ظل الجابري مفكرا إشكاليا مثيرا للجدل وهذا ما يعكس وزنه وثقله المعرفية الفكري ومن آخر السجالات المثارة حوله هي المتصلة بما تضمنته الأجزاء التي تعاطى فيها مع القرآن الكريم· في حواره مع عبد الإله بلقزيز المنشور في العدد 278 من مجلة المستقبل العربي قال المرحوم محمد عابد الجابري: ''كانت هناك ثلاثة تيارات معروفة، هي التيار السلفي والتيار الليبرالي والتيار التوفيقي أو التلفيقي، وأنت تعرف أن تجربة مائة سنة قد أسفرت عن جمود الحركة في هذه التيارات، فلا أحد منها تطور وحقق أهدافه، بل كل ما حدث هو اجترار وعود على بدء مستمر لقد استنتجت من ذلك تلك القضية الأساس التي أدافع عنها وهي أن التجديد لا يمكن أن يتم إلا من داخل ثراثنا باستدعائه واسترجاعه استرجاعا معاصرا لنا، وفي الوقت ذاته بالحفاظ له على معاصرته لنفسه وتاريخيته، حتى نتمكن من تجاوزه مع الاحتفاظ به وهذا هو التجاوز العلمي الجدلي· هذا هو اقتناعي إذا كنا نفكر في الأمة العربية والإسلامية كمجموع، وليس كنخبة محصورة العدد متصلة ببعض مظاهر الحداثة تنظر إلى نفسها في مرآتها وتعتقد أن الوجود كله هو ما يرى في تلك المرآة، هذا في حين أن هذه النخبة صغيرة، قليلة، ضعيفة الحجة أمام الثراثيين· والمطلوب منا في ما يخص الحداثة ليس أن يحدث المحدثون أنفسهم، بل أن ينشروا الحداثة على أوسع نطاق · والنطاق الأوسع هو نطاق الثراث، فإذا لم نكن على معرفة دقيقة وعامة بالثراث وأهله فكيف يمكن أن نطمع في نشر الحداثة فيه، أن نجدد فيه، أن ندشن عصر تدوين في مجالاته''· من هذا المنطلق بلور الجابري مشروعه الذي استكمله في الختام بمشروع التعاطي مع النص القرأني· مشروع متعدد المحاور ومترابط الحلقات، عاد إلى المرجعيات بتوجه إبستمولوجي عقلاني جعل تناوله للثراث ودراسته النقدية لما أسماه بالعقل العربي مؤطرة تأطيرا نسقيا يخالفه من سجلوا في ما تناوله استبعادا لجانب من الثراث بدعوى عدم عقلانيته أو بسبب نسق محدد للعقل تحديدا لا يستوعب الجوانب الغنوصية والعرفانية والإشراقية· وقد سبق لزكي نجيب محمود أن وضع تصنيف ثنائي معقول يؤخذ ولا معقول يترك· ولكن مهما يقال فإن اشتغال الجابري كان مميزا ولا يمكن أن تكون ديناميكية بدون تنوع وميزة الجابري أنه انتصر للمعرفي وللإبستيمي في فترة طغى فيها الأيديولوجي· وتناول الجابري كل القضايا التي تعتبر من الهواجس التي شغلت وتشغل كالديمقراطية والهوية والعلمانية وعلاقة الدين بالسياسة وتطبيق الشريعة والتربية والصراع العربي الإسرائيلي··· الخ· ومسار الجابري لا يمكن استيعابه بدون ربطه بالسياقات المتصلة به وهي على نوعين، سياق مرتبط بحيثيات الفترة التي برز فيها الجابري على الساحة الفكرية وسياق مسار الجابري· في الفترة التي برز فيها الجابري كان العالم العربي في صراع البحث عن انبعاثه وطرحت طروحات مختلفة بناء على رؤى متثاقفة مع ما عرفه الغرب من مدارس وتيارات فكرية· وشغل الثراث الإهتمام فقامت مشاريع للتعاطي معه وبرزت مع الجابري أسماء كأركون والعروي وجعيط وحسن حنفي وحسن صعب وحسين مروة والطيب التيزيني وزكي نجيب محمود وأدونيس··· ولحقتها أسماء أخرى· أسماء توارت مع التحولات التي عرفها العالم وأسماء واصلت اشتغالها المتجدد ومنها مفكرنا الجابري· وظهر الجابري صاحب المشروع الدارس نقديا للعقل العربي في مرحلة كانت إعادة تشكل للوعي بعد هزيمة جوان 1967 ثم تتابعت الأحداث بتسارع مكثف طيلة الثلاثين سنة الأخيرة· وكل ما ذكر لا يغيب عنا ونحن نقرأ الجابري· والسياق الآخر المهم اعتباره في التعاطي مع الجابري هو مساره المتميز فهو من أمازيغ المغرب درس ببلده وبسوريا وفرنسا، دشن مشواره المهني في التعليم الثانوي ثم الجامعي وكان إضافة إلى التدريس من المخططين والمبرمجين· ومع التعليم تعاطى الكتابة في الصحف ولما انتشرت الأنترنت وظفها بموقع تواصل فيه مع المهتمين بفكره وأسس مجلة شكلت منبرا من المنابر الفكرية المهمة· والجابري مناضل سياسي يساري في حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية· والجابري كمفكر وأكاديمي لم يعزل نفسه في التجريد بل ظل مناقشا ومحللا وقارئا للأحداث وهذا ما يميز حضوره كمثقف وليس كأكاديمي فقط فالمثقف يتحدد بأدواره· والجابري من الذين كيفوا الفلسفي مع القضايا المتصلة برهانات وتحديات الواقع· وميزة الجابري هو تعدديته، فالجابري المفكر الدارس كعقلاني للثراث مد مسافة تحرره من تأثير الجابري المناضل أو الكاتب في الصحف· والجابري بدأ مشروعه بنقد العقل العربي وكانت عبارة عربي محل اعتراض وتحفظ من الذين اعتبروا أن تعبير إسلامي أدق وباشر في السنين الأخيرة مشروعه عن القرأن الكريم الذي أثار الجدل والسجال· ظل الجابري مفكرا إشكاليا مثيرا للجدل وهذا ما يعكس وزنه وثقله المعرفية الفكري ومن آخر السجالات المثارة حوله هي المتصلة بما تضمنته الأجزاء التي تعاطى فيها مع القرآن الكريم والجابري عندما عاد إلى القرآن الكريم كان يتواصل مع النص المؤسس للعقل الذي درسه بوصف العربي وكان يتواصل معه كمفكر وليس كفقيه، ولقد سبق أن كان النص القرآني موضع تعاطي من أسماء فكرية كأركون ونصر حامد أبو زيد وأبو القاسم حاج حمد ومحمد شحرور وأدونيس··· ولا يمكن للمشتغل على ما يشتغل عليه الجابري وأمثاله أي قضايا الثراث والثقافة العربية أن يغفل مركزية النص القرآني وهو نص يظل مفتوحا بمستوياته المتعددة التي أفاض فيها علماء أصول الفقه ويظل كما عبر الإمام علي ''حمال أوجه'' والجابري لجأ إلى دراسة النص القرآني بعد ما تراكم لديه من منجز معرفي وفكري وبمرجعيته المعرفية الثراثية والحداثية· وما صاغه أثار الجدل والسجال خصوصا وأن الأمر يتعلق بمنطقة مسيجة بما عبر عنه أركون ''السياج الدوغمائي المغلق''· وأهمية الجابري لا تنحصر في ما صاغه من كتب وكتابات فقط بل في تشكله كعلامة من علامات التأسيس للدرس الفلسفي والإشتغال الفكري في المغرب الشقيق· والجابري لأهميته يثير الجدل، إثارة كانت محققة لتجاوز حالة التهميش للمغرب العربي، تحقيقا أوصل الحلقات بالثراث المغاربي الأندلسي· في أواخر ثمانينيات القرن الماضي فتحت أسبوعية ''اليوم السابع'' التي كانت تصدر في باريس منبرها لحوار المشرق والمغرب بين الجابري وحسن حنفي وتواصل عبر حلقات أثارت نقاشات في فترة دقيقة جدا، فترة تفكك المعسكر الشرقي وامتداده العالمي· والدلالات التي نرصدها بتأمل مسار الراحل الكبير كثيرة ومتعددة في جوانبها ومستوياتها ومنها ما معنى أن تكون مثقفا وما معنى أن تكون مفكرا دارسا ومعنى العلم الذي عبر عنه الجابري بمساره، تعبيرا قاله أبوحامد الغزالي ''العلم إن أعطيته كلك أعطاك جزءه وإن أعطيته جزءك لم يعطك شيئا''، والجابري ظل حتى آخر أيامه مشتغلا، ومن آخر ما كان يكتبه موضوعا عن المعتزلة في المغرب· بعد مسار عاد جسد الجابري إلى التراب وبقي فكره مثيرا للسؤال وفاتحا لآفاق التفكير·