إن الحديث عن منطقة الأوراس يقودنا للحديث عن كل ما هو نابع من الأصالة والتراث، ويدفعنا لأن نتمعن أكثر في ما تحمله ذاكرة المنطقة من معالم أثرية وسياحية، وحتى جبلية، فمن أراد أن يكتشف الثراء الجمالي والطبيعي للجزائر فليتجه إلى باتنة الواقعة بالشرق الجزائري، فهناك يجد كل معالم الحب والجمال التي تزخر بها المنطقة ·· إذن، باتنة أو عاصمة الأوراس يعتبرها السياح الأوروبيون قبلة لهم حيث يقدمون من كل حدب وصوب للتعرف عن قرب على آثار تيمقاد تلك المدينة الرومانية الصامدة برغم مرور السنين وتحالف الدهر ضدها، كما نجد بها القلاع في كل من منطقة أريس وتكوت ومنعة ومعافة وتقوار وبابار وجميلة مما يدل على أن المنطقة متشبعة بإرثها الثقافي وأنها بالفعل حاضنة للحضارة الرومانية والأمازيغية والعربية، جميعها مرت من هناك لتخلد ذاكرة المنطقة وذاكرة التاريخ ··وببتانة أيضا، إكتشفنا أن هناك زخم كبير وتنوع في العادات والتقاليد والأكلات الشعبية، كما وجدنا أن الحركة الثقافية لا تزال بخير، وأنها تساهم بشكل جدي في فرض حضورها وإثبات وجودها، سواء كان ذلك في المسرح أو الموسيقى أو في مجال الفن التشكيلي ·· والأكثر من ذلك، فحين تدخل عاصمة الأوراس تشعر بالأمان خاصة حين تقرأ أية ''ربي اجعل هذا البلد آمنا'' بمدخل المدينة، وبالفعل من يدخل الأوراس فهو آمن· الحركة المسرحية موجودة بباتنة الساعة كانت تشير إلى 10 صباحا حين توجهنا إلى المسرح الجهوي الواقع بوسط المدينة، ما لحظناه أن أشغال ترميم المسرح إنتهت، مسرح باتنة لا يختلف تصميمه كثيرا عن المسارح الجهوية الأخرى الموجودة بقطر البلاد، ولعل الشيء الوحيد الجميل الذي خلفه الإستعمار الفرنسي هو تلك المسارح ذات التصاميم الجميلة، وما يلاحظ بالساحة القريبة من المسرح أنها تحولت لتجمع للفنانين ومثقفي المنطقة، فقد وجدوا ضالتهم هناك، حيث يلتقون يوميا تقريبا للحديث عن أحوال الفن والثقافة بالمدينة· وكما أفادنا به مرشدنا، فإن المرحوم كاتشو كان يتردد يوميا على ذلك المكان رفقة صديقه حسن دادي ·· ونحن هناك، إلتقينا، صدفة، بالفنان نصر الدين حرة مطرب الأغنية الشاوية، تحدثنا معه بعد أن كشفنا عن هويتنا، فعبر لنا عن مدى اعتزازه بانتمائه الأوراسي، وبالأغنية الشاوية المستلهمة من عمق الأوراس، كما حدثنا عن محله لبيع الأشرطة والأقراص الواقع بوسط المدينة، وبالضبط بشارع ''طريق بسكرة''، ضربنا له موعدا للقائه مرة أخرى بمحله ·· حين دخلنا المسرح، إستقبلنا بحرارة، جمال الصغير مسرحي ومكلف بالإعلام، فهو صديق قديم إلتقيته أكثر من مرة خلال مهرجان مستغانم وبلعباس، كشف لنا جمال عن بعض التفاصيل المهمة والبرنامج الجديد للمسرح الذي هو بصدد تحضير مسرحيتين سيشارك بهما في مهرجان المسرح الوطني هذه السنة، كما حدثنا عن لطفي بن سبع الفنان المسرحي الذي أحدثت أعماله المسرحية ضجة كبيرة في الآونة الأخيرة، وقد أكد لنا محدثنا أن المسرحي لطفي الذي أصبح مؤخرا مديرال لمسرح أم البواقي بصدد تحضير مسرحية رفقة المسرحي جهيد الدين الهناني من ولاية بلعباس، وبخصوص نشاطات المسرح أكد لنا جمال أنها تتسم بالنشاط، وأنها تقدم في معظم الأحيان عروضا مسرحية تخص الكبار والصغار، وأكد لنا صديقنا أن المسرح بباتنة يبذل جهدا كبيرا من أجل ترسيخ الثقافة المسرحية في أوساط الناس، كما أن مدير المسرح يحاول خلق جيل مسرحي جديد لتقديم الأفضل لهذا الفن بمساعدة سليم سهالي الذي يعتبره الكثير من المسرحيين الجدد الأستاذ والقدوة الحسنة لمسرح ناجح· دوبارة بسكرية بنكهة شاوية بعد هذا اللقاء شعرنا بالجوع، والمعروف أن المنطقة تتميز في هذا الفصل ببرد شديد، خاصة وأن جبال الأوراس كانت مغطاة بالثلوج، فكل تلك الأسباب جعلت درجة حرارة أجسامنا تنخفض، وما فكرت فيه آنذاك، هو طبق ساخن عله يعيد الدفء إلى جسمي بعدما فقد حرارته، فبرد باتنة لا يختلف كثيرا عن برد منطقة تمنراست أو جانت ليلا، أو حتى عن برد أولاد نايل نهارا، وما فكر فيه مرشدنا هو أن نتوجه إلى مطعم شعبي بالقرب من إذاعة الأوراس مشهور ببيع ''الدوبارة'' الأكلة الشعبية التي تتميز بها منطقة بسكرة الواقعة في الجنوب الشرقي للوطن، وبحكم قرب المسافة بين باتنة ومدينة الزيبان، فإن بعض التقاليد تكاد تمتزج، أما بالنسبة للدوبارة فهي عبارة عن خليط بين الفول والحمص يضاف إليه ''الهريسة'' الحارة وتوابل أخرى، وبمجرد دخولنا المطعم شد انتباهنا أن الزبائن كلهم رجال، وكنت أنا المرأة الوحيدة، في تلك الأثناء كانت الأصوات وأطراف الحديث متعالية بين الزبائن، وبمجرد ما دخلت رفقة المرشد عمّ الصمت المكان، وتذكرت حينها عادات الرجل الشاوي التي تميزه عن غيره من الرجال، ولعله الأمر الذي جعله يحترم المرأة إلى درجة التقديس، ونحن نتمعن في المطعم حتى قدم النادل، وأخذ يجهز الطاولة في صمت وخلال ثواني أحضر وجبة الدوبارة الساخنة في طبق من الفخار مزين برموز أمازيغية، وحتى قارورات الزيت الزيتون هي الأخرى كانت مزخرفة بلمسات أوراسية ·· تناولت الطبق وطلبت المزيد، حينها شعرت أن جسمي عاد إلى حالته الطبيعية ·· ما يميز دوبارة الأوراس أنها مواد إعدادها مضاعفة مقارنة بنظيرتها البسكرية ·· ونحن على وشك الانصراف تقدم إلينا صاحب المحل ورحب بنا مرة أخرى، وطلب منا أن نتناول طبقا آخر على حسابه، غير أننا شكرناه واعتذرنا لأن من هذه الأكلة تشبع بسرعة، فأخذ يشرح لنا المقادير التي تصنع بها هذه الأكلة· بإذاعة الأوراس الحصص الثقافية فوق كل اعتبار حولنا وجهتنا بعدها إلى إذاعة الأوراس التي تقع بجوار مكتبة الإخوة قرمي، وبمجرد دخولنا المقر طلبنا من عون الاستقبال أن يحدد لنا موعدا مع لمياء ساكري منشطة إحدى الحصص الثقافية، غير أن المنشطة وبمجرد ما تعرفت علينا إستقبلتنا على الفور ·· تعرفت إلى لمياء من خلال حصة ''مواعيد فنية'' أي ''تعيداث أنزوزن'' التي تعدها يوميا تقريبا حيث تستضيف خلالها شخصيات لها علاقة بالفن، وقد أكدت لنا لمياء أن سبب اختيارها ذلك في برنامجها، هو أن مدينتها معروفة بزخم ثقافي كبير، سواء في مجال الأغنية الأوراسية أو المواقع الأثرية، وقد حدثنا لمياء عن أهم برامجها الثقافية التي شهدت نجاحا كبيرا، من بينها حصة ''القلاع'' أو ''تقلعت'' وهي حصة ثقافية تعرف بأهم القلاع الأثرية التي تزخر بها منطقة الأوراس، بهدف إحياء كل التراث· وللعلم، فإن لمياء حازت مؤخرا على جائزة أحسن ميكروفون تشجيعا وعرفنا بعملها المميز، وبخصوص الحركة الثقافية بالمدينة، أوضحت ل ''الجزائر نيوز'' أن مدينتها تملك إرثا ثقافيا وحضاريا ·· وأنت تتحدث إليها تكتشف فيها ذلك الحماس الذي يحاول أن يعرف الجميع بمدى الجمال والحب الذي يميز أوراسيتها ·· حدثنا أيضا عن الشخصيات التي ساهمت في تطوير المشهد الثقافي بالمنطقة كعميد الأغنية عيسى الجرموني وبقار حدة وعلي الخنشلي، ومن الجيل الجديد حسن داي، نصرالدين حرة، الإخوة هلال، نواري نزار، وفي مجال المسرح سليم سهالي وغيرهم· للمكتبة حضور مقدس لدى الأوراسيين بعد تجولنا بشوارع وأزقة باتنة، شدت انتباهنا حركة غير عادية حيث وجدنا الناس يتوافدون بكثرة نحو المحل، ظننا أنه مطعم للأكل الخفيف أو محل للبيع بالتخفيض كما هو الحال بمحلات العاصمة غير أننا وجدنا ذلك المحل عبارة عن مكتبة متخصصة في بيع الإصدارات الحديثة في جميع الميادين والتخصصات، ما لاحظته هناك أن الزبائن كانوا من مختلف الأعمار يقبلون على مختلف الكتب بغض النظر عن أسعارها، وبما أن كل ما وجدناه في رفوف المكتبة ذو قيمة، فضلنا شراء أجزاء مختلفة للروائي المصري الكبير الكيلاني، أما مرافقي فقد إقتنى بعض الكتب في مجال تخصصه، ثم غادرنا المكتبة في صمت والشوق يدفعنا لأن نعود إليها من جديد· الجرموني لا يزال حاضرا بين الأوراسيين وأنت في ضيافة الأوراسيين يقدم لك كل شيء جميل ومستمد من التراث، فبعد أن قادتنا جولتنا إلى أعالي جبال الأوراس الشامخ شعرنا بصدى صوت قادم من بعيد يحمل بين طياته نغمات قوية إهتزت لها قلوبنا، إنه صوت عيسى الجرموني عميد الأغنية الشاوية، ذلك الصوت القادم من وراء الجبال، فمن منا لا يعرف ذلك الصوت الذي أحدث ضجة كبيرة في الأولمبيا بفرنسا بعدما أدى أغنيته المشهورة ''شكون قال الشاوية نذلوا جينا نغنوا ونولوا'' ·· ما اكتشفناه خلال جولتنا الاستطلاعية عن الأغنية الشاوية، أن الأوراسيين يكنون حبا عبيرا لهذا الرجل، ويعتبرونه أول من عرف بالأغنية الشاوية وأخرجها إلى العالمية، وبعد موته لم تمت الأغنية الأوراسية وواصلت مسيرتها بظهور جيل جديد حاول النهوض بها والعمل على إعادتها لواجهة الساحة الفنية الجزائرية ·· إلتقينا بكل من لزهر هلال عضو بفرقة الإخوة هلال والفنان حسن دادي ونصر الدين حرة، وكلهم أجمعوا على أنهم سيبذلون كل ما في وسعهم من أجل إعادة الاعتبار للأغنية الشاوية بعدما تفنن في أدائها كل من علي الخنشلي وحورية عايشي وزوليخة الخنشلية وغيرهم كثيرون، وما يميز الشارع الأوراسي أنه يتذوق كل الطبوع الجزائرية، الراي، القبائلي، الصحراوي، السطايفي، فأدركنا أن الرجل الأوراسي له قابلية للتفتح على كل الثقافات بعيدا عن عقدة اللغة واللهجة، وما لحظناه أيضا لدى الأوراسين أنهم جميعا يتكلمون العربية باستثناء بعض العجائز اللاتي لا تتقن سوى اللهجة المحلية· تيمقاد تتحول إلى وكر للفساد المعالم الأثرية بتيمفاد مصنفة ضمن المعالم الأثرية ·· حين تدخل هذه المدينة يستوقفك عون أمن يستفسر عن سبب حضورك بعد أن تدفع مقابلا من المال للتعرف عن قرب على المعالم الأثرية، بعدما كشفنا عن هويتنا وأكدنا له أننا في مهمة سمح لنا بالدخول وطلب منا أن لا نبتعد عن الأنظار حتى لا نتعرض للإعتداء من طرف المنحرفين، غير أن ذلك لا يمنع هذه المدينة الأثرية من أن تبقى شاهدة على حضارة مرت من هناك··