يحق لمثلي أن يقدم شهادة ولو مختصرة في الدكتور عبد الله شريط· فقد عرفته منذ منتصف الخمسينات من القرن الماضي عندما حلّ بتونس قادما من سورية وكنت وقتها ما زلت طالبا في جامع الزيتونة· كان شريط شابا في ريعان الشباب، وقد شاع بين الطلبة الجزائريين أن أستاذا متخرجا من سوريا قد أصبح من شيوخ الزيتونة، فدفعني الفضول إلى حضور درس من دروسه، ثم تخليت وواصلت برنامجي للحصول على شهادة التحصيل في نفس السنة (1954)· ولكني اتصلت بالشيخ شريط باسم جمعية البعثة الزيتونية التابعة لجمعية العلماء التي كنت مسؤولا عنها لكي يكون عضوا في لجنة التحكيم التي رشحناها لدراسة الإنتاج الأدبي الذي تقدم به بعض الطلبة الجزائريين في مسابقة القصة والمقالة· وأذكر أن موضوع المقالة هو (أملك في مستقبل بلادك)· وقد حضر جميع الأعضاء، وهم الشيوخ بشير العريبي والهادي حمو والمختار السلامي، ما عدا الشيخ شريط فإنه لم يحضر· مرت أيام تونس دون أن يكرر أحدنا لقاءه بالآخر، إلى أن تخرجت من الزيتونة وقصدت مدينة الجزائر، وبقي الشيخ شريط في تونس· مكثت في الجزائر سنة معلما، ثم قصدت القاهرة طالبا وعضوا في اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين تحت مظلة جبهة التحرير الوطني· لم أكن أعرف عمل شريط في الثورة بتونس، ولكني عرفت فيما بعد أنه كان من أسرة تحرير جريدة المجاهد (لسان حال جبهة وجيش التحرير الوطني) وأنه كان يعمل أيضا في جريدة الصباح التونسية، كما علمت أنه ألف مع غيره كتابا بعنوان (الجزائر في مرآة التاريخ)، وأنه كان يترجم من الصحف والمجلات العالمية ما يتعلق بالثورة وينشره في المجاهد حتى بلغ، بعد جمعه ونشره على يد وزارة المجاهدين، عدة مجلدات· وخلال فترة الثورة زرت تونس في مهمتين، دون أن ألتقي بالشيخ عبد الله شريط· الأولى حين زرتها ممثلا لفرع القاهرة في المؤتمر الرابع لاتحاد الطلبة الذي انعقد في ضاحية بئر الباي· والثانية عندما زرتها لترتيب شؤون سفري إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية والحصول من الحكومة المؤقتة على جواز سفر تونسي· أثناء أدائي المهمة الأولى كان عبد الرحمن شريط (أخو عبد الله) هو الكاتب العام لفرع تونس ومن ثمة كان هو الذي اختير لرئاسة المؤتمر طيلة انعقاده· أما أثناء أدائي المهمة الثانية فلم تكن هناك مناسبة لأعرف منها أحد الأخوين أو كليهما· انقطعت في أمريكا للدراسة والتدريس سبع سنوات· ثم عدت إلى الجزائر في أكتوبر 1967 والتحقت بالجامعة· فوجدت عبد الله شريط من المدرسين فيها، ولا أدري بأي مؤهل دخلها· وبحكم وظيفتي الجديدة في الجامعة وجدتني على صلة بعبد الرحمن شريط لأنه كان هو الأمين العام لوزارة التربية الوطنية· وبهذه الصفة استدعاني عبد الرحمن إلى مكتبه عدة مرات وعرض علي تولي عمادة كلية الآداب، كما عينني في وفود جلب الأساتذة للجامعة من المشرق، واحتفل بظهور الطبعة الأولى من الحركة الوطنية بعد ترجمته إلى العربية، ووعد باسم الوزير والوزارة بالإسهام في طبع الكتاب في كلمة ألقاها بمدرج كلية الآداب سنة .1969 ولا شك أن أخاه عبد الله (وهو الأكبر سنا) كان يطلعه على أخباري في الكلية· ذلك أن عبد الله شريط هو الذي كنت ألتقي به في الجامعة وكان يظهر لي صاحب شخصية هادئة رزينة، فكان إذا التقينا في اجتماع الكلية أو في بهوها يسأل عن أحوالي· ولا شك أنه عرف من غيري أين وكيف كنت أسكن (ولم أفاتحه في موضوعي لأني كنت كثير التعفف والتحمل· ولكن أساتذة آخرين مثل عبد الله ركيبي وعبد الله عثامنية لا شك قد وصفا له حالتي)· فقد استوقفني مرة في بهو الكلية وقال لي إنهم (يقصد الوزارة) مستعدون لمنحك سكنا، الخ· ويمكنك أن تذهب عند فلان لتوقيع العقد، فقلت له على الفور: شكرا، ولكني لا أطلب منهم شيئا الآن غير الاعتراف بشهادتي أولا· ثم تكرر الإلحاح، وألحت الحاجة فقيل لي اتصل بالسيد بوزيد مدير الموظفين على ما أظن، وهكذا وقعت عقدا لاستلام سكن وظيفي تابع للوزارة في مارس .1968 وهناك أمور أخرى تتعلق بعبد الرحمن شريط ليس هنا محل تفصيلها· وقد أشرت إلى بعضها في يومياتي (مسار قلم، ج 3)· رغم دراستي في الشرق وفي الغرب فقد كنت أعد نفسي من الدارسين في الشرق وكان زملائي في الدراسة ثم في الجامعة، مثل خرفي وركيبي، يقدمونني على أنني واحد منهم وأنني أمثلهم لأنهم لم يحصلوا بعد على شهادات عليا· وقد لاحظت أن عبد الله شريط كان يحاول أن يكون منا ولكنه لا يستطيع، فعندما تتحدد المواقف نجد شريط يحاول أن يقف بين المعربين والفرنكفونيين· والقضية وما فيها هي أن الموقف من التعريب كان هو الفيصل· كان شريط مترددا بين الإيديولوجية والسياسة· ومن الأساتذة الفرنسيين من كان متحكما في مفاصل إدارة الجامعة باسم التعاون· وقد لاحظت أن عبد الله شريط كان متوازنا في آرائه فلا يريد أن يستعمل نفوذ أخيه في الوزارة لفرض اتجاه معين، كما أن الجزائريين الذين كانوا يقفون على الضفة الأخرى يحترمونه ظاهريا لاعتدال مواقفه من جهة ولصلته بأخيه في الوزارة من جهة أخرى، أي يسلكون معه أسلوب النفاق· يضاف إلى ذلك أن الشائع عن شريط أنه كان مستشارا للرئيس بومدين كما كان على صلة متينة بالحزب· اشتركت مع عبد الله شريط في عدة أنشطة أكثر من عشرين سنة· من ذلك أننا كنا عضوين في لجنة إصلاح التعليم الوطنية أوائل السبعينات· كما اشتركنا في مؤتمر كتاب وأدباء المغرب العربي الذي انعقد في طرابلس - ليبيا في مارس .1969 وحضرنا ندوات دعت إليها السلطة في عهد بومدين كالاجتماع الذي انعقد في فيلا بوقرة قرب قصر الشعب بدعوة من محي الدين عميمور الذي كان يعمل في الرئاسة· وكان شريط يتدخل في هذه الأنشطة ولكنه لا يتحمس لرأيه، ربما لغلبة العقلنة على تفكيره كفيلسوف أو أستاذ للفلسفة· ومما أذكره عنه أنه كلما التقينا وتناقشنا في قضايا الكلية وإصلاح التعليم يسألني مستوضحا عن المناهج الجديدة في أمريكا· لقد كان يعد أطروحة الدكتوراه بطريقة فردية تقريبا، وكان يريد أن يعرف ليستفيد من التجربة الأمريكية في ميدان البحث العلمي· وقد علمت أن بعض أسرته كان يدرس في أمريكا· كان موضوع أطروحته هو (الأخلاق عند ابن خلدون)، وكنت أعرف أن شريط ومزيان كانا يبحثان عن مشرف مؤهل في الفلسفة، فسعى بعضهم لجلب الأستاذ عبد العزيز الحبابي المغربي، وهكذا كان الحال، فكان الحبابي هو الغطاء العلمي للرجلين اللذين تمت مناقشتهما على هذا الأساس· وقد استفاد شريط من بعض الأساتذة السوريين المعارين للجامعة والذين لهم علاقة بالفلسفة مثل أسعد الدرقاوي وبديع الكسم، ولكن لم يشرف عليه أي منهما، حسب علمي· وعندما أنهى شريط أطروحته وأصبحت جاهزة لقراءة الخبراء تعينت لها لجنة المناقشة التي كان من أعضائها الأستاذ عادل العوا السوري· وليلة سفري في مهمة إلى سورية جاءني شريط إلى المنزل وطلب مني حمل رسالته الضخمة لعادل العوا بدل إرسالها له بالبريد أو بطرق أخرى، فلم يسعني إلا القبول نظرا لخدماته السابقة لي وللاحترام الذي أكنّه له، كما فعلت ذلك خدمة للجامعة· رغم نقد الأستاذ شريط للسلطة أحيانا فلسفيا فإنه لا يتواني عن دعمها سياسيا· فأثناء تجنيد السلطة لفئة المثقفين للوقوف معها في مسألة الصحراء الغربية وقف شريط مساندا ورادا على المخالفين أو المترددين· وأسهم في الرد على من اعتقد أنهم أساؤوا للمنظومة التربوية، وكذلك فعل في مسألة فلسطين والقضايا العربية الأخرى حيث يقف شريط إلى جانب مواقف السلطة وفي مختلف إداراتها· فهو يلبس عباءة الوطني الغيور الذي عناه محمد العيد حين خاطب المترددين بين الاندماج والانفصال عن فرنسا بقوله: قف حيث شعبك مهما كان موقفه··· كما عارض دعاة البربرية والتزم الخط الرسمي حولها، ولم يكن قوميا ولا بعثيا ولكنه كان وطنيا ملتزما بوحدة الوطن وثوابته· وتعكس مؤلفات وأحاديث الأستاذ شريط نمط تفكيره، فقد كان مداوما على حصة إذاعية وحصة تلفزيونية وحده تارة ومع عبد المجيد مزيان تارة أخرى· وكانا يتناولان قضايا مطاطة يثيرها ويديرها الصحفي المخضرم عثمان شبوب، وكانا يكرران آراءهما حتى ظهر الملل على بعض المستمعين والمشاهدين وأصبح بعض الناس يتندرون بالعبارة التي يقولها شبوب لشريط وهي: ما رأيك سي عبد الله؟ كان شريط يكتب في جريدة المجاهد الأسبوعية - جريدة الحزب - مقالة أسبوعية لا تكاد تخرج عن الموضوعات التي تناولها في أطروحته وأحاديثه مع مزيان أو استلهاما من مسيرة الحياة اليومية للنظام وبرنامج التنمية· كما تناول شريط في مؤلفاته قضايا فلسفية اجتماعية من زاوية إعلامية، فهو ليس فيلسوفا بالمعنى النقدي ولكنه عالم أخلاق واجتماع· كان بعيدا عن خط مالك بن نبي وخطوط بعض الفلاسفة القدماء والمحدثين، مسلمين وأجانب· وإذا تأملنا خط سيره الفكري فإننا نجده ملاحظا واصفا أكثر منه مؤسسا لنظرية أو مفكرا عميق الجذور رائدا لجيل من الباحثين في مجال التربية السياسية وبناء الشخصية الإنسانية· لقد ملأ عبد الله شريط عصره بالكتابة في الصحافة والتدريس بالجامعة والحديث في الإعلام المسموع والمرئي والمشاركة في أكثر من مجال اجتماعي وثقافي· وهكذا ترك بصماته على مرحلة طويلة من تاريخ الجزائر· وسيذكر الناس شخصيته الهادئة الرصينة ونقاشه الصريح والجريء مع أصدقائه وحتى مع الذين لا يتفقون معه في المشرب· كما سيذكرون تواضعه الكبير وتقبله للنقد والرأي الآخر·