شاهر خضرة، شاعر سوري خاض غمار الكتابة الشعرية منذ نعومة أظافره وانطلق في نشر أعماله منذ عشر سنوات فقط، ومن بين أعماله "الإبحار والخوف"، "سونيتات شاميّة"، "هذيان الجسد"،"حفيد النبات"و"مائيل في وحامه الكنعاني".."المساء" التقت شاهر عقب مشاركته في ملتقى الأدب الشعبي الذي احتضنته الجزائر مؤخرا، وأجرت معه هذا الحوار. -لماذا تأخّرت كثيرا في نشر قصائدك، وهل يمكن للشاعر أن يعيش من دون صدى يجده في قصائده ...من دون متلق ؟. * هو راجع بالدرجة الأولى إلى ظروف شخصية، حيث توقّفت عن الدراسة في الثانية إعدادي عندما مات جدي الذي كان يعيلني، وبالتالي تركت الدراسة وأصبحت تائها على وجه الأرض أقوم بأيّ عمل لآكل الخبز، وحينها قرّرت أن أجعل بيني وبين أصدقائي قليلا من المستوى في التعليم، فقرأت كتبهم حتى أوازي تعليمهم، وقلت يجب أن أغلبهم أكثر فحفظت القرآن والقاموس إلى أن صار عندي عشرون عاما، وقصدت ليبيا متسلّحا بثروة لغوية كبيرة وحسبت نفسي "شغلة كبيرة". ولم أكتشف أنّ كلّ ما أكتبه كان تحت القدرة الكلامية المنظومية ليس إلاّ، وقال لي بعض الأصدقاء من بلاد الشام "أنت شاعر مقدرة لغوية ولكن ليس لديك روح الشعر"، وقلت كيف ذلك وأنا أستخدم اللغة القاموسية ولغة القرآن ولغة التراث، فقالوا لي "هذه اللغة ليست لغتك" وقد قال الشاعر أدونيس أنّه على الشاعر أن يكتب لغة يعيش جسده في عصرها، فتيقّنت أنّ كلّ هذه اللّغة لا حاجة لي بها وقلت عليّ أن أنسى هذه اللغة التي أحببتها، واتّجهت إلى قراءة الشعر الحديث، وقرأت أدونيس، محمد الماغوط، أنسي الحاج وغيرهم إذ كان وجودهم حديثا في ليبيا، ولم أفهم شيئا، وتساءلت عن سبب ذلك وأنا الذي قرأت كبار الشعراء الجاهليين، إذن أنا أمام حالة شعرية أخرى ليست اللغة القاموسية الأساس فيها بل لغة الشعر بمفهوم آخر، فقلت علي أن أقرأ وأضع برنامجا لنفسي حتى أصير بمستوى هذا الشعر وقرّرت أن أقرأ ربع قرن وبعدها أكون قد تمكّنت من الشعر فهما وكتابة . -وهل طبقت هذا البرنامج حرفيا؟ * لقد كنت أكتب قصائد قليلة أبعثها لمجلة أو اثنتين في لبنان وكان كلّ ثلاثة إلى أربعة أشهر تصدر لي واحدة، في صفحة القراء لم يكن لي أكثر من ذلك، وهذا ما جعلني أحجم عن النشر واستمر في القراءة وتعميق ثقافتي وانخرطت في الفكر اللاهوتي الديني من التوراة إلى الإنجيل إلى التلمود إلى الأساطير والأديان، التي تجفّف ينابيع الشعر من الناحية الفكرية وتبعد الشاعر عن الفكر أو تقلّل الحسّ الشعري من ناحية اللغة، لأنّ هذه الأفكار تسيطر على عقله وذهنه وتفرض نفسها في القصيدة، كنت لا أرضى عن أيّ قصيدة في ذلك الوقت، حتى مرّ ربع القرن، حينها قال لي أصدقائي لقد اقترفت جريمة في حقّ نفسك ويجب أن تحتكّ بتجارب الآخرين، أن تنشر وأن يقال هذا رديء وهذا جيد، وكنت قد تحصّلت على النضوج بحسب رأيي. وبدأت النشر عام 1999 عندما كان عمري 45 عاما، ونشرت في البداية ديوانين من قصائدي القديمة حتى أرى رأي الناس،كان رأي الناس متضاربا وأكثرهم كان يقول أنّ قصائدي ليست في المستوى الجيّد، وبدأت أطوّر قصائدي وتبيّن لي أن أمتلك شيئا آخر وهو اللّغة العامية وأنا أكتبها جنبا إلى جنب مع الفصحى، فقرّرت أن أقدّم شيئا جديدا إيمانا مني بأنّ اللّغة العامية لغة حقيقية وتستطيع أن تحمل أسمى القيم والمفاهيم الحياتية الوجودية، فعندما كتبت "سونيتة شامية"، وقدّمت أعمالي في عدّة مهرجانات دولية ونلت شهادات عظيمة، وقال عني أدونيس أنّ تجربتي خارج السياق الشعري وأثنى كثيرا على الشعر العامي الذي قدّمته ووجدت نفسي أنّني ما أريده قد حصلت على شيء منه، وهذا ما جعلني أتأخر ويبدو أن الذي يأتي متأخّرا أفضل ممن لا يأتي أبدا. -ولكن كيف استطعت أن تعيش كلّ هذه المدة الزمنية من دون جمهور يتلقى شعرك؟، كيف كان إحساسك عندما كنت خارج الخارطة الشعرية؟ * كنت أبكي عندما أقرأ قصيدة لشاعر من جيلي أو حتى أكبر مني أو أقلّ، وكانت تدخل زوجتي وتقول أكيد أنت قرأت قصيدة رائعة، وأنا بكّاء فأيّ كلمة تهزّني أبكي وكنت أبكي ألما ودما وكنت أعتبر نفسي انتهيت يعني تجاوزني الزمن، أو هكذا خيّل لي خاصة أنّ الشعر يذهب ويغيب أربع أو خمس سنوات ويأتي فيعتقد الشاعر أنّه صار شاعرا سابقا وقد حصل لي هذا الأمر عدّة مرّات، وهذا الإحساس دمّرني في بعض الأحيان، لكن عندما تعود القصيدة بشكل ما، بقدح بحرارة، تعود الحالة الشعرية إليّ والسبب في اعتقادي هو"المرأة" لأنّني غبت عن المرأة خمس سنوات في صحاري ليبيا لم أكن أرى المرأة إلاّ في التلفاز عندما أجد من عنده التلفاز، خمس سنوات لم أر فيها امرأة وهذا من أصعب ما يكون، ثم انتقلت إلى السعودية وعملت في مجال لا نساء فيه أيضا.. بصدق أقول أنّني تعرّفت على المرأة سنة 1999، رغم أنّني تزوّجت وعندي أولاد إلاّ أنّه يبدو أنّ كلّ شاعر يبحث عن "امرأة مثال" لا يمكن أن تحتويها امرأة واحدة، قد تحمل هذه المرأة 99 جزءا لكن يبقى جزء، هذه مشكلتي فأنا لا أجد قصيدة حب واحدة ما بين العشرين من العمر والأربعين،كنت أحب الوطن والأرض وأتخيّل حب المرأة من مراهقتي والحب الخيالي. -قلت أنّ الشعر قد يذهب سنوات طويلة فهل هو متعلّق في الدرجة الأولى بالإلهام؟ * أتصوّر أنّ السبب هو الجوّ العام الذي يعيش فيه الإنسان لذلك ذكرت المرأة، أنا بعد 1999 حتى الآن لم يغب عني الشعر أكثر من ستة أشهر، إذن ما السبب في ذلك؟ السبب هو أنّني وجدت المرأة وأتعامل معها وأحبّها وممكن أن تكون صديقة شاعرة، ملهمة بشكل أو بآخر، أمّا قضية الإلهام فأنا أعتد كثيرا بالعقل وأقول إذا لم يكن الإلهام في القصيدة فستكون إنشائية، إذ أكتب سطرا بالعامية وسطرا بالفصحى، سطرا موزونا وسطرا منثورا ثم أجد نفسي في مرحلة من مراحل الكتابة أكتب، لكن الإلهام لا يكفي لوحده لأنّ هناك خلفية ثقافية للشاعر يستعملها في قصائده . -هل القصيدة نبتة تحتاج إلى ري من حين إلى آخر أم أنّها ثابتة لا تتغيّر؟. * أنا من المؤمنين بالحكمة التي تقول أنّ الشوك ينمو بالإهمال والوردة تنمو بالعناية، وأنّ الشوك لا يعتد به ويجب اقتلاعه أو إهماله، أمّا الوردة الحقيقة فيجب أن تنبت بالعناية، ولهذا أحيانا اكتب القصيدة وانشرها في الانترنت، ولا أنشرها فورا إلاّ بعد العمل عليها ساعات، ولكن عندما أريد الطباعة على الورق، أعيد النظر في بعض الجمل والكلمات وأستمع إلى النقد من طرف القرّاء، وهذا يفيدني كثيرا وأبدّل وأجدّد، أنا دائما اعتدّ بالعقل في كلّ شيء، لأنّ العقل هو الأساس في الحياة والمشاعر موجودة ولكنها تحتاج إلى عقل يختزن ثقافة كبيرة حتى يستطيع أن يخلق من هذه المشاعر لغة ووزنا. -وهل لكلّ زمن شعره؟ * أنا أرفض هذا الكلام، وأقول أنّ الشعراء الكبار ليسوا الشعر، الشعر هو حالة شعراء كتبوا الشعر، وقد يأتي شاعر ويقول نريد توجيه القصيدة في اتجاه آخر، قد يكون ليس أكثرنا شاعرية بل إبداعا وتجديدا وجرأة وقد يكون من الشعراء الكبار لكن لا يمكن أن يلغي أحدا. نحن نفهم دائما بمبدأ الوحدانية حتى مفهوم الشاعر نفهمه كذلك، أنا أستطيع أن أقول "لا اله إلا الله" وأنا مطمئن في الغيب وتعدّد الآلهة لا يعنيني في شيء وهو غير منطقي بالنسبة لي، لكن أن أقول في الشعر أنّ لا شاعر إلاّ هذا فهذه الحالة الدينية التي توارثناها تعدّ بحق مشكلة عربية، فنحن نؤمن بالشخص الواحد، النجم الواحد، الحاكم الواحد، فهل لو نزعنا المتنبي من الشعر العربي يموت الشعر العربي؟، هناك من يقول أنّه لا وجود لشعراء بعد المتنبي، وأنا أقول ماذا عن هذه الثروة العظيمة من الشعر، وماذا عن هذه اللغة التي تغتني بمواهب كبيرة وصغيرة بالشعراء، والتي اسميها "الغابة" ففي الغابة هناك الأسد والعصفور فهل يجب أن نلغي العصفور لأنّ هناك أسد؟، العصفور لم يخلق من عبث، أنا استمتع بقصيدة عن عصفور أكثر بقصيدة عن فدائي شهيد روى بدمه الأرض إذا لم تكتب بإبداع وكتبت الأخرى بإبداع..هذا هو الفن وهذا هو الإبداع. -هل تعتقد أنّ سفرك وتنقلك عبر مختلف بقاع العالم أثرى رصيدك الشعري؟ * نشرت القليل من القصائد التي تخص تجربتي في الترحال منها القليل لأنّ هذه القصائد وكأنّها مذكرات تعكس حياتي، وأنا أخشى من أن يكون شعري مرآة فقط لحياتي، ومن المشاكل الخطيرة في الأدب أن يكون الشعر مرآة، الشعر هو الواقع الممكن وليس الواقع الذي حصل، والواقع الذي حصل أغناني كثيرا ولكن هل أستطيع بشعري أن أكون مرآة ومنارة، إن استطعت أنشر قصيدة وإن لم أستطع أدعها للزمن، وأقول هذه أمانة القصائد التي لم أنشرها إن شئتم انشروها أم لا . -تكتب الشعر بالفصحى وبالعامية، كيف يكون اختيارك للغة التي تكتب بها، أم ليس هناك اختيار؟ *أنا لا أختار اللغة التي أكتب بها وهذا عائد لعدّة أسباب وأوّلها الجوّ المؤثّر والمحيط الذي أعيش فيه، فقد يتلقى هذا الجوّ القصيدة العامية أو الفصحى، وهذا يجعلني أكتب من وحي المحيط لا لأرضي المحيط ولكن يفرض علي المحيط أن أكتب له، ومثلا أنا هنا موجود في الجزائر وفي ملتقى خاص بالأدب الشعبي ومع ذلك لا استطيع أن اكتب بالعامية، ومنذ ثلاث سنوات لا أكتب إلا بالفصحى. أنا مع كلمة الشعر بالمطلق، أؤمن باللغة العامية كلغة تقف ليس إلى جانب الفصحى بل إلى جانب نفسها ومن هذا الإيمان قرّرت أن اعتبر هذه اللغة لغة حقيقية كالفصحى، وأن أجعل ما بنفسي كلّه في هذه اللغة، فكرا وثقافة وتحليلا للمعنى الوجودي وللفكر الثقافي وللغايات المطلقة السامية العليا وللفكر الإنساني بهذه اللغة، يقال لي كيف تكتب باللغة الشعبية وهي لغة ليست في نطاقها، وقلت لهم إذا استطعت أن تخلق من هذه اللغة ومن هذه الفكرة، متجانسيّن في شكل وحالة واحدة، فقد نجحت وإذا لم تستطع فأنت لم تنجح وأنا اعتقد أنّني نجحت في عدّة قصائد في هذا الجانب. -هل لكلّ شاعر تجربته الخاصة أم أنّ الشاعر هو قالب احتكاك وتبادل التجارب؟ * يجب على الشاعر أن يحتكّ بتجارب الآخرين ليرى نفسه في تلك التجارب، أحيانا ألتقي بشاعر يجعلني أعتبر نفسي لست شاعرا وأنّني أقلّ بكثير من شاعريته وعندما أخلو لنفسي أضعه أمامي وأضع نفسي أمام هذا التحدي وأطلق في ذاتي قدر ما أستطيع من الفكر والمشاريع لتجاوز نفسي ولتجاوز حتى هذا الند، الذي خلق في داخلي الأزمة، وأقول هذا الشاعر هو الذي حفّزني على تحدي نفسي أولا ثم تحدي اللغة التي أكتب بها. -هل لديك معرفة بالشعر الجزائري؟ * طبعا وكان ذلك بحكم مكوثي في ليبيا مدّة خمس سنوات(1975-1981) حيث كنت أطلّع على كلّ الشعر المغاربي بالفصحى وكنت أقرأ المجلات الجزائرية، لكن في السعودية انقطع عني كلّ ماهو مغاربي لأنّه لم يكن متوفرا، وأقول أنّ العشرين سنة التي قضيتها في السعودية قطعتني حتى عن الشعر السوري، بعدما شاركت في تظاهرة ثقافية بالجزائر سنة 2006، تقصّدت حمل كتب شعر الشباب خاصة والنقاد والروائيين غير المعروفين حتى أتمكّن من بناء جسر مع هذه المواهب الموجودة في الجزائر. -ماذا تجيب عن الذين يعتقدون أنّ الأدب الشعبي ليست له علاقة بالحداثة؟ * الحداثة ليست في المضمون فقط ولا في الشكل بل هي رؤية للحياة والكون والفن، هذه الرؤية غير موجودة ولا مفهومة في الشعر العامي سواء المكتوب في الحديث والتقليدي، لأنّ الشاعر الشعبي عندما اختار هذه اللغة اعتقد أنّها بسيطة لأنّها لغة يتكلّم بها عامة الناس، هو غير مؤمن بأنّها لغة مثل الفصحى قد يضاهي بها المتنبي، الحقيقة لا يوجد أمامي نماذج أطبّق عليها رؤيتي الشعرية، فهناك قلّة من الشعراء الذين يفهمون مفهوم الحداثة الشعرية. وعندما اخترت العامية كنت مثلهم لكن عندما أضفت لنفسي الوعي الفلسفي قلت أنّها تجربة مغامرة قد لا تنجح ومن الصعب أن تصل إلى الشعب فهي ليست لغة الشعب وأنا حتى الآن لا أسمى بالشاعر الشعبي فهي تجربة خارج سياق مفهوم الشعر الشعبي..بالمقابل عندما تمتلك التجربة ورؤية للفكر والفلسفة والحياة والوجود، معناها أنّك تكتب باللغة الفصحى ولكنّها في الحقيقة ليست الفصحى وقد سمّاها أحد النقّاد في سوريا لغة عربية غير معرّبة، وأنا لا يهمّني التسميات يهمّ أنّني استطعت أن أخلق لغتي الشعرية في العامية، باطلاعي على ما يكتب في الوطن العربي لا أجد هذا العمق بهذا المفهوم الفلسفي للحياة والفن، هم يكتبون القصائد بإجادة تامة لكن الجدية في القصيدة شيء وان تكتب عن التجربة من خلال رؤيا للكون والحياة والفن شيء آخر.