فجأة ودون سابق إنذار، توقف قلب رجل في منتصف العقد الثامن عمن عمره عن الخفقان ·· كان ذلك في مدينة الدارالبيضاء المغربية، في بداية شهر ماي الحالي، ولم يكن القلب إلا قلب المفكر البارز محمد عابد الجابري· بين لحظة الخفقان الأولى ولحظة التوقف الأخيرة مسافة 75 سنة كاملة تبدأ من قرية فكيك المعزولة النائية قرب الحدود مع الجزائر لتنتهي عند تلك المدينة المزدحمة التي تطل على المحيط الأطلسي وتتحاور بشكل مستمر مع مختلف التيارات الوافدة· ولم يكن الطفل محمد عابد وهو يرعى الأغنام رث الثياب، حافي القدمين في بداية أربعينيات القرن الماضي والعالم مسرح لحرب كبرى، يعلم شيئا عن الضفة الشمالية للبحر المتوسط حيث نشأ وعاش المفكر البارز أبو الوليد بن رشد الذي اعتبر آخر شمس طلعت في سماء الفكر العربي الكلاسيكي، لكن مصيره سيرتبط به إلى الأبد في لقاء قدري غريب بين إبن فكيك المعزولة والمحرومة وإبن قرطبة الباذخة الأسطورية· ولم تكن المسافة تلك التي تقدر جغرافيا بعشرات الكيلومترات قريبة إلى ذلك الحد، وقبل أن يتعرف القروي الفقير محمد عابد الجابري، على سليل ذوي الجاه والسلطان أبي الوليد كان عليه أن يقطع مسافات فكرية لا تخلو من لعبة الأضداد، فراعي الغنم بقرية فكيك ينتهي أستاذا جامعيا مرموقا، أشرف وناقش عشرات رسائل الدكتوراه، وساهم في نقاشات عميقة بين مختلف التيارات الفكرية حتى قيل أن الفلسفة العربية الإسلامية التي ماتت بعد ابن رشد بعثت من جديد على يد ذلك ''المعلم'' وغيره من المفكرين الذين عاصروه، وقد حاور بعضهم وجادلهم واختلف مع البعض الآخر دون أن يفسد ذلك من وده لهم· وقبل أن يكون محمد عابد الجابري مفكرا أنتج حوالي خمسين كتابا في الفكر والفلسفة، كان قارئا نهما للكتب، وبعد عمر من الدرس والبحث لم يتحسر على شيء كما تحسر على بعض الكتب التي لم يسمح له وقته بقراءتها، ومن شدة انهماكه في مشروعه الفكري الكبير لم يكن يقرأ حتى بعض الكتب التي تناولت فكره بالنقد والنقاش، وكان يرى أن الدخول في بعض المعارك التي يختلط فيها الشخصي مع الفكري قد يعرقله على إتمام مشروعه الفكري، والعمر مهما طال فإنه قصير جدا في حياة رجل استثنائي مثله· ولئن ارتبطت حياة الجابري بالفكر والفلسفة، فقد ارتبطت أيضا بالعلم والتعليم، ولم يذهب مباشرة من رحلة التعلم إلى كرسي الجامعة، وقد أنجز رسالة دكتوراه مرجعية بعنوان ''العصبية والدولة، معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي''، وكانت أولى دكتوراه دولة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمغرب، بل تدرج في التعليم من الابتدائي حيث كان يعلّم الأطفال الأحرف الهجائية، إلى التعليم المتوسط ثم الثانوي ليصبح واحدا من أبرز أساتذة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس في العالم العربي والإسلامي على الإطلاق، بل واحدا من الوجوه المشرقة في الثقافة العربية الإسلامية على مر التاريخ· والجابري الذي ارتبط إسمه باليسار وبقي وفيا لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومؤسسه المهدي بن بركة ، بقي على علاقة وطيدة مع زعمائه مثل عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمن اليوسفي، وكانت حالة وفائه للحزب ومبادئه نادرة، وهو يجمع بين النضال والالتزام دون السقوط في الحسابات الظرفية التي تحقق بعض المكاسب كما تجلب الكثير من العداوات، وحسابات السياسي تختلف عن حسابات المفكر الحر· وفي زمن تراجع اليسار لصالح الفكر السلفي لم ''يرتد'' الجابري ولم يتراجع عن مجمل أفكاره السابقة التي دافع عنها في السنين الماضية، ولئن عاد بقوة إلى التراث لم تكن تلك العودة بمثابة نكوص، وكثيرا من أبرز المفكرين العرب في العصر الحديث أنهوا سلفيين بشكل أو بآخر، بل كانت ''عودته'' تلك محفوفة بالمحاذير، لعل أخطرها تهمة التكفير الذي ارتبط بالتفكير الحر، خاصة إذا ارتبط بالبحث في المناطق المعتمة في ذلك التراث الكبير، التي تحولت إلى ما يشبه الثقوب السوداء في المنظومة الفلكية تهدد بالانفجار في أي لحظة، ولم يسلم من تهمة التكفير تلك، لكنه قطع آخر خطواته في ذاك السمت وانتهى من تفسير جديد للقرآن الكريم، مستفيدا من مختلف مناهج البحث الحديثة· وفي الوقت الذي بقيت فيه علاقته مع الإعلام إشكالية وهو بحيائه وتواضعه يرفض الأضواء ونادرا ما يجري لقاءات صحفية، ظل بالمقابل كاتبا منتظما في الصحف، والتزم بكتابه مقالة أسبوعية في ملحق ''وجهات نظر'' لجريدة ''الإتحاد'' الإماراتية، تجمع بين عمق الفكر وحيوية الراهن إلى آخر أسبوع من حياته عندما كتب عن ''الإعتزال'' ودوره في تأسيس دولة الأدارسة في المغرب الأقصى·