غادرت المسرح على الساعة الواحدة والنصف صباحا، شوارع سيدي بلعباس فارغة، وهذا الفراغ كم ظل يثير فيّ خواطر ومشاعر وصور غريبة تعود إلى ساعة الرجل الأخير على الأرض كلما كنت أعود إلى مسقط الرأس في الأيام الخوالي على متن سيارة كلانديستان، حيث لا أرى سوى الكلاب الضالة وبقايا سكارى شبه مطروحين على الأرصفة الصامتة والساكنة·· وحدي أمام الأعمدة الكهربائية ذات المصابيح الشاحبة والعمارات المتوحدة، في صلب هذا الصمت الذي تداعبه نسائم السحر··· عدت إلى فومبيطا التي فقدت كل ملامحها العتيقة، ودخلت ملء أقدامها منطقة الحداثة المشوشة والرنانة·· أين بار مادام بيبو ذات الأنف الطويل المعقوف والشعر الأصفر الصارخ، والقامة القزمية المرعبة؟! أين صخب الأطفال شبه الحفاة وشبه العراة وهم يغطسون كأسماك الجن في السواقي التي تخترق حقول قدامى المعمرين الإسبان والمالطيين، أين أولئك النسوة المتلحفات بالبياض وهن يجررن أرجلهن المحنأة قاصدات قباب وأضرحة الأولياء المجهولين والمغمورين من مثل سيدي معاشو وسيدي لخضر الصغير وسيدي بوتليليس؟! أين هم، أصحاب الحوانيت الأسطوريين الذين كانوا يقفون خلف كونتوارات حوانيتهم الخشبية، أو يجلسون على بنوك صغيرة على أرصفة حوانيتهم وهم يلاحقون بأعينهم المتلصصة النساء الجميلات وهن يتهادين كالحمائم في مشيتهن النزقة والمثيرة لأعمق الأحاسيس المليئة بالشهوات الدفينة والمجنونة·· أين تلك العصابات التي كانت تخرج من كهوفها في قلب الليل لتثير في النفس الرعب وفيضا من الأساطير، أساطير الفتوة والخارجين على القانون؟!! زمن ولّى اختفى كأنه لم يكن·· تسربت تلك الأزمنة في مغاور الذاكرات التي لم يعد اليوم يلتفت إليها أحد·· دخلت بصمت وسكون وتخف إلى المناطق التي احتضنتها الدياجير رويدا رويدا·· أعود علّني أجد ضمن ما تبقى من الشهود بعض أصداء زمن راح يقاوم ظلاله التي راحت تبتلع فيه كل ما كان يدل على حياته ووجوده·· توقفت أمام منزل والدي·· دائما الصمت والشجر الساكن والأضواء الشاحبة، صعدت إلى الحجرة، واستلقيت على السرير المغطى من طرف هذا إلى ذاك بلحاف أبيض موشى بخطوط ودوائر ومربعات زرقاء خافتة، وأشكال دافئة الصمت مثل هذا المساء الخريفي العاري·· تبدو الأضواء الزرقاء المكللة بالبياض زاهية رغم أنشودة الصمت ومورقة بكل تلك الحيوية الفياضة الناطقة المتسربة من وراء زجاج الشباك نصف المفتوح، والدتي نائمة، ووالدي أيضا، لم أجد الشهية المفتوحة بالرغم أن والدتي مهدية تركت لي العشاء داخل المطبخ في الكوشة·· وبالرغم أن رائحة اللحم المشوي كانت تريد دون جدوى أن تفرض نفسها عليّ، إلا أنني كنت مسكونا بكل تلك الأصداء التي خلفتها فيّ محاوراتي مع حسن عسوس في مكتبه بالطابق الأول من مبنى المسرح الجهوي، هذا الصمت المكتنز والممتلىء والمتنامي يسرقني من كل الأشياء المحسوسة حولي ويجردني من كل تلك الأثقال المشبعة بالرنين الهادر، وبالرطوبة الكثيفة والغاملة التي كثيرا ما تستهويني بقسوة سرية وتستولي على كل كياني بشكل مستبد وطاغ في نهاية مساءات العاصمة·· حقيبتي الغاصة بالأوراق والمكدسة بالكتب ملقاة كاليتيمة قرب السرير، على طرف السرير كتب قديمة، تركتها لوقت طويل على رفوف المكتبة التي خلفتها ورائي في منزل عائلتي، من بينها ''رسالة الغفران'' و''المضلع المرصع بالنجوم''·· أبو العلاء المعري وكاتب ياسين·· واحد في العصر العباسي وواحد في عصر الدولة الوطنية الاستقلالية·· واحد فقد البصر وزهد في الناس والحياة، والآخر لم يفقد البصر وزهد في الثروة والسؤدد·· واحد لم تغره أنوار المجد بالرغم أنه ركض باتجاهه في شبابه، وواحد عندما وصل إلى مجد الكتابة اختار أن يقدس الناس المنسيين والمغمورين·· واحد حاصرته الزبانية واتهمته بالزندقة، والآخر واجه نفس المصير وألبس ثوب الزندقة الجديدة من قبل الأئمة والمؤمنين الجدد·· اكتشفت مرة في مكتبة ياسين ''رسالة الغفران'' مترجمة عن العربية إلى الفرنسية، وسألت ياسين، ''هل تعرف المعري'' قال ''إنه شاعر من طراز جديد··'' لم يقرأه ياسين بالعربية، بل قرأه مترجما، مثلما قرأ محمود درويش مترجما··؟! قال لي، بأن والده كان مولعا بأبي العلاء المعري، قرأه باللغة الأصل·· لكن ياسين لم يعد يجيد العربية الفصحى التي كان يصفها بالكلاسيكية والأدبية! لكن جهل ياسين للفصحى كان يثير فيّ تساؤلات عدة، فهو يقول في ''المضلع المرصع بالنجوم'' أنه كان يتردد على الجامع، وأولى ما قرأ كانت الفصحى، كانت النقش الأول على ذاكرة الطفل ياسين·· لم تكن نقشا كليغرافيا وحسب، بل كانت وجدانا، موسيقى داخلية ودلالة تسكن القلب قبل العقل، والروح قبل الجسد، واللاوعي قبل الوعي·· كيف تصير محوا؟! كيف تنسى؟!! كان ياسين يتهرب من السؤال قبل الجواب وكان يلف ذلك بالصمت المكثف والملغز·· اختار أبو العلاء المعري أن يكون حبيس منزله، وكانت الناس والمحبون يترددون عليه، في آخر أيامه الطويلة، والأمر نفسه كان بالنسبة لياسين·· فلقد أحط بابن عكنون، في ذلك المنزل الصغير وسط الغابة، وأصبح رهين البيت، وكان المحبون والعاشقون والذين أرادوا أن يجعلوا منه، مزارا لا يكفون عن التوافد عليه·· كلاهما كان مسكونا بالشعر أولا وأخيرا، وكلاهما كانت تملؤه قوة التحريض·· كانت السعادة عند الرجلين تكمن قوتها في قوة وسحر الكلمات وفي سطوة المعنى المؤسس للحرية، حرية القول وحرية الفعل·· وكان الانسان الأعلى الانسان المتجاوز لكل حدود الإقليم والحرف واللون والعقيدة هو الروح الساكن في أعماق الشاعرين،، كان الانسان الأعلى المتجاوز لكل الحدود، هو الدينامو المحرك لمؤسسة الكتابة عند أبي العلاء المعري وعند كاتب ياسين·· ألهذا، ظل كلاهما يقف متحديا كل تلك الأسوار التي أرادت أن تفرضها على عشاق النور، نور القلب ونور العقل سلاطين الدياجير؟!!