وأعظم من ذلك إضاعتها في معصية الله وذلك هو الخسران المبين، فطاعة العبد لربه وذكره له بمنزلة حياته التي لا غنى له عنها ومنزلة الماء عند شدة العطش وبمنزلة اللباس في الحر والبرد وبمنزلة السكن في شدة الشتاء والسموم، فحقيق بالعبد أن ينزل طاعة الله وذكره في جميع أوقاته من نفسه بهذه المنزلة وأين هلاك الروح والقلب وفسادهما من هلاك البدن وفساده فهلاك البدن لا بد منه وقد يعقبه صلاح الأبد، وأما هلاك القلب والروح فهلاك لا يرجى معه صلاح ولا فلاح ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقد قيل: ''الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك''· وإذا كانت أوقات الغفلة عن طاعة الله وذكره تكون على العبد حسرات يوم القيامة فكيف بضياع الأوقات في معصية الله؟ وفي الحديث: ''نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ'' ومعنى ذلك أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين وكل من لا يقوم بشكر ما أنعم الله به عليه فهو مغبون· ومن أعظم نعم الله على عباده؛ نعمة الإسلام وصحة الأبدان والأمن والاستقرار في الأوطان حيث يأمن الإنسان فيه على نفسه وأهله وماله بفضل الله تعالى ثم بفضل تطبيق ومراعات الحدود الشرعية التي هي السبب في حماية وصيانة الأنفس والعقول والدين والأنساب والأموال والأعراض· فعلى المسلم أن يتقي الله في نفسه وأن يحفظ أوقاته فيما ينفعه ويسعده وأن لا يخلي وقتًا معطلاً من عمل ينفعه أو خير يطلبه وأن يحاسب نفسه ليلاً ونهارًا وصباحًا ومساءً في قوله وعمله وفعله وتركه وكلامه وسمعه وبصره وبطشه ومشيه حتى يربح أوقاته ويسلم له دينه ويزكو إيمانه ويقينه ويفوز بسعادة الدنيا والآخرة وتتم له الأعمال الظاهرة والباطنة قال الشاعر: والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع يجب على المسلم أن ينتهز فرص الحياة والشباب والصحة والفراغ بالعمل الصالح ما دام قويًا قادرا صحيح البدن والسمع والبصر قبل أن تضعف قوته وتذهب مقدرته ويمرض جسمه ويكل سمعه وبصره وتذهب أوقاته فيندم حين لا ينفعه الندم ويتأسف على تفريطه وإضاعته وإهماله فيقول: ''يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي'' (الفجر: 24) ويقول كذلك ''يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ'' (الزمر: 56). وفي الحديث: ''اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وحياتك قبل موتك وفراغك قبل شغلك وغناك قبل فقرك''· وفي الحديث أيضًا: ''لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه''، فعلى المسلم الناصح لنفسه أن يتقي الله ربه وأن يعد للسؤال جوابًا صحيحًا وبالله التوفيق· وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم· انتهى ------------------------------------------------------------------------ لمن كان له قلب أسباب قسوة القلب وقد قال نبي الله إبراهيم عليه السلام لقومه: ''إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين''، فالصحبة الفاسدة قد تكون سببا في قبول الشرك وعبادة الأوثان والأهواء رغبة في موافقة الأصحاب، والعجيب أن هؤلاء الأصحاب سيتبرؤون من بعض ويلعنون بعضا ويتمنى كل واحد منهم أن ينال صاحبه النصيب الأكبر من العذاب· فإذا كان أصحاب السوء سيتبرؤون من أصحابهم يوم القيامة فحري بالعاقل أن يتبرأ منهم اليوم قبل أن يتبرؤوا منه غدا· والعكس صحيح فالصحبة الصالحة تنفعك في الدنيا والآخرة فالصاحب الصالح ناصح ومحب لك ويؤثرك على نفسه ولا يتبرأ منك لا في الدنيا ولا غدا يوم القيامة· إذا حققت من خِل ودادا *** فزره ولا تخف منه ملالا وكن كالشمس تطلع كل يوم *** ولا تكن في زيارته هلالا رابعا: الغفلة عن الموت وأمور الآخرة: إن الموت وإن كان مصيبة إلا أن الغفلة عن تذكره مصيبة أعظم، لأن نسيان الموت يصيب القلب بالغفلة والقسوة، ومن أجل هذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة بالإكثار من ذكر الموت فقال: ''أكثروا من ذكر هادم اللذات: الموت ''ولأن تذكر الموت يجعل القلب في حالة يقظة دائمة فقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم يكثرون من ذكر الموت، فهذا الربيع بن خثيم رحمه الله كان قد حفر في داره قبرا ينام فيه كل يوم مرات، يستديم بذلك ذكر الموت، وكان رحمه الله يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد· ولما نظر ابن مطيع رحمه الله إلى داره فأعجبه حسنها قال: والله لولا الموت لكنت بك مسرورا، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرت بالدنيا أعيننا· ولما قال عمر بن عبد العزيز لبعض العلماء: عظني؟ قال له: لست أول خليفة تموت· قال· زدني، قال: ليس من آبائك أحد إلى آدم إلا ذاق الموت وقد جاءت نوبتك، فبكى عمر رحمه· ولأجل هذا المعنى حث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على زيارة القبور لأنها تذكر العبد بالآخرة، ولكننا لا نريدها زيارة كزياراتنا لها الآن؟· إنما نريدها زيارة تفكر وتدبر، وعظة واعتبار، فإذا وقف العبد على القبر تذكر حال أصحابه في الدنيا كيف كان الواحد منهم وسيما جميلا، ثم هو الآن قد علاه التراب فملأ عينيه ومحا حسن صورته، قد تبددت أجزاؤه وصار غذاء للدود، ثم يتفكر في حال من خلف كيف ترملت النساء وتيتم الأطفال وفرقت الأموال، وكيف أن صاحب القبر قد خلت منه المساجد والدور والأسواق، ثم يتفكر في نفسه كيف أنه صائر إلى هذا القبر لا محالة، فيا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، فيا ترى بأي الخدين سيبدأ البلى ؟ وأي العينين ستسيل أولا؟ صدق والله الحسن البصري رحمه الله إذ قال : فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحا · ثم يتفكر العبد فيما بعد القبر من حشر ونشر، وصراط وحساب، وموقف وتوزيع للكتب والصحائف، والجزاء إما إلى جنة وإما إلى نار؟ ويسأل أي الدارين منزلى؟···· إن استحضار العبد هذه المعاني يجعله دائما متيقظا مشمرا، وأما غفلته عنها فإنها تصيب القلب في مقتل · خامسا: الغفلة عن ذكر الله: إنه لا حياة للقلب على الحقيقة بغير ذكر الله تعالى ولهذا قال نبينا عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: ''مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت''· إن القلوب تصدأ ويعلوها الران وذكر الله هو الجلاء لهذه القلوب، وإن القلب ليصيبه الهم والقلق ولا سكينة له بغير ذكر الله تعالى: ''الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب'' وإن العبد الغافل عن الذكر قد جعل من نفسه مرتعا لوساوس الشياطين، قال تبارك وتعالى: ''ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين''· فهل تتوقع أن يرق قلب ذلك العبد الذي استحوذ الشيطان عليه ؟؟؟ إن إبليس اللعين متربص ببني آدم يريد إضلالهم وإغوائهم، وكلما كان العبد بعيدا عن ذكرالله غافلا عنه تمكن الشيطان منه فأضله وأغواه وقاده إلى ما فيه هلاكه · جاء في الأثر ''أن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا غفل وسوس، وإذا ذكر الله خنس'' أي تأخر وأقصر· وقال ابن عباس رضي الله عنه: إذا ذكر اللهَ العبدُ خنس الشيطان من قلبه فذهب، وإذا غفل ألتقم قلبه فحدثه ومناه· وختاما نقول: أن الذكر يزيل قسوة القلب وأن الغفلة تجعل القلوب قاسية والله عز وجل يقول: ''فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين''. نسأل الله بمنه أن يرزقنا كثرة ذكره، ويجعل قلوبنا سليمة، ويبعد عنا قسوة القلب· آمين ------------------------------------------------------------------------ قرآننا شفاؤنا ''لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين'' (الآية 286 من سورة البقرة)· الله قريب مجيب اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا؛ ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم؛ اللهم إني أسألك الثبات في الأمر؛ والعزيمة على الرشد؛ وأسألك شكر نعمتك ؛ وحسن عبادتك؛ وأسألك قلبا سليما؛ ولسانا صادقا؛ وأسألك من خير ما تعلم؛ وأعوذ بك من شر ما تعلم؛ وأستغفرك لما تعلم ) آمين يا قريب ويا مجيب· السنة منهاجنا قال حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم: ''تسحروا فإن السحور بركة''، وقال: ''عليكم بهذا السحور فإنه الغذاء المبارك''، وقال: ''لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور''، وقال: ''السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة ماء؛ فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين'' الرواة: الشيخان و النسائي وأحمد· ------------------------------------------------------------------------ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب هود عليه السلام ''هود عليه السلام'' وقد أرسله الله إلى عاد· قال الله تعالى: ''كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ'' (الشعراء: 123-127). نسب هود: أرسل الله هوداً عليه السلام في قبيلة من القبائل العربية البائدة، المتفرعة من أولاد سام بن نوح عليه السلام، وهي قبيلة عاد، وسميت بذلك نسبةً إلى أحد أجدادها، وهو: عاد بن عوص بن إرم بن سام· وهو عليه السلام من هذه القبيلة ويتصل نسبه بعاد· ويرجح النسابون أن نسبه كما يلي: فهو: هود (عليه السلام) بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد - جدّ هذه القبيلة - ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح (عليه السلام)· والله أعلم· مساكن عاد: كانت مساكن عاد في أرض االأحقافب، من جنوب شبه الجزيرة العربية· والأحقاف تقع في شمال حضرموت، ويقع في شمال الأحقاف الربع الخالي، وفي شرقها عُمان· وموضع بلادهم اليوم رمال قاحلة، لا أنيس فيها ولا ديار· قال الله تعالى: ''وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ'' (الأحقاف: 21). حياة هود مع قومه في فقرات: لقد فصل القرآن الكريم قصة سيدنا هود عليه السلام مع قومه عاد في نحو عشر سور، وأبرز ما فيها النقاط التالية: - 1 - إثبات نبوته ورسالته إلى عاد· - 2 - ذكر أن عاداً كانوا خلفاء في الأرض من بعد قوم نوح· - 3 - ذكر أن هؤلاء القوم كانوا: (أ) أقوياء أشداء، ممن زادهم الله بسطة في الخلق· (ب) مترفين في الحياة الدنيا، قد أمدهم الله بأنعام وبنين، وجنات وعيون، وألهمهم أن يتخذوا مصانع لجمع المياه فيها، وقصوراً فخمة شامخة، إلى غير ذلك من مظاهر النعمة والترف· (ج) يبنون على الروابي والمرتفعات مباني شامخة، ليس لهم فيها مصلحة تقصد إلاَّ أن تكون آيةً يتباهون بها، تُظهر قوتهم وبأسهم في الأرض· (د) أهل بطش، فإذا بطشوا بطشوا جبارين· (ه) أصحاب آلهةٍ من الأوثان، يعبدونها من دون الله· (و) ينكرون الدار الآخرة ويقولون: ''إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ'' (المؤمنون: 37)· - 4 - ذكر أن هوداً عليه السلام دعاهم إلى الله بمثل دعوة الرسل، وأمرهم بالتقوى، وأنذرهم عقاب الله وعذابه، فكذبوه واستهزؤوا بدعوته، وأصروا على العناد، واتبعوا أمر كل جبار عنيد منهم، ولم يؤمن معه إلاَّ قليل منهم، فاستنصر بالله، فقال الله له: ''قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ'' (المؤمنون: 40)، فأرسل الله عليهم الريح العقيم، ريحاً صرصراً عاتية، سخرها عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيامٍ حسومٍ نحسات، تدمر كلّ شيء بأمر ربها، فما تذر من شيء أتت عليه إلاَّ جعلته كالرميم· فأهلكتهم، وأنجى الله برحمته هوداً والذين آمنوا معه، وتم بذلك أمر الله وقضاؤه·