الثقافة الشعبية باعتبارها الأكثر تفاعلا مع الواقع والأكثر تأثرا به وتأثيرا فيه تظل رغم ما تمتلكه من هذه الأهمية والتفاعلية مغيبة عن النقاشات المثقفين النخبوية التي تحصر نفسها في دائرة ضيقة، فكما يقول روجيس دوبري : إن المثقفين هم أصحاب مشاريع ومصالح، وهم أشخاص لا يجيدون سوى ممارسة نخبويتهم بشكل مقيت اتجاه الفئات الأخرى التي يجتهدون في إبعادها عن فئتهم النخبوية· الثقافة الشعبية باعتبارها ثقافة منفعة بالدرجة الأولى لا تعترف بهذه النخبوية وهي تمارس فعل مقاومة مضاد بتجاهل الثقافة العالمة / المكتوبة أو النخبوية، لهذا نجد الشرخ الذي يمكن ملاحظته بسهولة ويسر بين المكتوب والشفهي وهو شرخ في اتساع برغم توسع الفئة المتعلمة وبالرغم من اكتساح فئات واسعة من الشعب لمجال القراءة وتفاعلها بشكل ما مع ما هو مكتوب ولكن ثقافتها الشعبية الشفهية تظل هي الأكثر تحكما في سلوكها وتصرفاتها، وحتى بعض المثقفين المترفعين من خلال كتاباتهم على العامة من الناس يكونون مثقفين بشكل جاد وأكاديمي عميق وهم يكتبون ولكن بمجرد انتقالهم لمجال الممارسة الاجتماعية نجد أن سلوكياتهم وردات فعلهم اتجاه التحديات اليومية لا تختلف في شيء عن العوام· إن مشكلة مثقفينا أنهم مثقفون لفظيا أكثر مما هم مثقفون فكريا، بمعنى أن استهلاكهم لكم معتبر من الثقافة المكتوبة لم يحل دون بقائهم في فئة المتلقين فهم عاجزين عن الإضافة العميقة لكم الأفكار التي استهلكوها في مراحل مختلفة من حياتهم التعليمية والتثقيفية ( بالمعنى النخبوي لكلمة ثقافة) إنما يكتفون فقط بترديد ما اكتسبوه من خلال قراءتهم، وشرحه في أحسن الأحوال· وربما هذه نقطة أخرى مهمة من النقاط التي تحدد أزمة المثقف العربي الراهن أي عجزه عن توليد أفكار أصيلة تعبر عن جوهر المجتمع الذي ينتمي إليه، وهم يظلون أسرى لكل ما هو مكتوب وأسرى من جهة ثانية لمراكز صناعة المعرفة سواء كان هذا المركز هو الغرب الذي يتهمونه بالغزو الثقافي، أو التراث العربي الذي أنتج في القرون الأولى للإسلام ثقافة خصبة وحيوية وقابلة للاقتداء صارت تمثل الآن تراثا نعود إليه بغية تمثله أو البناء عليه، ولكن أصابه التكلس فلم يعد الكثير منه صالحا ليعاد تمثله في وقتنا الراهن وخصوصا عندما تكون عملية التمثّل هذه غير مبنية على وعي عميق بتاريخانية الأفكار، والقيم التي تشكل مجمل هذا التراث، إنما مجرد محاولة لإعادة استنساخه بشكل عصري، دون الانتباه لما لحقه من تغيرات عميقة طيلة رحلته الطويلة من لحظة النشأة الموغلة في القدم، إلى لحظة التمثل المحايثة لنا· وهذا العجز عن توليد أفكار أصيلة تعبر عن جوهر وعمق المجتمع العربي، يمثل نقطة فشل رهيب بالنسبة للمكتوب والثقافة النخبوية التي ترفدها الكتابة وتمنحها قدرة على الاستمرارية والتراكم؛ في مقابل الشفهي وثقافته العامية أو الشعبية، التي تتميز بحيوية اكبر وقدرة مبهرة على التغيّر والتعبير عن تلك التحولات العميقة التي تمس المجتمع والفرد عن طريق الملفوظ وعن طريق نحت وتوليد مصطلحات جديدة، وطرائق تعبير أكثر فاعلية، لأنها في النهاية استجابة لحاجة، أي أنها نفعية بعبارة أخرى·