نصف طفولة بعضنا، وشطر كبير من مُراهقة أكثرنا، وطوال ما مضى من شباب الغالبيّة منّا، كانت أرواحنا تتغذّى على جمال الكلمة في دواوينه، وجمال الرّوح المنبثقة من صوته وحركاته وسكناته عبر إطلالاته التّلفازيّة المُضيئة· وكُنتُ كجميع عُشّاق الشّعر الأصيل أحلم بيوم أجد نفسي فيه بين جمهور يتقاسمه هواء القاعة التي يصدح بين جُدرانها بأشعاره، حتّى حقّقت (جمعيّة تاريخ وآثار البحرين) هذا الحلم بدعوتها العامّة لكلّ مُحبّيه وعُشّاق شعره لحضور أمسيته المُدرجة على جدول فعاليات الموسم الثّقافي السّادس والخمسين للجمعيّة· وهُناك اكتشفت كم أنّ هذا الشّاعر في الواقع أكبر كثيرًا من كلّ ما قدّمه التّلفاز، وكلّ ما حاولت تقديمه الصّحافة· حين تلتقي بهذا الشّاعر الإنسان، يأخذك بريق عينيه الواثق، النّابض بالعنفوان، والسّخرية من صغائر الحياة ونُشارة تفاهاتها· بينما تصرخ كلّ سلوكيّاته العفويّة من تواضُع وترفّع عن الخلافات ورفقة دائمة للدّعابة، بنجوميّة فطريّة استحقّ عليها مودّة الجمهور واهتمامه طوال أعوام اقترانه بالشّعر· وفي أمسيته الأخيرة التي غادرناها بانتظار أمسية مُقبلة، أسرنا - كعادته- بكثافة حضوره الخلاب قبل أن يأسر ألبابنا بنصوص أشعاره التي كبرت أحاسيسنا بها وترعرع وجداننا منذ الطّفولة عليها، ليتأكّد لنا أنّ أشعار (عبد الرّحمن رفيع) وُلدت لأجل صوته وحده، ولأجل إلقائه الذي لا يستطيع مثله أحدٌ سواه· وبروحٍ تتوثّب شبابًا بدأ بقصيدة وفاء لرفيق درب الشّعر والأيّام الأديب الدّكتور (غازي القصيبي) داعيًا له بعاجل الشّفاء· ثمّ أغرق أحاسيسنا وحلّق بها وحبسها وأطلق سراحها في فضاءات نُخبة قصائده التي تعيد السّامع إلى (الزّمان الأوّل وسوالف الأمّ العودة)، ثمّ ترتدّ به إلى دهشة (عصر المعلومات)، وبين هذا وذاك تخوض قضايا الإنسان في كلّ زمان ومكان كسحر (العيون) و (البنات) و (الزّواج) و (البدرة)، مُذهلا جمهوره بمذاق قصائده الذي يبقى طازجًا مُتجدّدًا على لسانه رُغم مرور الأيّام والأعوام، بكلّ ما تنضح به من حكمة عميقة، وإحساس مُرهف، و حسّ فُكاهة رفيع، ومُخيّلة متوثّبة، وأسلوب سهل ممتنع، ووفاء لا ينتهي للمكان والزّمان في البيئة البحرينيّة بحاضرها وماضيها· ليس تاريخه الشّعريّ الفذ وحده الشّاهد على كونه شاعر استثنائي، بل تشهد مع ذلك شخصيّته الخلابة وعلاقته الفريدة من نوعها بجمهوره· بدا ذلك جليّا طوال الأمسية المُترعة بضحكات الحضور، وحماس تصفيقهم، وتعليقاتهم الباسمة، وملامحهم التي ما نمّت عن لحظة تثاؤب· وحين بدأ الشّاعر ينظر إلى ساعة يده مُتسائلا عن كم من الوقت مضى قبل دقائق من ختام الأمسية، هتف أحد الحضور قائلا: (عشرُ دقائق!)· وبمقياس إحساسنا بمرور الزّمن؛ كان معه كلّ الحق· وإذ ذاك رفع الشّاعر يده مُحذّرًا في دُعابة : (إنّها القصيدة الأخيرة التي أقرأها لكُم، بعدها لن أقرأ شيئًا)· في ختام الأمسية، حين عبّر ممثّل الجمعيّة عن شُكره لحضور (الشّاعر الكبير)، سارع شاعرُنا قائلا بنبرة مرحة تنمّ عن روح مُتواضعة: (كبير في السنّ فقط)· لندعو له من أعمق أعماقنا بطول البقاء وبركة العُمر·· راجين ألآ يتأخّر مُجدّدًا في إطلالته المُقبلة علينا، فنحن قد نمّل مما نقول، لكنّنا لا نملّ أبدًا مما ينطق به حضوره الشّبيه بمرور النّسيم على أرواحنا·