نشرت القصة في جريدة الحوار الغراء يوم 10-06-2010 العدد:983 وقد كانت القراءة النقدية رائعة استقطبت جمهور القراء والنقاد ومنهم على سبيل المثال لاالحصر الأستاذ الناقد معروف محمد آل جلول حيث قال: .. وقفت متمتعا بهذا العمق في تناول جواهر هذه السردية المختزلة لحكم يتغذاها هذا المخلوق المبتلى من أضعف مخلوقات الله..اليمامة..وسيميائياتها النفسية والاجتماعية.. كما استوقفني البناء الفني الممنهج..في تقصي بناء السردية في ثوبها القشيب.. والأجمل .. هو ربط الحكاية بأصولها عبر الإشارة إلى مصادرها الثقافية... سردية منطق الطير في قصة ( يمامة.. بأعلى الشجرة) يتخذ السرد في قصة( يمامة.. بأعلى الشجرة) منحى ارتجاعيا في تقديمه لصورة البطل وهي تتشكل شيئا فشيئا أمامنا تحت وقع اللغة الخارجة لتوّها من معجم مفتوح على دقائق الحياة و صغائر الأحداث التي تكتنز (كبائرها). و منذ البداية، تحيل العتبات الأولى القارئ إلى أصول المعرفة الإنسانية المعلقة على جناحي طائر منذ أن كان الإنسان إنسانا لتذكيره بأقدمية الفعل المعرفي المرتبط بالخلق وصيرورة تداعياته على حضورية الإنسان في آنية معايشته للتجربة المتجددة. وتتم الإحالة من خلال عنوانها الذي يدل على عنصرين أساسين في تمرير المعرفة، و هما: الطائر و الشجرة. وكلاهما يحيل إلى أقدمية ارتكاب الخطأ الإنساني أمام شجرة المعرفة التي ترمز إلى قصة الخلق، و أقدمية البحث عن مخرج للخطأ من خلال الإصغاء للطائر بوصفه دالا إلى طريق الوصول إليها. وتصبح اللغة عاملا فاصلا في تحديد المسارات الارتجاعية من خلال توظيف دقيق للقاموس المعبأ لتوصيف الحالة المنشطرة في طرحها الفلسفي إلى رؤيتين اثنتين: - رؤية الإنسان و هو يعايش فراق نصفه الآخر الذي يخبر بانتهائه وفراقه للحياة هو كذلك لولا بقية من بصيص أمل آت، مما يعطيه الكثير من اليأس الضامر في أتون التفاصيل فلا يستطيع أن يجد له حلا على الرغم من وعيه الحاضر في فعل المشاهدة. - رؤية الطير (اليمامة في هذه الحالة) وهو يقدم الدرس الأولي الذي يعبر عن تلقي الإنسان المتلفع ببراءة الخطأ التراجيدي للمعرفة. ذلك الإنسان الذي يؤدي به الغرور إلى نسيان أبجديات التصرف العقلاني أمام وقع الحادثة التاريخية المتمثلة في الفقد، سواء أكان هو سببا فيه، أو كان شخص آخر أو ظروف أخرى هما السبب. و لطالما شكلت هاتان الرؤيتان إشكالية تجاذبية بين القائلين باصطلاحية المعرفة و القائلين بتوقيفيتها. نرى ذلك جليا في ما رواه لنا القرآن الكريم من قصة قابيل مع أخيه هابيل التي وظفتها القصة كخلفية مرجعية لتدعيم معقولية إنصات الإنسان المعاصر للطير بوصفه أداة ضعيفة لكنها قادرة على تمرير قوّة الفعل المعرفي، في حين أنه فعل غير معقول بالنسبة للبطل المعاصر و بالنسبة لآنية محيطه الذي يعيش فيه. ولئن أدت هذه القصة إلى الإنصات والتمعن في ما يفعله الغراب كمعرفة توقيفية تتجلى للإنسان في لحظات اليأس والقنوط التي يمر بها، فإن التاريخ الإنساني عامة وتاريخ الأدب خاصة مليئان بتوظيف الطير بوصفه رمزا ليقينية المعرفة الماورائية عموما، سواء أكانت نذير فأل أم نذير شؤم كما جاء في القصة. و نرى ذلك في قصة سيدنا سليمان عليه السلام مع الهدهد في سرعة تحقيقه للمعرفة الفاصلة. ونرى ذلك في الحكاية الصوفية في كتاب (منطق الطير) لفريد الدّين العطار حيث تتماهى قدرات الطائر الباطنة (الإرادة الواثقة) مع قدرات الإنسان الظاهرة (التَّوق) في الوصول إلى الحقيقة الكبرى عندما يقابل الطير المرآة العظيمة، فلا يرى غير حقيقته التي لا تخرج عن حقيقة المخلوقات التي من ضمنها الإنسان، وتعلّقها بالوصول إلى الدرس الابتدائي الذي تلقاه هابيل في بداية الخلق من خلال ارتكاب الخطأ المؤدي إلى المعرفة. ونرى ذلك كذلك في العديد من القصص المشهورة على ألسنة الطيور والحيوانات، وعلاقاتها بتوصيل المعرفة الغائبة عن الإنسان في لحظات تكون فيها الذات غير متحكمة في معايير الاندراج ضمن الصورة العامة التي تسيّر بقاءه وحركيته في وعي المنطق الخالد، لأنه من السنن الكونية، وهو منطق درء المضرّة وجلب المنفعة. و ربما كان وقع الدرس أقوى على الإنسان (البطل) في قصة ( يمامة ..بأعلى الشجرة ) لأن اليمامة بما ترمز إليه من ضعف كانت أصبر على ما يمكن أن يصيبها، و أقوى في مواجهة تبعاته، وأكثر حكمة في إيجاد المخارج الأكثر منطقية من داخل دائرته الوجودية المنغلقة على نفسها. وذلك من خلال تجاوز حالة الانغلاق الوجودي المغلفة بالحزن و البكاء واليأس إلى حالة الفعل المتفحص لجدارة الاهتمام بالحركة المستقبلية للحياة باعتبارها صيرورة فعل دائم لا يمكن أن ينقطع بالفقد أو بالغياب أو بارتكاب الخطأ. تدعم قوة اللغة السردَ في تحقيق المبدأ الأساسي و هو تحريك مساراته الحكائية والدفع بالقصة إلى مآلاتها النهائية ضمن حركية لا تخطئ المرور بالتشويق والعقدة و الحلّ بوصفها عناصر أساسية لتحقيق شرطية البناء السردي المتعارف عليه عموما. و ما يلاحظ في لغة هذه القصة، و هي لغة تكاد تكون طاغية على الكتابات القصصية للقاص محمد الصغير داسه، هو ارتكازها على قوة الكلمات واستاطيقية دلالاتها اللغوية الأصلية، وكأن اللغة لا يمكن أن تكون أكثر انزياحا في تشكيل بؤرة تخييلية تقذف بمسارات السرد إلى مساحات غير مطروقة من العجائبية، أو أكثرَ انفتاحا على عوالم التخييل اللامتناهية التي تتيحها العملية الإبداعية وهي تنسج خيط الرداء السردي الذي ينهل من الذات و من العالم، وليس من قاموس الذاكرة المطبوعة على رؤية لغوية واحدة و كأنها تسارع إلى إضفاء اللبوس الأخلاقي على النهاية التي يجب أن يؤول إليها السرد عموما، و هي عملية (التطهير) التي طالما شغلت منظري الأدب منذ عهد أرسطو في كتابه (فن الشعر) إلى يومنا هذا. وهي العملية التي يرجو منها الأديب إيصال الدرس الأخلاقي المعياري للقارئ من دون البحث عن طرائق أخرى لإمكانية توصيله بوسائل تخييلية ربما كانت أقل تكلفة من حيث استعمال الطاقات اللغوية داخل مساحة السرد، ولكنها أكثر اكتنازا وإبهارا في ترتيب المعطى الدلالي داخل النسق العام للقصة. يبقى أن القاص محمد داسه، من خلال هذه القصة، ومن خلال العديد من قصصه المنشورة في مجموعتيه الصادرتين مؤخرا، لا يفتأ يبحث له عن مدخل أدبي مفعم بطاقة سردية كبيرة آثر أن يسخرها لخدمة القصة القصيرة كجنس يهتم بجزئيات الحياة اليومية واكتنازاتها الفكرية و الجمالية، من دون أن يلج عالم الرواية برؤيتها الملحمية المطولة التي نتمنى أن يدخلها بصفاء تخييلاته السردية التي يستطيع أن يؤكد من خلالها أن اللغة قادرة على تحقيق مساحة التخييل الصافية من دون السقوط في الدرس الأخلاقي الجاهز من جهة، أو السقوط، من جهة أخرى، في الاستعمالات الممجوجة التي يريد بها أصحابها الوصول إلى الشهرة على حساب فضائحية الرؤية التي شاعت عند العديد من الأدباء والأديبات في العالم العربي والجزائر والتي تقول بأن الأدب يجب أن يكون (مدنّسا) لكي ينفذ إلى أعماق الذات المكبوتة للقارئ المتعطش لرؤية نفسه في المرآة...وبالله التوفيق. للقاص محمد الصغير داسه.