كنت أفضل أن أُعَنْوِنَ كلمتي هذه ''وداعا لأستاذنا المفكر محمد أركون''، ولكن ما تركه فينا من أفكار وما تركه لنا من مؤلفات تزخر بها المكتبة الفكرية اليوم، يتنافى وكلمة الوداع، لأن أركون سيبقى بيننا حيّا ما دمنا نؤمن دوما بالفكر الحر المتنور، بالفكر الحر العربي الإسلامي المتأصل· صحيح أنه سيوارى التراب اليوم ولكنه سيبقى ينبوعا من منابع الثقافة والفكر· إن العودة اليوم لفكر محمد أركون ليست عودة نعي ما دمنا نؤمن منذ البدء بالموت والحياة ولكنها عودة لكلمة حقّ في فكر هذه القامة من قامات الفكر والثقافة التي للعرب عموما وللجزائر خصوصا الحق في أن تفتخر بها. يحتل فكر محمد أركون داخل الثقافة العربية المعاصرة خاصية لا بد من التنويه بها هنا والتي بدأ الحفر فيها منذ مؤلفه حول نزعة الأنسنة في الفكر العربي جيل مسكويه والتوحيدي، هذا الكتاب الذي هو في الأصل أطروحة دكتوراه نُوقشت في بداية الستينيات من القرن الماضي تزامن مع مجموعة كبيرة من أطروحات ولعل من أبرزها أطروحة الأستاذ ناصيف نصار وأطروحة على أومليل وحتى أطروحة الأستاذ الشيخ بوعمران· وتميز أركون على هذه المجموعة كلها هو أنه انتبه منذ البدء إلى أهم إشكالية فلسفية داخل الفكر العربي ونعنى بها الاشتغال على الذات لكي يتمكن من أن يضع الفكر العربي داخل المسار العام للفلسفة المعاصرة ونعنى بذلك تنامي الفكر البنيوي على أنقاض مجموعة من المذاهب الفلسفية من بينها الوجودية· وما اختيار أركون لموضوع جديد ونعني به التطبيقات الإسلامية من خلال تعدّد المناهج وإن كان يحصرها في الانثريولوجية واللسانيات والفيلولجيا سوى للحفر داخل بني الفكر العربي والإسلامي لأجل استنطاق المسكوت عنه أو ما يعرف عادة بالهامش· صحيح جدا بأنه كان من السهل عليه أن يختار الاشتغال على نصوص معروفة لفلاسفة معروفين ولكنه أراد من خلال هذين النموذجين تبيان ثراء الفكر العربي الوسيط بل قوته وتنوعه. إن انتباه أركون لثقافة الهامش هو الذي سمح بعد ذلك لجيل كبير من المثقفين العرب بعد شيوع فلسفة ميشال فوكو في المجازفة بمقارنته بمحمد أركون، وإن كان هذا الأمر سليم لحدود بعيدة ولكن طريق أركون لم يشبه المسلك الذي اختاره فوكو وأذكر هنا على سبيل المثال لا المقارنة، لأن ذلك يحتاج إلى ورقة مستقلة ليست هذه مناسبتها، أن الأبستمي الذي جعل منه أركون منطلقا ليس هو نفسه لدى فوكو· ثانيا أن اختيار فوكو لمصطلحي الجينولوجيا والأركولوجيا لم يكن هو اختيار أركون، ثم أن انتباه فوكو لمنهجية الحفر كانت بدايتها إمانويل كانط الذي ترجم له فوكو كتابه ''الأنثريولوجية من منظور براغماتي'' كأطروحة تكميلية، بينما أركون كان هدفه هو نزع الغبار على النصوص المجاورة للنص الفلسفي ليجعل منها نصوصا فلسفية ونعنى بذلك الآداب باعتبارها الوعاء الثاني والفكري للأمة العربية· لذلك جعل أركون من هذه التجربة فريدة من نوعها· نقطة أخرى مهمة في فكر أركون تستحق التنويه في هذه الورقة ونعنى بها الاشتغال على مفهوم العقل الإسلامي على خلاف الأستاذ محمد عابد الجابري - رحمه الله - الذي اختار العقل العربي· النسبة هنا لا تهم بينما الذي يهمنا هنا هو انتباه أركون لروافد أثّرت في تكوين الفكر العربي خارجة عن دائرة اللغة، وهذا ما يجعلنا اليوم نفكر مع أركون في بعض التحالفات الجيو استراتيجية إذا ما أردنا أن نبحث داخل بل في عمق الثقافة العربية لا فيما يظهر لنا يوميا أو فيما هو عابر. نعود للمفكر محمد أركون اليوم وأنا أتذكر موقف بعض الأصوليين منه، ممن لم يفهموا غايته وأهدافه الفكرية وصدق نواياه· أقول هذا لأن الأمر حزّ في نفسي وأنا أقرأ منذ مدة مذكرات الأستاذ الفاضل الداعية الشيخ القرضاوي والمنشورة بإحدى الجرائد الوطنية كيف نعت الأستاذ أركون بصفات لا تليق به ويومها تحسرت كثيرا لمثل ذلك الكلام، بل تحسرت وأنا أتتبع البارحة حصّة تلفزيونية على إحدى القنوات العربية يستعرض فيها الأستاذ الغنوشي المحاور والأفكار الكبرى لكتاب الشيخ القرضاوي حول الوسطية والديمقراطية وحينها فكّرت في نفسي ما الجديد الذي أتى به أستاذنا مقابل ما طرحه مفكرنا محمد أركون منذ سنين ولم يقبل منه؟ نعود للمفكر محمد أركون اليوم وأنا أتذكر ما بذله في السنوات الأخيرة من تبيان للصورة السليمة للإسلام سواء من خلال نشاطاته العلمية أو من خلال ما نشره ولعلّ موسوعته حول الإسلام والتي أشرك فيها مجموعة كبيرة من الباحثين ساهمت كثيرا في توضيح تلك الصورة المشرقة للدين الإسلامي في صفائه، لذلك نفقد اليوم أركون ونحن ما زلنا بحاجة ماسة إليه ليفكر معنا في أمهات القضايا العالقة اليوم لدينا فقط وإنما في الضفة الأخرى من العالم ومن أهمها الممارسات الدينية والاستعمالات العمومية للفضاء. إن النقاش الدائر اليوم فلسفيا بين الألمان والأمريكيين من جهة وبين الأوربيين والأمريكيين من جهة ثانية حول الدنيوي والملائكي، حول السياسي والدنيوي، والذي لم ندخل رحاه بعد سنفتقد فيه لواحد من قمم فكرنا العربي كنا لو كان ما كان نتمنى أن يبقى معنا معينا نعود إليه نشاركه ويشاركنا أسئلة الراهن برؤى المستقبل ولكن عزاؤنا الوحيد اليوم هو ما قاله أبو تمام: كان الذي خِفْتُ أن يكون.. إنا إلى الله راجعون