- ترى ما الذي سنفعله بتلك الأموال؟ - إنني في حيرة من أمري، إن هذا المبلغ سيغطي كل حاجياتنا عندما نصل إلى فرنسا··· فهو لم يعد الآن ملكا للمنظمة التي لم يبق لها وجود· - أأنت متأكد من ذلك؟ ألا تظن أنهم أذاعوا الخبر لمجرد إشاعة الذعر؟ - هل فقدت صوابك؟ مستحيل أن يذاع أمرا كهذا في راديو الجزائر لمجرد اللهو· حتى أن بعض الصحفيين هم أعضاء نشطاء في المنظمة، كما أن الخبر أذيع في ساعة جدّ متأخرة من الليل عوض الانتظار إلى غاية صباح الغد، وعليه، فما ذلك إلا لكونه خبر عاجل و صحيح· قال سيغيرا· - باختصار، ألا تعتقد أن الخبر أذيع من أجل تحذير جميع أعضاء المنظمة؟ - أظن ذلك، حسنا··· وفيما يخص الأموال، كيف سنتصرف؟ - إنه أمر واضح، سنوزعه إلى أربعة حصص، أجاب إيمانويل· - أصغي إلي جيدا، قد أبدو لك متوحشا، غير أنني كنت أود لو نقتسم الأموال نحن الاثنان فقط· - ما قصدك؟ أتعني أن ··· وما إن هم إيمانويل بالحديث حتى فهم سيغيرا مبتغاه: - نعم، أقصد ··· - ولكن، أأنت مجنون؟ - ألست توافقني الرأي؟ خمس مئة مليون، إنه حقا لمبلغ كبير، أليس كذلك؟، أصغي إلي جيدا يا إيمانويل: إنهما لا يمثلان إلينا شيئا، فنحن الاثنين صديقان منذ الشباب، أما هما، فقد تعرفنا إليهما داخل المنظمة، ونحن شركاء في هذه العملية· إن صداقتنا معهما، كما لو أن الأمر في ثكنة تجمع متطوعين نظير تنفيذ مهمة في غاية الخطورة· إن هذا كل ما في الأمر···على كل حال لقد حذرتك ··· فإن لن نقوما بذلك، سيتخلصان منا دون أدنى تردد· أعتقد بأننا من الأفضل أن ننظر الليلة في الأمر دون انتظار· قال سيغيرا ذلك وقد انتابه الإحساس من إقناعه لإيمانويل· - حسنا، و كيف سنتصرف ؟ - ذاك المصاب بالربو لن يثير لنا أية مشكلة· و لكن جوزيه هو الذي سيصعب لنا الأمر··· انطلق منذ اللحظة في تركيب حبال بأغطية و بطانيات السرير، وسنستعملها للمرور من نافذة الرواق· لقد لمحت خلال النهار كومة صغيرة من الحديد خلف مستودع الحصاد، ستحملها في طريقك··· أما من الجهة المقابلة للمزرعة، هناك واد مازافران· - حسنا، ثم ماذا سنفعل؟ سأل إيمانويل· - سنجعل هناك قبرا مؤقتا لرونيه، أنظر،سأشرح لك الأمر جيد: سأقوم بحركة مشبوهة في الحقل، فيستيقظ مذعورا، أما أنت فستبقى في غرفتك إلى حين أن يقفز من النافذة ليتأكد من الأمر المريب في الخارج، حينئذ ستجهز عليه من دون إثارة أية ضجة، ثم تقوم بالأمر اللازم ··· ابتعد سيغيرا عن صاحبه و اتجه بخطوات وئيدة نحو الغرفة المقابلة، ثم دفع الباب في حذر وتسلل إلى الغرفة حيث كان بيراز نائما· وعلى التو، عمد في تردد وهزّ رأسه ··· - ماذا تريد؟ سأله بيراز - لقد لفت انتباهي شيء ما في الحقل· قال سيغيرا··· - ربما هو مجرد كلب فقط ··· - لا، لا أظن ذلك، لقد لمحت هيئة إنسان· - ماذا؟ هل أنت متأكد من ذلك؟ - أجل، ،وإلا فلم أجرؤ على إيقاظك في مثل هذه الساعة المتأخرة ··· وهو؟ كيف حاله؟ سأل سيغيرا و هو يشير إلى غارسيه بيده· - إنه يغط في نوم عميق، أجابه بيراز··· حسنا، فلنرى ما يحدث في الخارج، واصل بيراز حديثه و هو يتأهب للقيام من سريره، مرتديا ثياب النوم ··· أسرع سيغيرا إلى النافذة ولحقه بيراز، لما وصلا سأله بيراز: - ما الأمر، إنني لا أرى شيئا؟ - إنه هنالك، أنظر في الجهة المقابلة··· وما إن مد بيراز بصره في الأفق، حتى أجهز عليه إيمانويل بضربة مقبض قاتلة، هوى بيراز إثرها على الأرض دون أدنى نواح··· - يا لها من ضربة قاضية، قال سيغيرا ذلك و هو ينحني مع الجثة حتى يخفف من هول الصدمة، ويتفادى أي ضجيج· - لقد أردت النجاح بإتقان، أجابه صاحبه· - حسنا، رائع ··· سنتولى الآن أمر غارسيه· مشى الاثنان على أصابع قدميهما حتى بلغا موضع غارسيه، فأمسك إيمانويل بقدمي المريض و ثبّتهما كما تثبت الكماشة شيئا ما··· وفي خفة الحيوان المطارد، عمد سيغيرا إلى وسادة بيراز وطواها بقوة على وجه غارسيه· كان المصاب بالربو يقاوم بشدة، غير أن سغيرا كان أكثر خفة، فلم يلبث أن ثبت ذراعي غارسيه على السرير بركبتيه··· كانت صيحات غارسيه المتواصلة تنبعث في اختناق من تحت الوسادة، غير أنها سرعان ما أخذت تخفت شيئا فشيئا، ثم لم يطل سيغيرا أن قضى عليه أخيرا، حيث تدحرج رأس غارسيه وتمايل جانبا، و من دون أية مقاومة، كان غارسيه قد استسلم للموت و قد خيمت كآبة سوداء على الغرفة· وبسرعة، دونما أي ضجيج، التحق سيغيرا و إيمانويل ببيراز الذي كان لا يزال جثة هامدة في الأرض··· - الحبال، همس سيغيرا· فدخل صاحبه بسرعة إلى غرفته و أحضرها· - أنظر يا إيمانويل، ستنزل أنت أولا حتى تتلقى الجثة، أما أنا فسأمررها إليك، حيث سأربط الأغطية إلى جسم ما، حتى أتمكن من الصعود مرة ثانية عندما ننتهي من الأمر· - حسنا· قال إيمانويل ذلك و هو يتسلق من النافذة· و بعد ثوان قليلة، سمع سيغيرا صوت جسم يتدلى، وينزل شيئا فشيئا، لقد كانت تلك جثة بيراز··· أسرع سيغيرا فوضع الجثة الملتوية داخل الغطاء بدقّة، ثم قام برفعها بالكاد، فوضعها على حافة النافذة حتى يستعيد أنفاسه، ثم ما لبث أن تأكد من شدّ زوايا الغطاء الأربعة بإحكام، وأطلق الجسم الملتوي في الغطاء يتدلى شيئا فشيئا، حتى وصلت الجثة إلى الأسفل، فأسرع صاحبه وقام بإتمام جميع الخطوات ··· رفع سيغيرا الغطاء بسرعة نحوه وأمسك طاولة صغيرة، فلاحظ أن قياساتها أكبر من قياسات النافذة· سحب الحبال فإذا بالطاولة تثبت إلى النافذة، فأحس بمقاومة الأغطية التي كانت مشدودة بإحكام ··· وفي تلك اللحظات ثم راح سيغيرا ينزل بحذر شديد··· وما إن لمست قدميه سطح الأرض حتى انحنى قليلا وسمح للطاولة بأن تحط بلطف، ثم تخلى عن الحبال··· - أرجو أن تحضر لي سلك حديد حالا، ثم تساعدني في نقله· أمر سيغيرا· - اختفى إيمانويل للحظات ثم عاد··· - إنه لفيف صغير· قال سيغيرا ذلك وهو يناوله سلك الحديد· - حسنا، اجعله يتدلى فوق الرأس وخذ الأرجل··· نصب سيغيرا نفسه من جهة رأس جثة بيراز، ثم قام الاثنان بحمل الجثة· وما هي إلا لحظات قليلة، حتى امتدت بهما الخطوات حول المزرعة واتجها نحو الوادي··· - هل الموضع لا يزال بعيدا؟ سأل إيمانويل· - على بعد مائتا متر، ألم تراه من قبل؟ - وضع الرجلان فريستهما على بعد أمتار قليلة من حافة الوادي، ثم راحا يتنفسان في جهد· وبينما هما كذلك، كان نقيق الضفادع يقرع آذانهما فيتمثلانه نوحا حزينا يلفهما في تلك الليلة الدامسة··· و بالقرب من إحدى الأشجار، لمح سيغيرا صخرة بيضاء كبيرة، فقال لصاحبه : - هيا ساعدني في دحرجتها إلى هنا· قام الاثنان بدحرجة الكتلة البيضاء حتى بلغت الجثة، فمدّ إيمانويل سلك الحديد بينما ثبت سيغيرا تلك الصخرة بصلابة إلى الجثة· جذب إيمانوال جثة بيراز إليه ثم راح يلف الميت عدة مرات من صدره و ركبتيه مرات عديدة··· و في جهد أخير، صرخ سيغيرا: - هيا، فلندفعه نحو الماء· - وهل تظن أن هذا العمق كاف؟ سأل إيمانويل· - هيا، ادفع، يوجد هنا عمق سبعة أمتار على الأقل· دفع الرجلان الصخرة و الجسم دفعة واحدة، فغمرت المياه جثة بيراز وقضي الأمر··· وفي تلك اللحظات انقطع نقيق الضفادع، كما لو أن تلك الحيوانات احترمت حرمة ذاك الميت···