانتحار اذا تفاعلت مع المشاكل الأخرى مثل انفصال الوالدين والصدمات العاطفية القوية والفراغ وغياب الوازع الديني والأخلاقي والفقر والبطالة والأمراض النفسية أو العقلية... جوان الشهر المفضل للإنتحار كشف الدكتور بلمعطي أخصائي التخذير والانعاش بمصلحة الاستعجالات الطبية بالمستشفى الجامعي بن باديس بأن هذه المصلحة تستقبل سنويا بين 1200 و 1500 حالة تسمم، 90% منها إرادية أي محاولات انتحار، ثلثها تتعلق بتناول مواد التنظيف وفي مقدمتها "النظاف" وروح الملح وكذا حامض البطاريات. الطبيب أوضح بأن شهر جوان يشهد أكبر نسبة من محاولات الانتصار لأنه موعد الاعلان عن نتائج الامتحانات المصيرية، والغالبية العظمى من هذه الحالات تنتمي الى الشريحة العمرية بين 20 و 25 بالدرجة الأولى ثم تأتي بعدها الشريحة بين 15 و 20عاما، أما الشرائح الأخرى فهي أقل تضررا من الظاهرة مشيرا الى أن الأسباب التي تؤدي بهؤلاء الشباب والمراهقين الى اتخاذ قرار وضع حدّ لحياتهم تتراوح بين الرسوب والفشل الدراسي والمشاكل والخلافات العائلية مع الآباء أو الاخوة والمشاكل الزوجية المتفاقمة ثم تأتي بعدها المشاكل الاجتماعية من بطالة وفقر وغيرها. وأضاف بأن العلاج المكثف بالمصلحة يحقق النتائج المرجوة بالنسبة لأغلب المتسممين ويفشل في انقاذ حوالي 2% منهم. ويتم توجيه الناجين عادة لمستشفى الأمراض العقلية بجبل الوحش من أجل التكفل بهم نفسيا وذهنيا، ويخضعون للمتابعة الطبية الدورية من أجل علاج الأضرار العضوية والوظيفية الناجمة عن التسمم. والجدير بالذكر أن مصلحة الانعاش الطبي تسجل تزايدا "مفزعا" كما وصفه رئيس أطباء هذه المصلحة البروفيسور عبد الحميد أبركان في اعداد الأشخاص الذين يحاولون الانتحار بواسطة سموم الفئران وروح الملح و"النظاف" على وجه الخصوص وكأن الأمر يتعلق بوباء داهم. مما يحتم اتخاذ الاجراءات اللازمة للتصدي لهذه الظاهرة ومكافحتها من طرف كافة أفراد المجتمع انطلاقا من نواته الأولى: "الأسرة".