هناك كتّاب كثيرون يشعرونني بأني صغير عندم أقرأ لهم هالاتهم الأدبية الخالدة، ويجب أن أعترف أن هؤلاء من فصيلة الأنبياء، أو من سلالة أخرى غير السلالة البشرية التي تهتم بالحفظ ولا تفكر من حيث أنها تعيد إنتاج المنتوجات الغيرية بطريقة مشوّهة، ومقرفة أحيانا· اكتشفت نيكوس كازانتزاكي مصادفة، كان ذلك في نهاية السبعينيات عندما كانت مكتبات الجزائر زاخرة بالآداب العالمية، وبأسعار مقبولة تسمح لنا باقتنائها نحن الطلبة· قرأت أليكسي زوربا ولم أبلغ العشرين، وكنت وقتها قد بدأت محاولاتي القصصية الأولى من دون سند، كانت كتابات الآخرين هي التي توجهني، بقضها وقضيضها، إضافة إلى دروس أساتذة جامعة الجزائر· لا أذكر أن أحدهم حدثنا عن هذا الاسم، كما لم أسمع شيئا عن كتّاب آخرين سيؤثرون لاحقا في سلوكي وحياتي وتجاربي، بطريقة أو بأخرى، لقد علمني هؤلاء كيف أبذل جهدا سرديا وبلاغيا وبنائيا دون أن أحتكم إلى معيار محدد ونهائي، وأنا مدين لهم ما حييت· اندهشت أيما دهشة عندما أنهيت زوربا الإغريقي، وكان عليّ أن أبحث عن بقية أعمال هذا الكائن الخارق الذي أحسن تأديبي في وقت ما، ذلك أنه اجتث غروري الفرضي عن آخره، وهكذا أصبحت أنظر إلى الأدب بعين أخرى، عرفت أن الحكاية بمفردها لا تصنع رواية كبيرة، مهما كانت أهمية هذه الحكاية، كما أن الكتابات الكثيرة لا تصنع كاتبا مهما قادرا على الصمود أمام المتغيرات الكثيرة التي تقضي على الكتابة الصغيرة· تأكدت من عبقرية نيكوس عندما قرأت ''الإخوة الأعداء''، ثم ''المسيح يصلب من جديد''، بدا لي أنه هذا الشخص احتكر مواهب الآخرين وجمعها في إبداعاته المثيرة، كان مؤسسة مستقلة تشغّل عدة أشخاص في شخص واحد اسمه كازانتزاكي· أعتقد أن هذا الكاتب الاستثنائي في تاريخ الأدب العالمي برمته كان يفكر بالرأس والأصابع والعينين والذاكرة والأوراق والأقلام، كان آلة سردية حقيقية، وليس من السهل أن تصنع الدنيا واحدا على شاكلته لأن هذا النوع لا يمكن العثور عليه في الأسواق، أسواق الأدب التجاري والأدب الذي تعلي من شأنه الشركات السياسية والكتابات النقدية والصحفية المأجورة، هذا النوع الأدبي الذي يخضع للعرض والطلب ورغبات اللوبيات على أصعدة مختلفة، وهو أدب عادة ما يرفق بإشهار وميزانية خاصة من أجل فرضه على الملتقى، أو منحه مكانة غير مستحقة على حساب الأعمال الأدبية الحقيقية التي لا تهتم سوى بالشأن الفني· لم يكن المعلم نيكوس كازانتزاكي من هذه الفئة التي تفرضها على الذائقة الجماعية سياقات تاريخية مخصوصة لها مصالح في الترويج لهذا أو ذاك، لقد عاش أديبا كبيرا بكل المواصفات التي نتخيلها، والتي لا يمكن أن تخطر على بالنا في يوم ما· ليس من السهل أن تنتج العبقرية البشرية رواية من نوع زوربا الإغريقي، هذه الملحمة التي تعد امتدادا للآداب اليونانية القديمة، لقد تشبع الرجل بموروث أجداده وحكايا الآلهة في أثينا القديمة، تقلد مسؤوليات سامية تم اختار الأدب، انحاز إلى المتخيل، إلى جوهره· ليست زوربا الإغريقي رواية فحسب، إنها سمفونية عن ماهية الوجود والعدم، ولا يمكن أن نقرأها دون أن تترك فينا آثارا عميقة لا تنمحي أبدا، مهما حاولنا تجاهلها، لا يمكن للإنسان الفاضل أن يكون كنودا، هذه الرواية نعمة من السماء تجعلك تشكر البارئ لأنه خلق روائيا من هذا الطراز النادر ومنحه ملكة السرد· قرأت هذا النص المدهش عدة مرات، وإذ رغبت في وضع علامات تحت الجمل المهمة وجدت أن قلم الرصاص علّم الكتابة بأكملها، لم تكن الجمل جملا، بل دروسا ولوحات وبلاغة وحياة، سواء على المستوى السردي، أو على مستوى الحوارات أو على مستوى رسم الشخصيات وتوزيعها· هناك ورشة كبيرة تشتغل باحترافية انطلاقا من الحاضر في سيرورته الفلسفية المضمرة أحيانا والمحيّنة لفظيا في مقاطع كثيرة تحيل على تكوين الكاتب ورؤيته للعالم وللأشياء الصغيرة التي لا نراها· وإنه ليخيل إليك في لحظات أن للسيد آلاف العيون الموزعة في النفس وفي التاريخ وفي الأزمنة القادمة، تلك التي تبعد عنا بآلاف السنين الضوئية، لقد حلت عيونه محل الجسد الفارغ· كان الشاعر العربي أدونيس يقول عن نفسه: ''أشعر أني أجيئ من المستقبل''، أما نيكوس فمنتشر في كل الأماكن وفي كل الأوقات لأنه لا يكتب، إنما يرقص أو يغني جمله، مثل بطله الذي يرقص جملا لصديقه الروسي الذي لم يكن يفهم بعض جمله اليونانية، فينهض ويبدأ في الرقص لتمرير بلاغه بنظام آخر من العلامات، بلغة أخرى غير التي نتعامل بها في خطابنا العيّ، وهذي إشارة إلى فهمه للوسيلة الإبلاغية وكيفية التعامل معها· وما يقال عن فرادة زوربا ينطبق على الإخوة الأعداء، هذا العمل الملهم الذي يصور حربا بطريقة مدهشة ومثيرة، ليس الموضوع هو الأساس، إنما القوة السردية التي نقلت المأساة إلى المتلقي بنسيج متناغم وأصيل، ويجب التأكيد على الأصالة لأنها إحدى ميزات هذا الكاتب الذي ينطلق من المحيط الخارجي ليحلق في السماوات بعيدا عن المعالجة السطحية لمتاعب الإنسان في الوجود المبهم الذي يغدو سؤالا محيرا لا إجابة له· إنه حالة الأب التائه بين مد وجزر، هي حالة أوديب وحالتنا في جهة ما، حالة العقل الحائر والنفس المتشظية وبؤس الروح في مجتمعات بليدة في زمان ما وفي مكان ما، ليس اليونان بالضرورة، لأن طريقة الكتابة تمحو الحدود الإقليمية والزمانية، لا يوجد ضغط لهذه الثنائية بالتصوّر الساذج الذي يسم بعض أعمالنا الظرفية الفاشلة التي لا تولي أهمية لمستقبل النص وانتشاره، أقصد إمكانية حدوث تماس أو مجاورات حدثية في حدود جغرافية متباعدة ومتباينة، بغض النظر عن الإنتماء المكاني المغلق ومبدأ الإنعكاس الآلي كما هو متواتر عند كتاب مشدودين إلى الراهن· لقد أدرك الكاتب جماليات المكان وعالميته، فقدم لنا مكانا فرضيا، محتملا، ما جعلنا نتخيل الحكاية هنا وهناك، اليوم وغدا، في جهة ما، على شاكلة مدارك الواقعية السحرية، دون التأسيس عليها أو محاكاتها· الشيء ذاته في المسيح يصلب من جديد، ثمة قدرة مذهلة على التشكيل والبنينة على كافة الأصعدة، تقنيات تدعو إلى الدهشة، إلى القراءة المتواصلة لصفحات متقنة، محبوكة بإتقان، كل جملة في مكانها، كل لفظة لها وظيفتها السياقية، كل وصف له مسوغاته، النص حديقة من الزهر والكاتب بستاني ماهر يرتب الحيز والشخصيات وفق مشيئته، يرتب السكان واللغة والصور والمجالات التصويرية والمعالم والمجالات المعلمية بأناقة الآلهة الإغريقية· أما كتابه العودة إلى غريكو (الطريق إلى غريكو) فهو من التحف النادرة في التاريخ البشري من ألفه إلى يائه، من الآداب القديمة إلى غاية ما كتب في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، إلى غير ذلك من المصطلحات النظرية الفضفاضة والغامضة، وقد استعملت الفضفاضة والغامضة لأن الأعمال الأدبية الجيدة ليس بحاجة إلى هذه التصنيفات والتقييمات من حيث أنها لم تفكر فيها ولا تعنيها، لا من قريب ولا من بعيد، لا البارحة ولا اليوم ولا غدا· ''العودة إلى غريكو'' هو كتاب من نوع خاص، ما يشبه الربيع في الصحراء البشرية القاتلة، صحراء العقل والفن والبصيرة والذائقة، لن أغالي إن قلت إنه كتب بعناية إلهية خارقة، وقد أسهم في إنجازه معشر الإنس والجن، لأنه ليس بمقدور كاتب واحد أن يحقق ذلك، ماعدا إن كان يتمتع بقدرات غير بشرية، إن كان مسكونا بشياطين البلاغة والفكر· عود على بدء: هذه أجزاء، أما القيمة الحقيقية الأخرى لأعمال نيكوس كازانتزاكي فتكمن في أبعاد مركبة يتعذر الحديث عنها، أو كما قال أبو حيان التوحيدي: ''الكلام على الكلام صعد'' مؤلفات نيكوس كازانتزاكي تشدك إليها بهذا الزاد المعرفي الذي يؤثث الحمولة الدلالية ويجعلها ثخينة، مشبعة بمرجعات عديدة تتم عن ثقافة متنوعة استثمرت لأغراض جمالية، وأي استثمار! لا توجد دروس تقريرية، لا مجال للموعظة، هناك طاقة انسيابية غريبة تضمر هذه المعارف لتجعلها منطقية، متآلفة، مصفاة، قابلة للتأثير بفعل العلاقات السببية التي تجمع الشخصيات بالملفوظات والعلة بالمعلول والمقدمات بالنتائج والأحداث بالأفعال والحالات· حتى اللحظات الأكثر غرابة ومفارقة تبدو غاية في الانسجام، ويجب أن تكون كذلك، مقلوبة ومنطقية، الخطاب المضاد هو القاعدة، الصورة المضادة كذلك، الفكرة المنافية للعقل، للنواميس، للمتصورات القائمة، لكن ذلك لا يحدث باستخفاف، هناك جهد عقلي كبير يعيد ترتيب الأشياء وفق نظام آخر خاص بجمهورية نيكوس دون غيره، لأنه لا يمكن محاكاته أبدا، وإذا حدث أن تم استنساخ كتابته فيجب على الناسخ قراءة كتب الدنيا وتمثلها وغربلتها واكتساب الكفاءة اللازمة لتحويلها إلى عمل فني مربك على كل المستويات، هذه هي الطريقة الوحيدة لتقليده، وقد يحدث ذلك ببعض المسخ الأدنى· ما يبدو غير عقلاني يصبح عقلانيا: العبث الظاهري الذي تجليه الملفوظات والحوارات والصور، العلاقات غير السببية بين الحالة والفعل والحالة (بمفهوم تودوروف في دراسته لألف ليلة وليلة) العلاقات المفارقة ما بين السؤال والجواب ثم هذا الاشتغال الكبير على آلة التصوير، وهناك المنظورات الفلسفية التي تعد جوهر مؤلفات كازانتزاكي، والحال أنه لا يقدم حكايات عارية، بل فلسفة في قالب حكاية، وبكفاءة عالية في تحويل الشأن السياسي أو الديني إلى جمال، دون النزول بالفن إلى المستوى الفظ، بالمفهوم السردي والأسلوبي للكملة· لا أعتقد أني قدمت هذا الكاتب، لأنه ليس بمقدوري تقديمه، وليس بوسع أحدث المناهج الأدبية الإلمام بعبقريته، لأن هناك كتابا فوق المناهج وفوق الكلمات، إنهم أكبر من علامتنا اللغوية وغير اللغوية لأنهم كتبوا، بأرواحهم الموهوبة، الشفافة، هؤلاء هم قادتنا إلى نفوسنا الصغيرة، إلى حقيقتنا البعيدة، إلى ضوء غدنا الإنساني· لذلك يجب أن نقرأ مؤلفاتهم، كما هي، بغض النظر عن مواقفنا الإيديولوجية بعيدا عن نزاعاتنا العابرة التي تقتل فينا التنوع والمعنى، بعيدا جدا عن محدوديتنا الفكرية والفلسفية، أما رأينا فيأتي لاحقا، رأي يؤسس على معرفة· لا أدري كيف تم إهمال كاتب بهذا الحجم، كما أهمل راسبوتين وبولجاكو وهرمان هيسه وهنري ميللر··· وغيرهم، أكيد أن الدعاية لعبت دورها السلبي وحرمت القارئ من الإطلاع على مؤلفات قامات سامقة، لم يكن التاريخ الأدبي منصفا، وهناك انحياز النقد غير البريء· لقد تعلمت من نيكوس كيف أقف حائرا أمام القدرات البلاغية التي يخزنها المتخيل البشري، وتعلمت منه أن الكتابة فلسفة، مهما كانت الموضوعات، لكن القدرة على التعامل معها هي التي تجعلها مهمة أو ليست ذات أهمية· كانت نهاية كازانتزاكي نهاية مأساوية ومتوقعة بالنسبة للذين فهموا خطابه وألغازه، انتحر عام 1963 تاركا لنا سذاجتنا· لقد وقف ضد قناعاته الدينية والفلسفية، انتهى ضد الحياة التي آمن بها وأحبها، لكنه خلّف أضواء للآخرين·