تم تبني المسرح في الجزائر في ظروف معينة، وأثرت شروط هذا التبني كثيرا على تطوره، فالمسرح في الجزائر فن مستعار، كما تمت ممارسته في السابق، وكما يمارس في الوقت الحالي لأنه في الأساس فن مستورد، ولأن الجزائريين لم يتقبلوه إلا مؤخرا، بيد أن ذلك لم يؤثر أبدا على تكفلهم الجدي به ولا على منحهم إياه ما يشبه الشرعية أو الضمانة الضرورية لكي يتم الاعتراف به على المستوى الوطني· هذه الوضعية التي يكتنفها الكثير من الغموض، هي ما يميز المشهد الفني الجزائري الذي يعيش نوعا من الواقع المركب الذي يتميز بالاختلاف الثقافي الشديد· استحوذت النخبة العاصمية (الجزائر العاصمة) على هذا الفن منذ البداية، وشرعت في إعدادها للنصوص المسرحية، وكان هذا الأمر جديدا على المجتمع الجزائري، وبالتالي مثيرا للفضول، لكن هذا الفن المستعار لم ولن يمنع إطلاقا من تواجد عناصر اكتسبت العرض المسرحي، عناصر مستمدة من التراث الشفهي، فاستيعاب النموذج الفرنسي لم ينجح في محو آثار الأماكن الثقافية الشعبية البادية في المسرحيات المكتوبة من طرف مؤلفين، أثر فيهم المخيال الشعبي وسمات الأدب الشعبي لدرجة كبيرة، هذا مع العلم أن عدة أشكال تقليدية انتهت إلى التلاشي في الوقت الذي تبنى فيه الجزائريون فن المسرح بصفة نهائية وخاصة تحت ضغط التحولات و الأحداث التي كانت تعصف بالمجتمع الجزائري، وهذا ما يطلق عليه عالم الاجتماع التونسي، اسم ''الرهن الأصلي''· عندما يصف هذه الوقائع الجديدة ويدعوه جون دوفينو ''أساطير أيديولوجيات مأساوية''· إذا ما ساءلنا واقع المسرح في الجزائر خلال بداية القرن نلاحظ أن الرواد الأوائل من أمثال علالو و قسنطيني وبشطارزي الذين استعاروا القالب الأوروبي، لم ينجحوا في التخلص نهائيا من القوة المغناطيسية التي تمثلت في العمق الدرامي الشعبي الذي يكتسح مخيال وثقافة هؤلاء المؤلفين الثلاث· كانت المسرحيات تخضع بكل تأكيد للقالب الأوروبي في ترتيبها للأحداث، لكنها تحولت إلى موضع تتجمع فيه إراديا أو لا إراديا الإشارات الكامنة الدالة على الثقافة الشعبية· كانت بنية الحكاية هي الخلفية السائدة للعرض المسرحي، كما كان الشعر الحاضر غالبا في الفضاءات الشعبية، كثيرا ما يتخلل النص ليصبح مركز الفعل وكانت الكلمة كذلك تؤثر بدورها في التمثيل وفي قدرات الممثلين وتحدد الوجوه الهندسية الكبرى والانفعالات المشهدية، كانت الذاكرة تتسلل قسرا إلى عالم جديد لا يمكنه صد هذا الاكتساح الذي يحول جدريا البنية المسرحية الراسخة بعمق في أغوار المخيلة المسرحية، ليوقظ الوقائع الثقافية الأصلية· بطريقة مبعثرة ومشوشة حال ملامسة هذه الأخيرة للقيم والأشكال الخارجية· هذا الكمون تمدده المدة الزمنية و الإشارات الكامنة تميز الواقع الاجتماعي المعاش، لكنها تبقى في حالة يقظة أي في حالة انتظار· بيد أن الباحثة الفرنسية ''أرليث روث'' أول باحثة ناقشت دكتوراه حول المسرح في الجزائر، لا يبدو أنها عاينت هذه المسألة، إذ تجاهلت هذا المشكل واكتفت فقط بالتأكيد على نقص التكوين لدى الرعيل الأول من المؤلفين الدراميين وقد كتبت روث ما يلي ''لقد اقتصروا على تقبل فكرة تمثيل بعض السكاتشات وإدماج هذه الإنتاجات في عرض يتضمن أغاني ورقصات قدموها تحت اسم أعراس عربية'' · يبدو هذا التفسير غير كامل، لأن الباحثة أزاحت عنصرا هاما يتلخص في انبثاق المخيال الجماعي وعراقة هذه المجتمعات والأشكال الشعبية المطمورة التي بقيت في حالة كمون في اللاوعي، والتي تبرز على غير انتظار من خلال التعبيرات الثقافية والاجتماعية إن الثقافة الشعبية التي يدعي البعض أنها اختفت نهائيا ويعتبرون أنها اندرجت في عداد الموتى تشهد فجأة تحولات جذرية وتذهب حد العمل على تغيير الأشكال التي قيل عنها عالمة· إن عامل المفاجأة هو أكثر ما يميز اقتحام الفضاءات المغلقة بإحكام، وبذلك تنتهك الاستعارة التي غالبا ما تكون في حالة كمون الفضاءات المغلقة وغير قابلة لاستقبال هذا الشكل المستعار· لم يكن في مقدور العلامات الخارجية أو التي تتكون خارج السياق أن تمحو نهائيا البنى الداخلية أو تلك التي تتطور داخل السياق هذه البنى التي هي عبارة عن منتوجات معبئة بالعلم وبالتاريخ تقتحم العرض الدرامي الجزائري· إن نصوص علالو وقسنطيني وبشطارزي تحتوي شئنا أما ابينا على مخلفات الثقافة الأصلية التي تخضع بكل بساطة إلى أولوية الجهاز المسرحي · مسرح الكلمة والقول: لقد وضع المؤلفون / الممثلون الذين كانوا متفهمين لجمهورهم ويولون أهمية قصوى لفعل التلقي شخصيات مستقاة من الحكايات الشعبية ومن الأدب الشفهي والكتابي على خشبة المسرح· وكانت مواضيعهم مستوحاة من الواقع اليومي ومن الأحاجي والعروض السحرية وشكلت ألف ليلة وليلة بالإضافة إلى حكايات اجحاب (تلك الشخصية العربية الشعبية)· العناصر الأساسية التي يتركز عليها العرض المسرحي كما كانت أول مسرحية جزائرية باللغة العربية الدارجة عبارة عن وصف لمفاخر وحيل ''جحا'' تلك الشخصية الأسطورية المحببة لدى الأوساط الشعبية، وقد اتخدت هذه المسرحيات أساسا طابع البنية المسرحية الغربية على صعيد الترتيب والإحكام لكنها تميزت أحيانا بسير دائري لتتابع الأحداث كان يجسد موقع الحكاية الشعبية ويوظف أيضا العناصر الخرافية والعجيبة، وانقسمت المسرحيات إلى عدة مشاهد (يتراوح عددها من واحد إلى خمسة) تتناول أحيانا مواضيع وقائع مستمدة من عالم الحكاية الشعبية ومن بين العناصر التي وظفت في هذه العروض المسرحية: التكرار، الشكل اللولبي، أهمية الراوي، أولوية الفعل على الأداء، استعمال اللواحق المسرحية البسيطة (العصا على سبيل المثال) فهذا المسرح كان مسرح الفعل بالدرجة الأولى، مسرح الكلمة وغالبا ما ينوب فيه الممثلون عن ''القوال'' أو ''المداح'' كان كل شيء يرتكز على قريحة ومهارة الممثل وقدرته على استعمال والتحكم في أداء الكلمة والرد السريع الذي يصيب مرماه في الحين· ويمكن تفسير نجاح قسنطيني أو التوري بنزوعهما إلى الارتجال باستمرار، والارتجال أمر مريح لجمهور تعود على هذا النوع من الوضعيات، إذ يتيح له أن يلتقي من جديد بالراوي وبالساحة العمومية أو بالسوق وبالتالي تقتحم هذه الساحة العمومية المسرح دون سابق إنذار، إذ ينقلها المتفرج إلى قاعات العرض ويلعب المخيال دورا هاما في كيفية سير العرض المسرحي وفي عملية التلقي· إن المكان اكتسب الملموس الخاص بالمسرح يختلف بالفعل عن الفضاء المفتوح الذي يحتله الراوي (سواء كان مداحا أم قوالا) وما إن ينتقل إلى المسرح حتى تحدد العوارض (الاحتمالات) الثقافية والتاريخية العلاقة التي يقيمها المتفرج مع المسرح والتي تعرضت لتحولات جوهرية غاية في الدقة ناجمة عن تسلل مخيال الجمهور إلى المسرح، فالممثل المسرحي كان يتطور في فضاء مغلق، في حين كان المداح أو القوال يحتل الأسواق والساحات العمومية في المدن والقرى· لقد وظف الهجاء الاجتماعي في المسار السردي للحكاية وبالتالي نددت قصص جحا بعيوب المجتمع الجزائري من لؤم المفتي إلى جشع بعض القضاة وطمع الأغنياء إلى نفاق المجتمع· فالعديد من المواضيع ومن الشخصيات المسرحية المستمدة من عمق التراث والثوري وحتى رويشد· كما أن كاتب ياسين أكد على البنية السردية حول شخصية جحا الذي أصبح بالمناسبة سحابة دخان أو زيتون التي تتحول تدريجيا على الخشبة لتصبح مركز أحداث الساعة· هذا المزج الفرضي بين شكلين متناقضين ظاهريا يميز العرض الفني الأدبي الجزائري ويشكل تيارا يعيد تناول بعض العناصر من الثقافة الشعبية بطريقة لا إرادية، يمثل هذا التيار بوضوح كل من كاتب ياسين وعبد القادر علولة وولد عبد الرحمن كاكي وسليمان بن عيسى، وقد أفرزوا شكلا مسرحيا يزاوج بين التقليد والمعاصر فكاتب ياسين الذي استدعى جحا كان يسعى إلى كسر الحائط الرابع إلى التقليص من تضاعف الفضاءات والأزمنة عبر التقطيع السردي وإقامة علاقة مثمرة مع الجمهور، أقيمت عدة عروض لمسرحياته في الهواء الطلق، ومن جهته أدخل علولة القوال أي الحاكي معيدا إنتاج التنظيم المادي للحلقة فوق خشبة المسرح ، هذه الحلقة التي كانت تجد نفسها حبيسة الفضاء المسرحي التقليدي ويمكننا الاستشهاد بأربع مسرحيات لعلولة انضوت تحت راية هذه التجربة الأصلية هي ''حمق سليم''، ''القوال''، ''الأجواد'' و''اللثام''· أما سليمان بن عيسى فقد ألقى بنفسه في أداءات خارقة للعادة عبر الكلمة التي باشرت في إقامة عملية تنظيم للفضاء مع مختلف حركات الشخصيات والبناء التاريخي للخطاب المسرحي ومن جهته احتفل ولد عبد الرحمن كاكي بعرس بهيج، احتفل بزواج بريشت بالثقافة الشعبية حمال الماء والمرابطين الثلاث· كان الفعل عنده يتبع مشاهدة الصورة ويساهم في تشكيل مختلف المستويات المسرحية والقواعد الهندسية والبيوغرافية، يدرج الزمن الأسطوري، زمن الحكاية، الاضطراب على نطاق التوسلات الزمنية الحالية، الملموسة و ويقترن بفضاءات غالبا ما يحددها المؤلف والمخرج المسرحي وقد جعل تكامل الفضاءات وحضور العناصر العجيبة والخارقة، هذه المسرحيات تكتسب بعدا شاعريا وأفرز تجزيئا للمسار السردي· وشحنت أولى التجارب المسرحية الجزائرية شخصياتها وكذا الوضعيات الأسطورية بمحتوى اغترفته من ثقافة ا العاديب فعلالو عكف على إخراج مسرحيات استمدها من ''ألف ليلة وليلة''، لكنه أعاد استخدام حكايات هذا العمل الأدبي الشهير خاصة بالكيفية التي يستوعبها المخيال الشعبي، لقد استعمل علالو في مسرحياته ''أبو حسن المغفل''، ''الخليفة والسيد''، ''حلاق غرناطة''، ''عنتر لحشايشي'' بالفعل مخطط التنظيم التقليدي (التقطيع حسب المشاهد، دخول وخروج الممثلين، تركيب الديكور، الأزياء)· بيد أنه احتفظ بالشخصيات وبالوضعيات والهيئات الفضائية الزمنية كما هي· إلا أنه كثيرا ما كان يبعث بأسماء الشخصيات ويقلب الأدوار، فهارون الرشيد يصبح قارون الرشيق وعنتر المعروف بشجاعته الأسطورية ومعشقه المجنون يتحول إلى رجل حذر يفتقد إلى الشهامة ولا تحق عشرته، إن الأسطورة والتاريخ قد شهد في مسرحيات علالو تشويها أكسبها محتوى جديدا وبنية جديدة و أضحى ''التقليد'' و''التجديد'' متوازيين، يتحاوران فيما يشبه عالما من جليد· العودة إلى التراث: إن الخطاب الأصلي أفسح المجال لتحولات درامية جذرية و تضع جنبا إلى جنب تصوران اثنان للعالم والكتابة الدرامية، هذا التحول الجذري في الإشارات أحدث استقلالا مضاعفا للمعني وحرك مبادرة مزدوجة، لكنه على النقيض، يساهم في إنشاء وحدة خطابية· كان هذا النمط الجديد من الكتابة، والذي كثيرا ما نال إعجاب الجمهور العريض، يضع نفسه في خدمة بنية خارجية، أو تقع خارج السياق، تفرض أولويتها على مستوى العرض النهائي، وتلك مفارقة عجيبة، فالإشارات كانت تحمل في طياتها نظاما من التجسيد لتعيد إنتاجه فيفرز نوعا من التناقص الخطابي، يشرح سعد الدين شنب مدى إسهامات االتقاليدب الشفهية في المسرح الجزائري بما يلي: ''إن الحكاية التي يفترق منها المؤلفون العاصميون أعمالهم مشكلة من مجموعة قصص رائعة وأساطير ذهبية أورثتها الأجيال القديمة منذ قرون عن طريق السمع لا عبر النصوص المكتوبة، وتعود هذه الخاصية بدون أدنى شك إلى الطابع الشعبي البحث للمسرح العاصميبوهو مسرح هزليب الذي لم يكن مؤلفوه من أهل البحث و التبحر في المعرفة · إن الأعمال العاصمية ليست عبارة عن إعادة بناء لأن المؤلفين اعترفوا دائما مصادرهم من الكنز المشترك الذي استمده الشعب من الحضارة والتاريخ العربيين''. استخدم العديد من المؤلفين إذن القصص والحكايات المستمدة من التراث الأدبي وبطبيعة الحال لم يعمل أغلبية الممثلين على الاستلهام من الثقافة الشعبية بطريقة سافرة، إنما كانت العناصر المأخوذة من هذه الثقافة الشعبية تؤثر على نصوص درامية عديدة، لكن الأمور بدأت تتغير نوعا ما، لأن ظاهرة التغريب عمت في وقتنا الحالي واكتسحت عدة فضاءات ، فضاء التراوي ص08 في حين سعر بعض المؤلفين إلى إعادة استخدام الأشكال الدرامية القديمة (كالحلقة والقوال والمداح والعساوة····الخ). وبالتالي أصبحنا نعثر على شخصيات وأوضاع مأخوذة من ''ألف ليلة وليلة'' وباقي الحكايات الشعبية في المسرح الجزائري، وقد حدث إفراط في توظيف شخصية جحا في المسرح الذي تحول مثلا إلى ''موح زيتون'' عند كاتب ياسين كما زاد اهتمام المؤلفين العرب والأفارقة في وقتنا الحالي، بالعودة إلى استخدام الأشكال الشعبية، وميز آخر الإنتاجات المسرحية الجزائرية بعودة متكررة إلى التاريخ القديم وإلى مختلف البنيات الدرامية الوطنية مثلما الحال في مسرحية ''دف القول والبندير'' للمسرحي الشاب طيب دهيمي والتابعة للمسرح الجهوي لقسنطينة، فهذه المسرحة تنقل بعض الأشكال القديمة (القوال، المداح، العيساوة، البوغنجة) فوق خشبة المسرح وفي فضاء مغلق يكثر فيه تحديد إشارات العرض المسرحي، ليحركها وفق بنية اتفاقية. ومن جهته، نجح أحميدة العياشي، المؤلف والممثل والمخرج الدرامي والصحفي في إثارة انطلاقه موافقة للكلمة المستمدة من الكنوز الشعرية للغرب الجزائري، ولأداء يستخدم التعبير الجسدي والبصري، إن الإشارات الثقافية الشعبية تنبئ بنوع من الملحمة، وبإعادة النظر في لغة متفق عليها وتحت ضغط الأشكال الدرامية المستعارة من عالم ثقافي آخر تنثني المعايير السائدة تغدو أكثر مرونة وأقل سطوة وهيمنة ويمتزج نوعان من العروض ليصنعا صورة فرضية تضع أحيانا وجها لوجه نظامين من الإشارات الفريدة· نظامان يساهمان في نهاية الأمر في عملية إضفاء معنى شامل وفي تعريف الخطاب الإجمالي· إن الإخراج المسرحي، هذا الفضاء الذي تتركز فيه مختلف الهيئات الخطابية الخاصة، يتغذى من التعارض زمن الثنائية المذهلة التي تفرز على عكس كل انتظار- خطابا مسرحيا منسجما ومترابطا وفي هذا المجال نجد بيتر بروك الذي يعمل باتجاه امسرح مفتوحب تلك التجربة الأصلية لمهرجان أفنيون والممثلة في تجربة الفضاء المغلق وكسر التصور السائد لفن التمثيل وتركيب النصوص من الكتابة هو حاليا في قلب النقاشات الدائرات في البلدان الأفريقية والعربية يحتل الغناء والرقص في أغلب الأحيان مكانة جوهرية وربما اكتشف القارئ آثارا ضحلة جدا للثقافة الشعبية في بعض المسرحيات الواقعة تحت التأثير الكبير للتجارب المسرحية التقليدية· أتيحت لبعض الممثلين/المؤلفين بعد الحرب العالمية الثانية إمكانية متابعة دروس في الفن الدرامي بمراكز فرنسية للتكوين( المركز الجهوي للفن الدرامي ومصلحة التربية الشعبية) وحاولوا إعادة إنتاج نمط الترتيب المهين على المؤسسة المسرحية الفرنسية· فمصطفى كاتب وعبد الحليم رايس اللذان قدما للمسرح في الأربعينيات، لم يوليا إلا منزلة صغيرة ''التقاليد الشفهية''، فالخيارات الجمالية التي تم الحسم فيها كانت قطعية. إعادة توظيف التقنيات المسرحية التقليدية في الكتابة، فقد كانا يجيدان الكتابة المسرحية، مما سمح لهما ببناء فضاءات أصيلة على الرغم من نقل العتاد المسرحي ومن التأكيد على القدرات الصوتية، وعلى الرغم من الخيارات الواضحة فيما يخص الإخراج المسرحي إلا أنه لم يكن من النادر أن نعثر في أعمالها على آثار واضحة لخصائص ومميزات الحكاية الشعبية، فنجد أن مصطفى كاتب، على سبيل المثال أعاد استعمال شخصية ''جحا'' في مسرحية ''جحا باع حمارو'' التي أخرجها للمسرح الوطني عام .1938 أما المونولوج أو ''ألوان مان شو'' (عرض الرجل الواحد) هذه الضيفة المستعملة بكثرة خلال الثمانينيات والتسعينيات فقد اغترفت هي أيضا حيويتها من نفس هذه الثقافة الشعبية أي من قصص الرواة حتى وإن شكلت أحداث الساعة سياسة كانت أم اجتماعية، الفضاء الجامع لخطاب هذا الشكل المسرحي الذي كثيرا ما حدد المسار السردي وأطلق العنان لشتى المعاني· تذكرنا طريقة السرد والتمثيل الإيجازي المضمر وكذا تكاثر الكليات الفضائية - الزمنية واستخدام بعض اللواحق بالتقنيات التي يستعملها الرواة الشعبيين· قد نجح محمد فلاق في الربط بين هيئتين سرديتين أدمجهما في بعضهما البعض فنتج عنهما خطاب لاذع هو العلامة المميزة لحكايات جحا· سيستخدم فلاق بطبيعة الحال تقنيات المسرح الإتفاقي (المهرج، الزي) لكنه يؤسس عمله المسرحي حول الكلمة التي تعدد الفضاءات وتحدد الخيارات الزمنية، في حين يفرق أحميدة العياشي حتى أذنيه في عملية إعادة امتلاك مختلف العناصر المستعارة من الإرث الثقافي الشفهي، ويكتسح حكيم دكار بدوره وهو ممثل شاب و فرض نفسه بجد على الساحة المسرحية في الجزائر · فضاء الراوي ويتلاعب بحذاقة بالكلمات والإيماءات ولإشارات وهو يحذو حذو القسنطيني والتوري وكل أولئك الرواة الذين ملأوا الساحات العمومية· بمقدور هؤلاء الممثلين أن يتطوروا بدون أي مشاكل في الفضاءات المفتوحة، ومن جهة أخرى تشكل كفاءة الممثل وتلاعبه بالكلمة المواضيع الرئيسية للأداء المذهل· إن تبني فن المسرح لم يتم دفعة واحدة لكنه تميز بتدرج متعرج وقطيعة متكررة وقارة فقد تم استيعاب العديد من العناصر بطريقة تدريجية، المكان المسرحي، الديكور، الأزياء···الخ· وقد تطابق هذا التدرج مع احتياجات الساحة ومع طلب الجمهور الذي غالبا ما كان مطبوعا بالثقافة الفرنسية وأثار ثقافته نفسها ومع التكوين المكتسب من طرف رجالات المسرح · يصر المؤلفون حاليا، وبإلحاح على توظيف الأشكال الشعبية· إن عملية استدعاء الحلقة، العيساوة، الراوي (القوال أو المداح) تلبي حاجة ملحة لإعادة النظر في النوع المسرحي· وتعبر عن رغبة في القطيعة مع نمط ترتيب السرد والفضاء المسرحي الحالي الذي يرزح تحت كثير من الجمود والثقل· لقد أدمج علولة الحلقة (البنية الدائرية) والقوال (الراوي) في تشكيل نصوصه المسرحية، لكن هذه الأشكال سرعان ما تتحلل في غياب فضاء مفتوح وعالم أكثر استقبالا وتلقي·