ويعود رياض للحديث عن مؤتمر القمة الذي توفي ناصر عقبه، فيقول : خرج عبد الناصر من مؤتمر القمة إنسانا منهكا متعبا، وشعر بذلك الرئيس بومدين ، فطلب منه أن يخفف على نفسه هذا الجهد، إلا أن ناصر رد عليه قائلا: إنه سيضع قدميه في الماء الدافيء والملح، وهى وصفة قروية قديمة لتخفيف الألم، ثم ينام يوما كاملا، و بعدئذ سيبحث احتمال الإخلاد إلى الراحة . ويضيف رياض : لكن كان عليه أولا أن يودع الذين شاركوه في مؤتمر القمة، ولما حاول الرئيس القذافي أن يسافر في هدوء بحيث لا يزعج الرئيس بأكثر- مما ينبغي- من مراسم الوداع، أصر عبد الناصر على اصطحاب الرئيس الليبي إلى المطار في سيارته ومرافقته حتى الطائرة، وكان آخر المسافرين أمير الكويت الأمير صباح السالم الصباح، وكان عبد الناصر قد وعد قرينته بأن يعود مبكرا ليتناول الغداء مع حفيدته هالة وحفيده جمال، ثم استقل سيارته ليتوجه إلى المطار قائلا، بنبوءة عفوية، إنه ذاهب إلى "الوداع الأخير". وأحس بوعكة في المطار، وعندما استقل أمير الكويت طائرته طلب الرئيس إحضار سيارته إلى المكان الذي كان يقف فيه - وكان في العادة يمشى إلى سيارته- وطلب من سكرتيره أن يستدعى الدكتور الصاوي إلى بيته، وكان أفراد عائلته جميعاً في انتظاره ليتناولوا معه طعام الغداء، ولاحظوا أنه كان متعبا ومرهقا، وتحدث الرئيس إليهم برهة ثم دخل إلى غرفته قائلا إنه لا يستطيع أن يأكل شيئا، ووصل الدكتور الصاوي فخرجت السيدة قرينته من حجرة نومه احتراما لرغبات زوجها، ذلك أنها ما كانت تمكث إطلاقاً في حجرته عندما يكون معه شخص آخر. وفحص الدكتور الصاوي الرئيس، وعندما أيقن أن العلامات تدل على نوبة قلبية ثانية، استدعى الدكتور منصور فايز والدكتور زكى الرملي، الأخصائيين اللذين كانا يعالجانه منذ النوبة الأولى . وجرى أيضا استدعاء أولئك الذين ألفت منهم لجنة لتسيير دفة الأمور في البلاد منذ إصابته بالنوبة الأولى، ووصل الأخصائيان وواصلا العلاج الذي كان قد بدأه الدكتور الصاوي، وتم تجهيز معدات القلب الطبية الخاصة التي سبق أن نصبت في بيت الرئيس بينما كان أفراد اللجنة يتجمعون في البيت . ويواصل رياض وصف تلك اللحظات في مذكراته، فيقول : تمدد الرئيس على سريره مرتديا بيجامته الزرقاء، وقبيل الساعة الخامسة بدأ نبضه ينتظم وبدأت خفقات قلبه تصبح طبيعية تقريبا، وبدأ يتحدث إلى الأطباء، وقال له الدكتور فايز إنه يحتاج إلى عطلة طويلة، ولكنه أصر على أنه يريد الذهاب إلى الجبهة "حتى أرى أولادنا قبل أن أقوم بأي أجازة"، وغادر الدكتور الرملي والدكتور فايز الحجرة، وعندئذ حثه الدكتور الصاوي مرة أخرى على أن لا يتحرك وأن يخلد إلى الهدوء تماما، فقال عبد الناصر :"لا يا صاوي، الحمد لله، أنا استريحت"، وكانت تلك كلماته الأخيرة، قالها وانسدل جفناه على عينيه وهوى ساعده الذي كان يضعه على صدره واستقر بجواره بعد أن نطق الشهادتين بصوت خافت. وأدرك الذين كانوا ينتظرون خارج الغرفة خطورة الموقف فتدفقوا إليها يشهدون بأعين تنكر كليا ما ترى، أما الأطباء فقد أخذوا يناضلون لإنقاذ حياة قائدهم، كان قد سبق أن شاهدوه بعد إصابته بالنوبة القلبية الأولى جالسا يأكل الجبن الأبيض المفضل عنده، أما الآن فشاهدوه ممددا في هدوء كامل على فراشه وقد فارقته الحياة، ولم يتحرك ولم يهتز إلا عندما أرسل جهاز الصدمة الكهربائية ثلاث شحنات راعدة عبر جسده الطاهر، كان المرجو أن تؤدى الصدمات الكهربائية إلى دفع قلبه لأن يخفق من جديد، لكن قضاء الله كان قد حل وما كان شيء ليعيد الخفقان إلى قلب عبد الناصر، فقد تحطم ذلك القلب . ويواصل رياض قائلا :عندما انتقلت عدوى يأس الأطباء وسقوط الأمر من أيديهم إلى المتجمهرين في الحجرة، راح هؤلاء وقد بدت عليهم الإمارات الأولى لموجة الحزن العظمى التي عصفت بالعالم العربي . التفت نائب الرئيس حسين الشافعي صوب القبلة وركع يصلي، ووقف أنور السادات خلف الرئيس، بجانب السرير ورفع رأسه إلى السماء وراح يتلو آيات من القرآن، أما أنا فلم أستطع أن أصدق ما حدث، وكنت أراقب الأطباء وأردد د بصوت منخفض :" يارب.. يارب غير ممكن .. يارب غير معقول .." . كان جميع الموجودين عالمين بانحراف صحته لكن أحدا لم يكن يتوقع أن يموت هكذا، كانت الخشية من الاغتيال ماثلة دائما في أذهانهم، فقد كان عبد الناصر الرجل الذي يقف في قلب الأحداث العاصفة في الشرق الأوسط، وجر على نفسه خصومة أعداء أقوياء جدا، وكان الكثيرون منهم يتمنون إزاحته لو استطاعوا ذلك، ولم يكن يحفل بسلامته الشخصية إلا أنه لم يكن يعترض على ترتيبات الحراسة التي يتخذها الآخرون من أجل المحافظة على سلامته، وفي الوقت ذاته كان دائما يتوجه نحو الناس ويتوغل في الجماهير فكانت حمايته مهمة عسيرة جدا، وكان من شيمته أن لا يحفل بالخطر قائلا :" لقد وضعت روحي على كفي وها أنا خارج وهى معي"، ويواصل رياض : وبعد أن فاضت روحه إلى ربها آمنة مطمئنة فإن الذين كانوا حوله أبوا أن يصدقوا ما شاهدوه، ودخل وزير الحربية وحث الأطباء على متابعة جهودهم، ولم يصدق أحد الحقيقة إلا عندما غطى الدكتور الصاوي وجهه بيديه وانطلق ينتحب دون أن يستطيع السيطرة على نفسه . غطوا بالملاءة وجهه وأبلغوا نعيه إلى قرينته فدخلت الحجرة وأزاحت الملاءة وقبلته بينما كان الحاضرون يغادرونها تاركيها وحيدة معه . وعلى الفور عقد اجتماع عاجل مشترك للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي ومجلس الوزراء، وانعقد الاجتماع في قاعة مجلس الوزراء في قصر القبة حيث كان الوزراء - الذين كانوا في زيارة قوات الجبهة- يصلون إلى مقر الاجتماع وهم لا يزالون يرتدون بذلة القتال، وتركوا كرسيه شاغرا بينما كانوا يقررون ما يجب عمله، ولكن الإحساس بوجوده كان غامرا في الحجرة كلها، وتقرر إبقاء جثمانه في عيادة قصر القبة ثلاثة أيام يشيع بعدها في جنازة رسمية، وأوقفت الإذاعة بث البرامج العادية واقتصرت على إذاعة تلاوات من القرآن الكريم، وأحس الناس بأن شيئا مهما قد حدث ولكن ما من أحد اشتبه بأن الرئيس عبد الناصر توفى . وما لبث نائب الرئيس أنور السادات أن أذاع النبأ على العالم في كلمة مقتضبة، على أن أثرها كان فوريا وهائلا لا يصدق . وعن ردة الفعل الشعبية، يقول رياض : اندفع الناس من بيوتهم في جوف الليل واتجهوا إلى محطة الإذاعة على ضفاف النيل ليتأكدوا مما إذا كان ما سمعوه صحيحا، وفي البدء شوهدت جماعات صغيرة في الشوارع، ثم امتلأت الشوارع بالمئات ثم بعشرات الألوف وأصبح التحرك أو الانتقال مستحيلا، وتحلقت خارج مبنى الإذاعة حلقات من النسوة يندبن قائلات : "مات السبع... السبع مات !"، وترددت صيحة الندب هذه شتى أنحاء القاهرة وانتشرت كالصدى إلى القرى والأقاليم حتى اجتاحت مصر كلها، وفى تلك الليلة- وفى الأيام التي تلتها- ندبه الناس في حزن جارف، وسرعان ما أخذ الناس يتدفقون على القاهرة من كل أنحاء مصر حتى غصت العاصمة بزهاء 10 ملايين منهم، وأوقفت السلطات سير القطارات لأنه لم يعد في القاهرة مكان يأوي إلية القادمون بينما كانت المؤن تتناقص بسرعة، ومع ذلك ظل المواطنون يتدفقون، فجاءوا بالسيارات وعلى ظهور الحمير وسيرا على الأقدام . ويضيف رياض : جاءت ألوف الناس من الأقطار العربية بالطائرات والبواخر وأصبحت المناسبة هجرة أحزان جماهيرية جماعية، وانتشر النبأ في العالم يزرع الدهشة والحزن أينما تردد، ففي عمان توقف القتال .. وأفرغت دبابات الملك حسين مدافعها من الذخيرة وخرج الفدائيون من خنادقهم يصرخون ويهتفون باسمه، وحقق عبد الناصر في موته ما ناضل نضالا قاسيا من أجله في حياته، وفي بيروت أشهر الرجال مسدساتهم وبنادقهم وأفرغوا في كبد السماء طلقات الحزن، وفي طرابلس الغرب دخل العقيد معمر القذافى وحيدا إلى غرفته يبكى ولم يخرج منها حتى اليوم التالي، وبكى الفريق حافظ الأسد- الذي كان وزير الدفاع السوري آنذاك، وقال : " كنا نتصرف كالأطفال ونتخبط في تصرفاتنا لكننا كنا نعلم بأنه موجود لتصحيح أخطائنا ويرد عنا آثارها"، وفي الجزائر بكى الرئيس هواري بومدين بمرارة وأعلن الحداد في طول البلاد وعرضها، بل حتى في تل أبيب علقت غولدا مائير على النبأ قائلة : "من الذي أطلق هذه النكتة السخيفة؟"، وما أن تأكد الخبر حتى عمت الأفراح جميع أنحاء الأراضي المحتلة، وضل الصهاينة يهتفون بحياة "إسرائيل" بعد رحيل عدوها الأول . أما الرئيس نيكسون الذي كان من المقرر أن يركب حاملة الطائرات "ساراتوغا " لإجراء مناورات في الشطر الغربي من البحر الأبيض المتوسط - حيث كان الأمريكيون يريدون أن تسمع أصداء مدافع الأسطول السادس في القاهرة- فقد ألغى المناورات .ونظم مجهول مصر أغنية جنائزية لازمتها : " الوداع يا جمال... الوداع يا حبيب الملايين"، وسرت هذه الأغنية مسرى النار في الهشيم وأصبحت على كل شفة ولسان . ويضيف رياض : كانت جنازة ناصر أضخم وأكبر جنازة شهدتها البشرية، حتى أن جميع زعماء العالم تمنوا ويتمنون أن تكون جنازاتهم مثل جنازة ناصر، ومن فيض الجماهير التي غزت الشوارع استقدمت إلى القاهرة خمس فرق من القوات للسيطرة على المشيعين، لكن الجماهير كانت من الكثافة بحيث جرفت الجنود بعيدا، ولم يستطع هؤلاء الجنود على كثرتهم أن يبقوا طريق الجنازة سالكا بالقرب من مبنى مجلس قيادة الثورة القديم على النيل عبر حديقة التحرير حيث وضح نعشه المزين بالورود على منصة مكسوة بالحرير الأخضر، وهناك ودع الزوار من رؤساء الدول والحكومات جثمان الرئيس، ولاقى كثيرون منهم المصاعب في الوصول إلى حديقة التحرير، فاقتضى الأمر نقل كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي من السفارة الروسية إلى الحديقة في قارب بخاري بسبب كثافة الجماهير، وجرفته أحزان الناس فتطلع إليهم وقال: "يجب أن تكبحوا جماح حزنكم". وكان من المقرر نقل رؤساء الحكومات إلى فندق هيلتون لمشاهدة موكب الجنازة، إلا أن كثيرين منهم استحال عليهم الوصول إلى هناك، ولم يكن هناك شيء قط يقوى على كبح جماح الناس، فقد مزقت ثلاثة أعلام كانت تلف النعش واقتضى الأمر في ساحة محطة السكة الحديد نقل جثمان الرئيس من عربة المدفع التي باتت مهددة بالتحطم، ووضع فوق سيارة مصفحة. وفى النهاية وبعد مسيرة سبعة أميال في بحر عاصف من الجماهير وصل النعش إلى المسجد الذي تقرر أن يوارى في تربته، كان ذلك المسجد موضع اهتمام خاص منه في حياته وقد بنى في منطقة ذات ذكريات خاصة بالنسبة إليه، فبالقرب منه تقوم الشقة التي كان يقطنها وهو يعد للثورة، وبعد ذلك بقليل يقع مقر القيادة الذي احتله الضباط الأحرار في تلك الليلة الحاسمة، أما البيت الذي عاش فيه ومات رئيسا فلم يكن يبعد عن المسجد كثيرا، ووري في الثرى تحت شاهد رخامي نقشت عليه الآية القرآنية التي استشهد بها الرئيس أنور السادات عندما نعاه : " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية" تقرأون في الحلقة القادمة وثائق تثبت أن عبد الناصر مات مقتولا من قتل ناصر ؟