إن الخطر الإسرائيلي قد كشف عن حقيقته التي كانت تتوارى حول مشروعات للتسوية السلمية يلقى بها إلى ساحة العمل السياسي كلما اشتدت مقاومة الاحتلال من جانب الشعوب العربية التي تقاسي وطأته، ولقد انفقدت الشعوب العربية خمسة عقود كاملة تناقش وتفاوض حول مشروعات لم يكن يراد لأي منها أن يرسي أسسا صالحة لتحقيق سلام عادل في المنطقة، وتبين أن الحديث عن دولة فلسطينية مستقلة وكاملة السيادة على أرضها تقوم جنبا إلى جنب مع دولة إسرائل كان حديثا يراد به فضّ المجالس·· ويتزامن معه عمل دؤوب لإفراغه من مضمونه وجوهره، وأن التخطيط غير المعلن قد كان متجها طوال الوقت نحو تمكين إسرائيل من تحقيق أمن مطلق على حساب غياب مطلق للأمن على الجانب العربي وتمكينها فوق ذلك من الهيمنة العسكرية والاقتصادية والسياسية على سائر جيرانها، ولقد أخطأ خطأ فادحا من جانب أكثر العرب في تقدير كاتب هذا الرأي البسيط والضعيف أن نملأ الدنيا حديثا عن السلام هو الخيار الاستراتيجي الوحيد للعرب وأن حرب أكتوبر 1973 ستكون آخر الحروب، ذلك أنه إذا كان قرار الحرب لا يحتاج إلا إلى إرادة واحدة وهي إرادة المعتدي، فإن قرار السلام يحتاج على الأقل إلى إرادتين، ولم نر نحن العرب في السلوك والتعامل الإسرائيلي الذي صاحب هذا الكلام الكثير عن مشروعات التسوية السليمة ما يشير من قريب أو بعيد إلى صدق النية في التوجه نحو السلام العادل الذي يحقق مصالح جميع الأطراف المتنازعة· وإذا كانت الأزمة الأخيرة قد كشفت بوضوح كامل عن هذه الحقائق، فإن الحاجة قد صارت ماسة إلى وقفة مراجعة واستدراك توضح فيها الحقائق الجديدة بكل تفاصيلها وشواهدها ودلالتها أمام راسمي السياسة العربية على المستويين الإقليمي والداخلي في كل دولة، حيث تتحرك هذه السياسات كلها لخدمة الأهداف المحددة والمتفق عليها وبحيث يرتب لقاء دوري لمراجعة كل ما جرى من نشاط وما اتخذ من قرارات تحقيقا لهذه الأهداف· ومرة أخرى نقول إنه لا يجوز الانصراف عن هذه الأهداف الكبرى التي تتعلق بمستقبل الأمة كلها، انشغالا بصراعات ومنافسات صغيرة بين أحزاب وتيارات سياسية مختلفة أو صراعات بين أنظمة وحكام لا يليق مطلقا ولا يجوز أن نضيع فيها ساعة واحدة من أوقات الشعوب على حساب المصالح الكبرى لتلك الشعوب، وهذا ما يجعلنا نقول إن مستقبل هذه المنطقة، وأقصد الشرق الأوسط، حيث يقطنها أكثر من ثلاثمائة مليون عربي، قد تختلف عقائدهم الدينية وتوجهاتهم السياسية وأنظمتهم الاقتصادية، ولكنهم يشكلون وحدة ثقافية نقطة التقاء في المصالح الاقتصادية، لكن هناك دولة غريبة عنهم في ثقافتها وفي مصالحها وفي علاقاتها بدول العالم وتمثل مصدر غلق وتوتر وعنف، تعيش المنطقة كلها في ظلاله منذ خمسين سنة تقريبا، هذه الدولة التي هي مزيج من الدولة والحركة الإيديولوجية والمعسكر المدجج بالسلاح، وهذا ما جعلها تلجأ إلى العنف والاستخدام المفرط للقوة العسكرية مستقوية بأمرين إثنين· أولهما: حيازة وحدها دون سائر جيرانها لأسلحة دمار شامل يمكن استخدامها إذا وقعت ظروف تاريخية لم تتحقق بعد، ولكنها يمكن أن تتحقق في مستقبل قريب أو بعيد جوهر عجز الأسلحة التقليدية التي تملكها في حسم نزعاتها مع الدول العربية· الثاني: تمتعها بتأييد غير مشروط وعطاء كامل يتجاوز مداه أحيانا ما تمارسه هي من استعلاء واستقواء وتشدد وتجاوز للحدود في الإصرار على فرض شروطها في كل موقف وعند كل خلاف· ولقد أثبتت إسرائيل أنها لا تبغي سوى التوسع العنصري حين ضاعفت مستوطناتها في سنوات تنفيذ اتفاقيات أوسلو رغم اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بها، وحين رفضت مبادرة السلام العربية في قمة بيروت بإنهاء احتلالها للأراضي العربية مقابل الاعتراف الجماعي العربي بها· وبرهنت الولايات المتحدية الأمريكية بدورها أنها لا تريد سوى السيطرة على نفط العرب حين حاولت تدمير العراق بزعم تحرير الكويت ثم احتلته وأطلقت قوى تفكيكه تحت رايات إدارتها الخائبة للحرب ضد الإهاب، ثم بشعارات زائفة عن نشر الديمقراطية لم تصمد لدى الاختبار، وحين بددت فرص السلام الذي تراجع فيه العرب عن لاءاتهم التاريخية بتواطؤها مع إسرائيل على وأد مؤتمر مدريد الذي دعت إليه ثم دفن عملية أوسلو التي رعتها، وأخيرا تجاهل خريطة الطريق التي أعلنتها· أما الدعوة إلى الشرق الأوسط الجديد سواد رفعها بيريز من قبل أوددتها وزيرة الخارجية السابقة رايس من بعده، فإنها لم تكن مخرجا من المأزق الذي وقعت فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية، لأن كل الدعوات والشعارات التي رفعتها الولاية الأمريكية لم تدفع نحو التحرر والكرامة والحرية والأمن والعدل والسلام، بل ظلت تدفع نحو النقيض بالذات، وهكذا فإن عملية السلام في الشرق الأوسط ليست سوى إعادة بناء المنطقة على صورة يخضع فيها العرب بدون استثناء وبدون قيد أو شرط لإدارة التوسع العنصري الإسرائيلي المستندة إلى غطرسة القوة وبطشها وتمخض شعار نشر الديمقراطية في العالم العربي عن قبول للتغير الديمقراطي فقط إذا ما كانت نتيجة انتخاب حكومة ترضى عنها الإدارة الأمريكية وتتوافق مع رؤاها وما تعبّر عنه من مصالح وقوى كما هو عندنا في الجزائر وفي مصر وفي العراق وحتى في فلسطين المحتلة· أما فيما يتعلق بجوهر حقوق الإنسان، فإنه يكفي النظر إلى ما ترتكبه الإدارة الأمريكية وإسرائيل من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانسة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان· فإذا كان هذا في مجال الحقوق، فإن مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية قد فتحت فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية سوقها وضخت الاستثمارات والتمويل والتكنولوجيا والمعرفة إلى أوروبا الغربية وشرق آسيا لاقتلاع جذور التخلف والفقر ووأد الصراع الطبقي في حربها ضد الشيوعية يخلق نماذج تنموية ناجحة واقتصاديات صناعية متقدمة تمكنت من إبعاد الخطر الشيوعي، فهي لم تساهم في خلق نموذج تنموي صناعي متقدم لا في مصر ولا في السعودية ولا في الجزائر، بل وضعت القيود على تدفق التكنولوجيا الحديثة إلى هذه البلدان العربية المتشبثة بها متجاهلة دور الفقر والبطالة والتخلف، وما يتولد عنه من غضب، لكن كل ما سبق ذكره ليس ذريعة مقبولة لإعفاء الحكومات العربية من مسؤوليتها في استمرار احتلال أراضيها وإهدار كرامة مواطنيها واستمرار النظم الاستبدادية وتهديد الأمن القومي وتجاهل العدل الاجتماعي وإهدار فرص السلام وتكريس التخلف الشامل، وقد يجدر بنا القول نحن كجزائريين بأن استباحة وتخلف الشمال الإفريقي، أقصد المغرب العربي الكبير، كان يمكن أن يكون أقل وطأة وشدة لو أن الجزائر بحال غير الحال، فقد كانت بقدرتها ودورها ركيزة حماية منطقتنا المغربية من الاستباحة وقيادتها نحو التقدم سواء في تاريخها العرقي حين هزمت فرنسا الاستعمارية وأنقذت المنطقة من ويلاتها وحققت في البداية السبق في التنمية والتصنيع والتحديث والتقدم· ولا شك أن بناء الجزائر الصناعية المتقدمة سيكون رافعة انتشال المغرب العربي من وهدة الاختلال الراهن في موازين القوى الإقليمية والدولية، ويوجد شرطا ضروريا لإعادة بناء تحالف مغاربي توازن التدخلات الأجنبية المنفردة، لكن هذا لن يكون في الأجل القريب·