أتذكر عندما دعيت للمشاركة في أعمال الندوة الفلسفية الثانية عشر بالقاهرة عام ,2000 والتي كان موضوعها الفلسفة في الوطن العربي في مائة عام - قد أصدر مركز دراسات الوحدة العربية أعمال الندوة عام 2002 - شاركت ببحث عنوانه التاريخ والاختلاف عند محمد أركون، المخيال ضد العقل، كنت أود من خلاله تقديم مفكر ظل مغيبا في الجامعات العربية وفي أقسام الفلسفة بالخصوص، رغم عمق الأسئلة التي كانت تزخر بها أطروحاته وصيوتها··، وقد حدث في هذه المناسبة عندما أنهيت إلقاء بحثي، أن انتفض الدكتور حسن حنفي أثناء تعقيبه على ما جاء في مداخلتي قوله أن محمد أركون لا ينتمي إلى الفضاء العربي الإسلامي، وأنه إبن الحي اللاتيني ويفكر منه، وكانت تلك طامة أخرى عن هذا التهميش -المفكر فيه- الذي طال أركون حتى من طرف الكثير من المشتغلين بالفلسفة، رغم أن ورشة الأسئلة التي افتتحها كانت تصب في اتجاه التفكير من الفكاك من التخلف والتأخر التاريخيين الذي يعيشه العالم العربي والإسلامي··· وما العيب أن يستفيد أركون من المنهجيات الكثيرة التي ظهرت في الدراسات الإنسانية والاجتماعية، والتي استطاع من خلالها أن يقارب وبشكل مختلف وعميق لإشكالية التراث والتاريخ، كانت لديه رغبة جامحة في الانفلات من تلك الوثوقية والأرثوذكسية التي كرسها الكثير من المثقفين التقليديين، لأنهم في نظره لم يستفيدوا مما كان يستجد داخل مجتمع من تحولات مختلفة، وتلك هي حالة حسن حنفي وغيره··· إن استراتيجية التفكيك التي تبناها محمد أركون من خلال مشروعه الكبير الموسوم بنقد العقل الإسلامي يعتبر مساهمة نظرية جادة في دراسة الفكر الإسلامي من خلال تاريخه، من أجل ابتكار أفق جديد في باب دراسة الفكر الإسلامي هذا الأفق أطلق عليه محمد أركون بالإسلاميات التطبيقية: تشكل مساهمة عامة لإنجاز أنثروبولوجيا دينية وابستمولوجيا تاريخية، وبالتالي هي مساهمة لإنجاز منهجية تتطلب تعددا وتظافرا في التخصصات، لعل من أهم نتائجها هو نقده للاستشراق أو كما يحلو له أن يسميه بالإسلاميات الكلاسيكية، لأن خطابها أو خطاب الاستشراق لم يكن في نظره ينتج إلا الصور نفسها والبنى نفسها للأحداث التاريخية، لأنه كان ذا نظرة أحادية همها الوحيد هو التمجيد لا الفحص والنقد·· كان هدف محمد أركون من مشروعه هو إقامة نقد اقتصاد سياسي للحقيقة في علاقتها بنا وبالتاريخ وبجميع التشكيلات الخطابية وغير الخطابية التي عرفتها الثقافة العربية - الإسلامية، ومن بين دروسه المنهجية المهمة نقطتان أساسيتان هما: أولا: إعادة تحديده لمفهوم العقل الإسلامي وثانيا: انفتاحه على دراسة الخيال والمخيال· لا يقصد أركون بالعقل المفهوم الجاري عند فلاسفة الإسلام والمسيحية الموروث عن الأفلاطونية المحدثة والأرسطية·· بل يقصد به القوة المتطورة والمتغيرة بتغير البيئات الثقافية والإيديولوجية المؤرخ الوضعي والتاريخاني الوفي للمنهجيات الكلاسيكية التي تطيح بالخيال ومشتقاته في دائرة اللامعقول، والتقليل من قيمته وأهميته الأنطولوجية في التكوين النفسي والديني والاجتماعي والثقافي والسياسي للأفراد والمجتمعات، خصوصا مجتمعاتنا العربية الإسلامية، ذلك أن الغرب اليوم قد وعى جيدا أن المخيال العربي الإسلامي بجميع تفرعاته يشكل وضعا مركزيا بالنسبة للإنسان المسلم والعربي، لذا يعمد اليوم إلى محاولة تسييره لصالحه··· لم تكن البداية التي أسس منها أركون مشروعه وأسئلته اعتباطية، كانت من القرن الرابع الهجري الذي ازدهرت فيه العقلانية وأخلاق الحوار والنقاش والتواصل من خلال الدراسة العميقة التي قدمها أركون لتشكيلاته الخطابية التي أنتجت آنذاك من طرف جيل من الفلاسفة على رأسهم التوحيدي ومسكويه وابن عدى··· وتأسيسهم لإنسية نفتقدها اليوم·