شغلت إشكالية تطور الأساليب الإبداعية النقاد و المفكرين منذ القدم· وقد تحول الانشغال بهذا التطور إلى اشتغال على أسبابه الفنية والجمالية و دواعيه الفكرية و التاريخية، فبحث النقاد في نشأة الجنس الأدبي و تبلور أشكاله و تمظهراته اللغوية و الدلالية عبر مختلف المراحل و العصور· ولم يكن الاهتمام بإشكالية الهاجس الجمالي التي تدفع المبدع إلى إبداع هذه الأجناس الجديدة وتوليدها من بعضها ليفلت من دائرة اهتمام الفلاسفة اليونانيين ومن جاء بعدهم ،نظرا لما يحمله العمل الأدبي من قيمة أخلاقية وفلسفية نظر إليها الفلاسفة اليونانيون كما نظر إليها غيرهم، من باب ما يمكن للعمل الأدبي أن يمرره إلى المتلقي من هذه القيم، فيتم بذلك ما يسعى الفلاسفة إلى توصيله على هذه المتلقي· وإذا كانت الأساطير اليونانية - على الأقل من وجهة نظر الفكر الغربي- هي أقدم ما وصلنا من مرويات دُونت فيما بعد و أصبحت معروفة بهذا الاسم، فإن تسارع عملية تدوين المرويات في الحضارة اليونانية وفي غيرها من الحضارات، قد أدى إلى تسارع طرائق تسجيلها ومن ثمة تعدد تمظهراتها على مستوى الكتابة،مما أدى، مع مرور الأزمنة و المراحل، إلى ميلاد أشكال جديدة للتعبير الأدبي الذي ما انفك يزداد اختلافا عن التعبير العادي العام نظرا لما يحمله من خصائص جمالية كانت في صلب اهتمام هؤلاء النقاد و هم يحاولون ضبط الأطر اللغوية و الدلالية التي تجعل من أية كتابة أدبية مختلفة عن الكتابة غير الأدبية من جهة، و مختلفة عن الكتابة الأدبية التي سبقتها من جهة أخرى· و على الرغم مما يمكن أن يحسب لهوميروس من سبْقٍ- من وجهة النظر الغربية دائما- في التأسيس لانتقال العمل الأدبي من الشفوية إلى التدوين، من خلال أعماله الشعرية المطولة (الإلياذة و الأوديسة)التي أعلنت ميلاد جنس أدبي جديد هو الملحمة، فإن ما يمكن تسميته ب(شجرة الأجناس الأدبية) سيشهد تفريعات جديدة على مستوى أشكال التعبير الأدبي نظرا لما شهده الفكر البشري من تطور على مستوى ضبط المفاهيم الأخلاقية وتحديد المعايير الفنية و الجمالية التي يجب أن تتوفر في العمل الأدبي· نرى ذلك جليا في ما بذله الفلاسفة اليونانيون عامة و أرسطو خاصة في كتابه (فن الشعر) من مجهود تنظيري عميق و هو يحاول أن يجد الغاية المثلى التي يمكن أن يستخلصها الدارس لجنس أدبي جديد وُلِدَ بشكله الحالي في اليونان بطريقة تراكمية من صلب الشعر الغنائي الذي كان الشعراء الجوالون يلقونه في الأسواق و المحافل في الأعياد و المناسبات· و هذا الجنس الأدبي هو المسرح الذي طوّره رواد المسرح اليونانيون (أسخيلوس) و (سوفوكليس) و (يوربيدس)، فأضافوا للفرجة التي كان يُحدِثها الشاعر الغنائي و هو يقرأ القصائد الطويلة التي كانت تحكي عن أمجاد اليونانيين و تاريخهم ممثلا واحدا، ثم ممثلين اثنين، ثم أكثر من ذلك من مستلزمات نقلت النص الأدبي مما يسميه النقاد المعاصرون ب(السرد) الذي كان من خصائص الأسطورة إلى ( الحوار) الذي ولّدته متطلبات التطور التي شهدها المجتمع اليوناني، فانتقلت بذلك العملية الإبداعية من طرائق فنية و جمالية قديمة على طرائق فنية و جمالية جديدة للتعبير عن نفسها لقد أخذ فن المسرح بوصفه جنسا جديدا على المجتمع اليوناني، من جنس (الأسطورة) حكايتها، أي قصتها، و من الشعر بنيته، أي إطاره، و من الشعر الغنائي طرائق تعبيره القولية و الجسدية(Verbales et Gestuelles Expressions) و حاول من خلال كل ذلك أن يحافظ على ما سيسميه (غريماس) لاحقا بمنطق السرد المتوفر في كل أشكال التعبير القصصية، دون الخروج عن عناصر (الوحدة العضوية) و (الحبكة) و (العقدة) و( الحل) التي كانت متوفرة في الأجناس الأدبية السابقة بنسب مختلفة· و قد أدى توفر هذه العناصر في العمل المسرحي بأرسطو إلى اعتباره عملا متكاملا يحقق الفرجة من خلال (المحاكاة) التي يقوم بها الممثل من جهة، و يحقق (التطهير) (Catharsis)الذي يحدث للمتفرج عند مشاهدته لمسرحية من المسرحيات من جهة ثانية· و لعله بسبب هذين العنصرين (المحاكاة و التطهير) أُطلق على المسرح اسم (أبو الفنون)· و سنرى أنه، و منذ أن اكتملت البنية الفنية و الجمالية لفن المسرح بوصفه جنسا أدبيا جديدا أضيف على شجرة الأجناس الأدبية، لم تنفتح العملية الأدبية على مخاض يشي بميلاد جنس أدبي جديد· و قد بقيت أشكال التعبير الأدبي تعيد نفسها من خلال استعمالها للأجناس الأدبية نفسها طيلة الفترة التي شهدتها الحضارة اليونانية ثم الحضارة الرومانية وما تلاها من تراكم أدبي وفني و جمالي شهدته الحضارة الأوربية حتى العصر الكلاسيكي· و لم تكن (الأدبية) التي سادت خلال الحضارة الرومانية من وجهة نظر النقاد الغربيين أنفسهم، إلا مرحلة محاكاة للأجناس التي كانت موجودة في الحضارة اليونانية· فمثلما كان (فرجيل) الروماني و ملحمته (الإنياذة) التي تؤرخ لأمجاد الرومان يمثلان المعادل الموضوعي ل (هوميروس) و ملحمته (الإلياذة) التي أرخت لأمجاد اليونان، كان (هوراس) الروماني و كتابه (فن الشعر) يمثلان المعادل الموضوعي ل(أرسطو) اليوناني و كتابه (فن الشعر)· و على الرغم من مرور أزمنة طويلة على ميلاد هذه الأجناس و تبلورها، إلا أن منطق الحكم النقدي على الأعمال الأدبية الكثيرة التي شهدتها هذه الفترة كان يخضع للمنطق الجمالي نفسه الذي حددت معظم أُطرهِ الفنية و الجمالية الفترةُ اليونانية و ما شهدته من تفاعل فكري و فلسفي و تلاقح تاريخي و اجتماعي انعكسا على العملية الأدبية، فتغيرت بموجب ذلك النصوص الأدبية في بنياتها الشكلية و أساليبها اللغوية و أنساقها الدلالية في العصر اليوناني، وركنت إلى الجمود فيما تلاها من العصور الأخرى· و كأن ميلاد الجنس الأدبي الجديد إنما يجب أن يخضع لآلية تسارع تاريخية و فكرية و فلسفية و اجتماعية لكي يتم بموجب كل ذلك تكوّن الرحم الذي يحمل هذا الجنس، و خلق المكان الذي يستقبله، و تهيئة الشرط الإنساني الذي يدعمه بالرؤية النقدية المقنعة فيتهيأ له بذلك شرط البقاء و أحقية الاستمرار· و يلاحظ مؤرخو الأجناس الأدبية أن هذه الأجناس قد بقيت على حالها حتى في العصر الكلاسيكي القريب من عصرنا الحالي، لا في تصنيفاها بوصفها أجناسا فحسب، و لكن في بنيتها الفنية و الجمالية التي تحيل إليها بوصها أجناسا، و ذلك على الرغم مما شابها من تغير في الموضوعات( غياب البعد الأسطوري الخرافي و حضور البعد الديني المسيحي)، و ما شابها كذلك من تغيّر في طرائق التعبير اللغوي (غياب البلاغات اللغوية المرتبطة باللغات القديمة اليونانية و اللاتينية و تبديلها ببلاغات مرتبطة بما يحمله العصر الكلاسيكي من مستجدات)، و ما شابها من تغير في الموضوعات التي تطرحها هذه المستجدات· غير أن العصر الكلاسيكي(1550/1675) كان يحمل في طياته بذورا خفية لحركية إبداعية في غاية السرعة و التعقد بدأت تظهر في العديد من النصوص التي كانت تعتبر مهمشة أو مارقة في ذلك الوقت، و التي كانت إنذارا بقرب ميلاد هذه الحركية· و ذلك من خلال تخلي أصحابها عن الأسس التي بني عليه المذهب الكلاسيكي في تطبيقه المفرط و الصارم لقواعد الفن الأدبي كما جاء بها أرسطو في كتابه الشهير (فن الشعر)· وقد مكن هذا (الخروج) عن (الأدبية) التي سنّها أرسطو و احترمها الكلاسيكيون، من التمهيد لما سيحدث من وعي في دينامية الفكر الغربي التي لم ترضخ للقراءة الكلاسيكية للموروث اليوناني التي دامت ما يقارب السبعة قرون، و إنما حاولت جاهدة أن تعيد قراءة هذا الموروث قراءة جديدة وفق ما مكنته منها تجليات التفكير العقلي في عصر النهضة ممثلة في الفيلسوف ديكارت، بناء على الاكتشافات العلمية و الثورة الصناعية و التغير الاجتماعي· و لعل هذه العناصر الثلاثة هي التي مكنت بطريقة أو بأخرى من ميلاد المذهب الرومانسي الذي سيحمل بوادر التغيير على مستوى إعادة تشكيل النظرية الأدبية وفقا للمعطيات الإبداعية التي كانت موجودة في أرض الواقع، و المرتبطة هي الأخرى بالتغير الاجتماعي الحاصل في بنية الفرد الأوربي· لقد أدت دينامية الحراك الحضاري المتولد عن التفكير العقلي من جهة و التطبيقات العلمية من جهة ثانية إلى إعادة النظر في العديد من المفاهيم الفنية و الجمالية التي لم تعد تطبيقاتها على مستوى النص الأدبي تتناسب مع روح العصر· و قد ظهرت في خضم التغييرات في النظرة للعمل المسرحي إلى التخلص من القالب الذي كان يُصبُّ فيه وهو الشعر، فأبصح المسرح يُكتب نثرا،و انفصل الشعر في الإبداع الغربي لأول مرّة عن الأجناس الأخرى اللصيقة به· و بات يُنظر إليه على أنه جنس أدبي لوحده· و بناء على ذلك،ونظرا لاعتبارات تاريخية مرتبطة ببداية استعادة أوروبا لقوتها، انفصلت حكايات البطولات الجديدة للإنسان الغربي عن الشعر و أصبحت هي الأخرى تُكتب نثرا ( روايات الفرسان)، مثلما قلت الملاحم الأدبية بشكلها الذي كانت تظهر به سابقا· و لعل أهم عامل حاسم في تغير الأجناس الأدبية في العصر الرومانسي (1675/1800) هو تخلي الأجناس الأدبية الأخرى عن الشعر بوصفه إطارا و قالبا لصيقا بها· و قد مكّن هذا التخلي الشعرَ من أن يصبح جنسا أدبيا يكتب بذاته و من أجل ذاته· و قد وجد الرومانسيون في ذلك حرية كبرى للتعبير عن عواطفهم بطريقة لا ترضخ لمعايير مسبقة مما أدى على تطور الشعر واستقلال نظريته الأدبية عن الأجناس الأخرى· و بالمقابل، مكن هذا الانفصالُ الكتاب و المبدعين من كتابة المسرح بأساليب نثرية في غاية التطور والاختلاف بالنظر إلى ما كان سائدا في المذهب الكلاسيكي· كما مكن هذا الانفصالُ كتاب الملاحم من كتابة قصصهم المطولة في شكل روايات كانت بمثابة النواة الأساسية لميلاد الجنس الجديد و هو الرواية التي ستترسخ في القرن الثامن عشر بطريقة جذرية نظرا لما استطاعت أن تطوّره من بنية فنية وجمالية انعكست على موضوعاتها و بنياتها و أساليبها· و لعل هذا ما جعل المذهب الرومانسي من أكثر المذاهب الأدبية ثورية، و ذلك بالنظر إلى تخليه عن الرؤية الإبداعية والنقدية التي كانت تسيطر على مفاهيم النظرية الأدبية بصفة عامة في العصر الكلاسيكي، و محاولته تجاوزها إلى آفاق إبداعية جديدة فتحتها مستجدات العصر الجديد الفكرية و الجمالية و فرضتها تغيراته التاريخية و الاجتماعية· و لعل عودة النثر بوصفه عاملا أساسيا في أشكال التعبير الأدبي، قد أدت إلى صياغة النص الأدبي صياغة لغوية تعتمد على معايير بلاغية و فنية وجمالية غير مرتبطة بالبلاغات التي كان المنظر يفرضها على النص من خلال استعمال الكاتب للشعر بوصفه إطارا مفروضا· كما أن عودة النثر قد أحيت الرغبة في الحكي دون الخضوع لموازين الشعر، ومن ثمة أحيت عنصر السرد الذي أصبح أكثر اهتماما من طرف النقاد، و من طرف النظرية الأدبية· و الأكيد أن هذه العناصر كلها قد أدت إلى بلورة نشأة الرواية بوصفها جنسا أدبيا أستطاع أن يعكس مجمل القيم الأخلاقية والفسلفية والجمالية التي حاول أرسطو أن ينظر لها في فن المسرح· إن تغير النظرة إلى هذه القيم ناتج عن شمولية الحراك الاجتماعي الذي شهدته المجتمعات الغربية في أروربا· و هو ناتج كذلك إلى عمق المقاربات التي كان يحملها الفلاسفة والمفكرون في دراستهم لبنية هذه المجتمعات· و من هنا، كانت الرواية عبارة عن ملحمة حقيقية تعكس الحراك التاريخي والاجتماعي الذي شهده عصر النهضة· و لذلك، فهي لم تكن طفرة أدبية وليدة الصدفة التاريخية و لا وليدة التكديس المعرفي، و إنما كانت وليدة لحظة وعي عميق بما يمكّن العصر من التعبير عن نفسه بطريقة صادقة· و لعلنا بهذا نفهم التعريف الذي صاغه ناقد متأخر هو جورج لوكتش والذي يقول إن (الرواية هي ملحمة بورجوازية)· إن انتقال المجتمع الأوروبي من البنية الإقطاعية التي كانت تحكم معظم اقتناعاته الفكرية و الجمالية، إلى البنية البورجوازية المدعمة بالتفكير العقلي والتطبيقات العلمية، قد سرّع عملية الانتقال إلى صياغة هوية أدبية جديدة على مستوى الأشكال وعلى مستوى المضامين· و قد أدت هذه الهوية الجديدة إلى تفرّع جنس القصة القصيرة عنها بطريقة تحيل إلى تفرع (الخرافة) عن (الأسطورة) أو تفرع (القصيدة) عن ( الشعر الغنائي المطول)· وإذا كانت الرواية قد اصبحت تمثل الجنس الأكثر كتابة والأكثر قراءة في العصر الحديث، فإنه يجب التذكير بأن (شجرة الأجناس الأدبية) إنما انطلقت: - من الأصل إلى الفرع من حيث المواضيع( من قصة خلق الإنسان في بداية التكوين إلى قصة أي إنسان كان في أي مكان)، -و من الأكبر إلى الأصغر من حيث طرائق التعبير (من الأسطورة بوصفها جنسا مفتوحا بإمكان الأجيال أن تضيف إليه إلى القصة القصيرة المغلقة التي لا تحتمل أية إضافة)، - و من المركب إلى البسيط من حيث عدد الأجناس ( الأسطورة التي تكتب شعرا، أو الملحمة التي تحكي أسطورة بقالب شعري، إلى القصة التي تحكي قصة بأسلوب قصصي)· بناء عليه، فإن تفريعات (شجرة الأجناس الأدبية ) عادة ما تحترم طبيعة النمو التي تخضع لمعايير غائبة عن رؤية الناقد الاستباقية، و لكن درْسَها حاضرٌ في رؤية الناقد الاستخلاصية· و هي معايير تَمكَّن الناقد من استخلاصها بناء على معاينته لهذه الشجرة معاينة مكنته من القول بأن تفرع أي جنس جديد عن هذه الشجرة إنما هو خاضع لأطر فنية و جمالية مرتبطة بشرط تاريخي خضع هو الآخر لفترة بيات شتوي(Hibernation) لا يمكنه أن يعرف مدّته مسبقا· و لعله لهذا السبب كانت الإبداع يسبق التنظير للإبداع، و النص الإبداعي يسبق النص النقدي· و قد يكون تأخر الناقد عن العملية الإبداعية هو الذي جعله يلاحظ أنه على الرغم من اختلاف أشكال التعبير القصصية و اختلاف تجلياتها السردية،إلا أن السرد يظل واحدا في منطقه الباطن لا يتغير · ذلك ما لاحظه أرسطو في كتابه فن الشعر من خلال حصر مساحة السرد بين وضعيتين أساسيتين: وضعية سعيدة و وضعية تعيسة· و هما نقطتا البداية و النهاية التي يمر من خلالهما البطل بمرحلة (ارتكاب الخطأ) و من ثمّة (التحوّل)· ولعل هذا ما جعل غريماس و الشكلانيين الروس عامة يجتهدون داخل المساحة التي حددها أرسطو لإيجاد واحد و ثلاثين وظيفة في كل قصة محكية مهما كان الجنس الذي حكيت به ومهما كان المكان،ومهما كان الزمان · و هي الوظائف نفسها التي شكلت ما سمّوه ب(منطق السرد)( logique du récit) الذي لا يخرج عن التأريخ لحادثة ميلاد الإنسان و موته سواء عُبِّر عنها بأكبر الأجناس و أقدمها (الأسطورة)، أو بأصغر الأجناس و أحدثها (القصة القصيرة جدا)·